نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
نساء تحدث عنهن القرآن

بقلم : فضيلة الإمام الأكبر د‏.‏ محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر الشريف
السيدة صفية هي ابنة حيي بن أخطب‏..‏ زعيم يهود بني النضير‏,‏ وأمها تسمي برة بنت السموءل من بني قريظة‏.‏كانت ولادة السيدة صفية رضي الله عنها ـ بعد بعثة الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ بثلاث سنين تقريبا‏,‏ ونشأت بين قومها من يهود بني النضير الذين يتزعمهم أبوها‏.‏

عندما هاجر النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلي المدينة المنورة بأمر ربه ـ عز وجل ـ ونزل بمحلة قباء وتسامع أهل المدينة بقدومه‏,‏ ووفدوا اليه مرحبين‏..‏ كان من بين الوافدين اليه أبوها حيي وعمها أبوياسر‏,‏ وتقص السيدة صفية ما دار بين أبيها وعمها من حديث بعد رؤيتهما للنبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ فتقول‏:‏ كنت أحب أولاد ابي اليه وإلي عمي أبي ياسر‏..‏ فلما قدم رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ إلي المدينة‏,‏ ونزل بقباء في منزل عمرو بن النجار‏,‏ وغدا عليه أبي وعمي مغلسين ـ أي‏:‏ مبكرين قبل غروب الشمس ـ فلم يرجعا حتي كان غروب الشمس‏,‏ فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهويني‏.‏

فتقول‏:‏ فهششت اليهما كما كنت اصنع‏,‏ فو الله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم‏.‏ وسمعت عمي ابا ياسر وهو يقول لأبي‏:‏ أهو هو؟ ـ أي‏:‏ أهذا هو النبي الذي بشرت به التوراة ـ ؟ فقال له أبي نعم‏,‏ هو هو والله‏.‏

فقال له عمي‏:‏ أتعرفه وتثبته؟ فقال له أبي‏:‏ نعم‏.‏ فقال له عمي‏:‏ فماذا في نفسك منه؟ فقال له أبي‏:‏ عداوته والله ما بقيت‏.‏ شاهدت السيدة صفية الأحداث والمصائب التي نزلت بقومها من بني إسرائيل‏,‏ بسبب حربهم للرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ شاهدت في مطلع عمرها جلاء بني قينقاع‏,‏ ثم جلاء عشيرتها من بني النضير‏,‏ ثم ما نزل ببني قريظة من عقوبات عادلة بسبب نقضهم لعهودهم‏.‏ وشاهدت كيف ان أباها حيي بن أخطب كيف قاد اليهود في حربهم للنبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ ولأصحابه‏,‏ وكيف انه ذهب إلي مشركي قريش وإلي غيرهم ليحرضهم علي محاربة المسلمين‏,‏ وكيف أن عاقبته كانت القتل بسبب اصراره علي عداوة المسلمين إلي آخر لحظة من حياته‏,‏ وكان مقتله في أعقاب غزوة بني قريظة‏..‏ وتزوجت السيدة صفية وهي دون الخامسة عشرة من عمرها بواحد من زعماء قومها وهو سلام بن مشكم القرظي ثم انفصل عنها‏,‏ فتزوجت بزعيم آخر من زعماء قومها هو كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق النضري‏,‏ وقد قتل في غزوة خيبر‏.‏

وغزوة خيبر كانت في شهر المحرم من السنة السابعة للهجرة‏,‏ وفيها تم النصر للمسلمين بقيادة النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي يهود خيبر بعد معارك شديدة‏,‏ وبلغ عدد الذين استشهدوا فيها من المسلمين خمسة عشر شهيدا‏,‏ بينما قتل من يهود خيبر أكثر من تسعين قتيلا‏.‏

وكان من بين السبايا من نساء اليهود السيدة صفية ومعها ابنة عم لها‏,‏ وقد سار بهما بلال ـ رضي الله عنه ـ فمر بها علي بعض القتلي من يهود خيبر‏,‏ ومن أقارب صفية وابنة عمها‏.‏ استطاعت السيدة صفية أن تكتم حزنها وآلامها‏,‏ أما ابنة عمها فقد رفعت صوتها بالعويل والنحيب‏..‏ جيء بها إلي الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهما علي تلك الحال من الحزن‏,‏ فقال ـ صلي الله عليه وسلم ـ لبلال معاتبا‏:‏ يا بلال أنزعت من قلبك الرحمة‏,‏ حين تمر بامرأتين علي قتلي رجالهما؟‏!!‏

