جلست أتفكر وأتذكر بعض المواقف الطريفة في حياتي مع أبنائي، وتذكرت حين قال لي يوماً ولدي الأصغر- وهو الآن على وشك التخرج من الجامعة- حين كنت أعاتبه على إلحاحه الشديد عندما يرغب في شراء لعبة أو الحصول على شيء، فقال لي بالحرف الواحد «أنا فيَّ مرض اسمه «مشتهي» فكلما اشتهيت شيئاً أحسست أنني لابد أن أحصل عليه، وعندما أحصل عليه تتبخر كل الشهوة والرغبة ويصبح عادياً جداً، فأشتهي شيئاً آخر. » دفعتني هذه الذكرى إلى ذكرى أخرى فقد كنت اقرأ منذ زمن عن «فينيسيا» ورومانسيتها وجمالها إلى أن تملكتني رغبة شديدة لرؤيتها، وفي أول يوم وضعت قدمي بها انبهرت كثيراً بحضارتها وجمالها وروعة الطعام الإيطالي، وآثارها ومبانيها القديمة، وقنواتها ومواصلاتها التقليدية (الجندولا) وموسيقاها الكلاسيكية، كان كل شيء فيها مبهرا وجميلا، ثم جاء اليوم الثاني وبدأت ألاحظ الشقوق والتآكل في المباني والأرصفة ثم تأففت من الحر ومن الغبار الذي يلف كل معلم من معالمها، وفي نهاية الأسبوع كنت قد امتلأت من الأكل الإيطالي المتكرر وبعد مرور أكثر من أسبوع مللت المدينة ومبانيها المندثرة التي لم الحظها في الأيام الأولى، وانتهى الانبهار نهائياً عندما بدأت أشم الروائح الكريهة المنبعثة من القمامة التي تملأ القنوات المائية للمدينة، وسوء خلق الناس مع السائحين. للقراء سؤالي: كم من مرة بدأت رحلة إلى مكان ما سمعت عنه، أو رغبت في شراء شيء رغبة شديدة، ثم عندما حصلت عليه أو انتهت رحلتك إليه وجدت إنك تحمل له شعوراً بعدياً مختلفاً عن شعورك القبلي؟ ففينيسيا عندما غادرنها هي نفسها التي انبهرت بها أول يوم حضرت فيه إليها لم تتغير، ولكن ما تغير هو رؤيتي لها، ولو رغبت النظر إليها بعين فاحصة أخرى لوجدت كثيراً من الجمال، وبدلاً من أن أركز على القبح في بعض مرافقها كان يجب أن أركز على الأشياء الجميلة الأخرى. في كثير من الأحيان عندما نألف الأشياء أو التجارب نفقد اهتمامنا السابق لها، ولا نحتفظ بالتجربة الرومانسية الأولى في علاقتنا مع الأشياء، لكن عندما نحاول أن ننظر إلى الأشياء بعين جديدة ومن زاوية جديدة ماذا سنرى؟ هل سنرى خيبة الأمل مما رغبنا فيه واشتريناه أو عملناه؟ أم التحدي الذي يحتاجه فهم هذا الشيء أو العمل؟ هل ستمضي يومك منهمكاً في عمل كارهاً له ولمن يشاركك إياه، أم ستنظر لهم وله بعين جديدة وتحاول أن تطور منه وتجدد؟ هل ستتأفف ممن تحبهم ويشاركونك حياتك عندما يبدر منهم ما يضايقك أم ستتحملهم وتصبر على أذاهم ونقائصهم من غير أن تحاول تغييرهم؟ السؤال: هل ستحاول أن تغير من نفسك أم تغير الناس؟ عندما تعيش يومك وكأنه اليوم الأول لك في العمل أو الزواج أو ولادة أول ابن أو التعرف على الصديق ستجد أن عصاً سحرية لامست حياتك، وستحصل على حياة جديدة في كل يوم جديد، وستقدر الحياة أكثر، وسترضى عنها أكثر، ستحترم شركاءك في البيت وفي العمل لأنك تحاول أن تراهم كما رأيتهم في بداية علاقتك بهم. من العادي أن تمل حياتك اليومية لو تكررت على نفس الوتيرة’, فقد لا تحس جمال الأشياء ولا أهميتها، وسيكون إحساسك أنه لم يبق لك شيء تعمله فقد عملت كل ما هو مطلوب منك. هذه أفكار غير منطقية ومن الممكن استبدالها وتغييرها.والمفتاح للتغيير أن نعيد اكتشاف أنفسنا والحياة من حولنا، وننظر لكل يوم جديد بطريقة جديدة، وإذا ما تغيرت نظرتنا للأشياء سنجد ان الأشياء نفسها تتغير، فنجد الجمال في الأشياء التي أصبحت عادية من حولنا. فالمقعد أو الكرسي الذي اشتريناه منذ مدة وكرهنا وجوده الآن قد ننظر إليه ونتذكر فرحتنا به وجماله حين أحضرناه لأول مرة، فنعيد اكتشاف جماله بأن نغير موقعه ونلبسه شيئاً جديداً فيعود له رونقه وبريقه. سنجد الأناقة في الأشياء البسيطة، سنجد الحكمة عند بعض الأصدقاء سنجد أشياء كثيرة فقط لو نظرنا بعين أخرى جديدة مختلفة. فالحياة مليئة بالجوانب التي لم نرها، وكذلك الناس لهم جوانب عديدة لم نجربها، والأوطان والمدن فيها من الجمال أكثر مما فيها من القبح. والإنسان يمتلك قوة التغيير للأشياء اليومية بالنفسية التي ينظر بها للأشياء (كن جميلا ترى الوجود جميلا ) والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً نستطيع أن نعيد اكتشاف العالم الذي عشنا فيه زمناً ونرى فيه وبوضوح أشياء جديدة لم نفطن لوجودها في السابق. بقلم الداعية/ خوله العتيقي.