قال ـ صلي الله عليه وسلم ـ للسيدة صفية‏:‏ اختاري‏,‏ فإن اخترت الإسلام اخترتك لنفسي‏,‏ وإن اخترت اليهودية فعسي ان اعتقك فتلحقي بأهلك‏.‏

قالت‏:‏ يا رسول الله‏,‏ لقد اخترت الإسلام‏,‏ وآمنت بك قبل أن تدعوني‏,‏ حيث صرت إلي رحلك‏,‏ وما لي في اليهودية من مأرب‏,‏ ولقد خيرتني الكفر والإسلام‏,‏ فالله ورسوله أحب إلي من العتق‏,‏ وأن أرجع إلي قومي‏,‏ فأمسكها رسول الله صلي الله عليه وسلم لنفسه‏.‏

بعد ان انتهت عدتها‏,‏ تزوجها رسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ ودخل بها صلي الله عليه وسلم في مكان يقال له الصهباء وهو في طريقه من خيبر إلي المدينة المنورة‏.‏

عاشت السيدة صفية ـ رضي الله عنها ـ في بيت النبوة‏,‏ وازدادت ايمانا علي ايمانها‏,‏ واخلاصا علي اخلاصها‏,‏ وكانت تحسن صناعة الأطعمة التي يحبها النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ‏.‏

تقول السيدة عائشة ـ رضي الله عنها‏:‏ ما رأيت صانعة طعام مثل صفية‏,‏ صنعت لرسول الله ـ صلي الله عليه وسلم ـ طعاما وهو في بيتي‏,‏ ارتعدت من شدة الغيرة‏,‏ فكسرت الاناء‏,‏ ثم ندمت فقلت يا رسول الله‏:‏ ما كفارة ما صنعت؟ قال ـ صلي الله عليه وسلم‏:‏ كفارة ذلك‏:‏ إناء مثل الاناء‏,‏ وطعام مثل الطعام‏.‏ كانت ـ رضي الله عنها ـ رقيقة العاطفة‏,‏ تتألم عندما تشعر بالتعريض بها‏,‏ سمعت مرة من تتباهي عليها وتنسبها إلي اليهودية‏,‏ فذهبت إلي النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهي تبكي‏,‏ وشكت اليه ما سمعت‏,‏ فقال لها ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي سبيل التسلية لها والترويح عنها‏:‏ هلا قلت لمن يفتخر عليك‏:‏ زوجي محمد‏,‏ وأبي هارون‏,‏ وعمي موسي؟‏.‏ نزل كلام النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ علي قلبها بردا وسلاما‏.‏ كانت رضي الله عنها تمتاز بالحلم والأناه والسماحة‏,‏ ومن الأدلة علي ذلك أن جارية لها قالت لعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يا أمير المؤمنين إن سيدتي صفية تحب يوم السبت‏,‏ وتصل رحمها من اليهود‏.‏
فبعث عمر ـ رضي الله عنه ـ إلي السيدة صفية يسألها عن ذلك فقالت‏:‏ أما السبت فإني لا أحبه منذ أن ابدلني الله به يوم الجمعة‏.‏ أما اليهود فإن لي فيهم رحما فأنا أصلها‏.‏
ثم قالت لجاريتها‏:‏ ما الذي حملك علي أن تقولي ذلك لأمير المؤمنين؟ فقالت الجارية الشيطان هو الذي حملني علي ذلك فكان رد أم المؤمنين صفية علي جاريتها‏:‏ اذهبي فأنت حرة لوجه الله‏.‏
عاشت السيدة صفية ـ رضي الله عنها ـ وفية لدينها‏,‏ مؤدية لحقوق خالقها ـ عز وجل ـ إلي أن توفيت سنة خمسين أو اثنتين وخمسين من الهجرة‏,‏ وقد جاوزت الستين من عمرها‏,‏ ودفنت مع أمهات المؤمين بالبقيع ـ رضي الله عنهن جميعا‏.‏

جريدة الأهرام    28/04/2005