مصنف أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت (( لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب «بنت رسول الله عليه السلام» في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقِلادةٍ لها كانت عند خديجة ، أدخلتها بها على أبي العاص.
قالت : فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة ، وقال : « إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها ؟» فقالوا: نعم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليه أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار ، فقال : كونا ببطن يأجج(1) حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها « قال ابن إسحاق: وذلك بعد بدر بشهر
قال عبد الله بن أبي بكر : حدثت عن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت : لما قدم أبو العاص مكة قال لي : تجهزي، فالحقي بأبيك ، قالت : فخرجت أتجهز فلقيتني هند بنت عتبة فقالت : يا بنت محمد ، ألم يبلغني أنك تريدين اللحاق بأبيك ؟ فقلت لها : ما أردت ذلك ، فقالت: أي بنت عم ، لا تفعلي إني امرأة موسرة ، وعندي سلع من حاجتك ، فإن أردت سلعة بعتكها ، أو قرضاً من نفقة أقرضتك ، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال ، قالت : فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل ، فخفتها فكتمتها وقلت: ما أريد ذلك ، فلما فرغت زينب من جهازها ارتحلت ، وخرج بها حموها يقود بها نهاراً كنانة بن الربيع ، وتسامع بذلك أهل مكة ، وخرج في طلبها هبار بن الأسود، ونافع بن عبد القيس الفهري ، وكان أول من سبق إليها هبار، فروّعها بالرمح وهي في هودجها ، وبرك كنانة ونثر نبله ثم أخذ قوسه وقال : والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهماً ، وأقبل أبو سفيان في أشراف قريش، فقال: أمسك عنا بنبلك حتى نكلمك، فوقف عليه أبو سفيان، وقال: إنك لم تصنع شيئاً، خرجت بالمرأة على رؤوس الناس، وقد عَرفْتَ مصيبتنا التي أصابتنا ببدر، فتظن العرب وتتحدث أن هذا وهن منا وضعف، خروجك إليه بابنته على رؤوس الناس من بين أظهرنا، ارجع بالمرأة فأقم أياماً ثم سُلّها (2) سلاً رقيقاً في الليل، فألحقها بأبيها، فلعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثؤرة(3) فيما أصاب منا، ففعل، فلما مر به يومان أو ثلاثة سلها، فانطلقت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنها قد كانت ألقت ـ للروعة التي أصابتها حين روعها هبار بن الأسود - ما في بطنها))(4).
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح الله تعالى عليه في بدر، والملائكة تشهد المعركة بجانبه، وابنتاه إحداهما رهينة في مكة بيد العدو والثانية رهينة المرض الشديد في المدينة وهي رقية رضي الله عنها، وبشائر النصر في بدر وصلت إلى المدينة، والمسلمون يهيلون التراب على قبرها، فلم يقعده المرض الشديد للثانية، ولا الإقامة في أرض العدو للأولى عن أداء مهمته في حرب العدو ومواجهته، ولم يثنه عن رسالته خوفه على ابنته في مكة أن يخوض حرباً طاحنة ضد قريش ، وهو درس للدعاة والمجاهدين ألا يثنيهم خوف عن أداء رسالتهم أو جزع على أولادهم عن متابعة جهادهم، فكل شيء يهون في سبيل الله ، وكل شيء في جنب الله قليل ، والأصوات التي ترتفع أحياناً وتدعو لوقف الجهاد مع الطاغوت ، لأن بناتنا رهائن بين يديه، ونساءنا وأعراضنا- هي أصوات صادقة، لكنها مخطئة بدون شك، فالحرب لابد لها من خسائر في الأموال والأرواح والأولاد، لقد كان المسلمون يخوضون المعارك، واحتمال الهزيمة قائم، وفي الهزيمة حسب قانون الحرب في تلك العهود يكون نساء المسلمين سبايا بيد العدو ، ولم يُقعدْ ذلك الأمرُ المسلمين عن الجهاد، أو يبررْ لهم التخاذل والنكوص على الأدبار، والاستسلام للعدو الكافر، لكننا ننظر للموضوع من ناحية ثانية ونعجب، نعجب لقيم الجاهلية في تلك الأيام وقيمها اليوم.!!!
بنت محمد صلى الله عليه وسلم الذي ذبح سبعين من قادة مكة وأسر سبعين من أشرافها بين يدي طواغيت مكة، وحسب فهمنا اليوم، لابد أن يُنتقمَ منها، وتقطع إرباً إرباً، وتؤخذ إلى كل بيت فيه قتيل، يأخذون ثأرهم منها، بل ليس بنت محمد فقط، لكن كل من يمت إلى محمد من بني هاشم رجالاً ونسوة.
زينب بنت محمد يخرج بها حموها الكافر على عيون الأشهاد، والأحقاد والدماء والثارات في كل بيت، فيتعرض لها سفيه من سفهاء مكة، لعله وُتِرَ بأخيه أو ابنه أو قريبة، ويروعها في هودجها، فينثر الحمو الكافر كنانته ويستعد لمجزرة جديدة في مكة، يقتل بعدها حفاظاً على بنت محمد وهو على غير دينها، وأخوه كان في الجيش الذي مضى لحرب محمد صلى الله عليه وسلم.
ولا نستغرب هذه الصورة ، فقد يحوي مجتمعنا مثل هذه الشهامة والمروءة عند بعض الجاهليين فيه . لكن الأغرب والأعجب هو صنيع أبي سفيان زعيم مكة ، وزوجه هند بنت عتبة، أما هند ، فهي التي كانت تضاهي العرب بمصيبتها في بدر ، في سوق عكاظ وترد على الخنساء فلقد قتل أبوها وأخوها وعمها وابنها البكر في بدر ، وهي التي بلغ الحقد عندها مبلغاً لم نسمعه عن امرأة في التاريخ حين لاكت كبد حمزة (رضي الله عنه) بعد مقتله ، وهو الذي قتل لها أركانها الأربعة ، واتخذت من أذنيه وأنفه أقراطاً لها ، وأعطت أقراطها وذهبها وجواهرها لمن ثأر لها منه ، هند هذه تأتي إلى زينب بنت محمد التي تريد أن تذهب إلى أبيها محمد صلى الله عليه وسلم، تأتي إليها فتخاطبها : يا بنت عم، لا تفعلي (أي لا تخافي وتكتمي عليّ سفرك) إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك ، فإن أردت سلعة بعتكها ، أو قرضاً من نفقة أقرضتك فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال؟! إنها قيم من قيم الجاهلية ، لا يدخل بين النساء ما بين الرجال ، ولا تنسى واجبها نحو ابنة عمها نحو ابنة أعدى أعدائها ، فتعرض عليها المعونة، وبشهادة زينب رضي الله عنها، فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، أيُّ امرأة هذه؟ وأيُّ قيم هذه؟ حين نقارن هذه الصور بجاهلياتنا اليوم، بل دعونا نقول أكثر ، بمسلماتنا اليوم، هل تستطيع مسلمة داعية اليوم أن تصنع صنيع هند؟ فلقد قتل نسيب إحدى الداعيات في عملية من العمليات ضد الطغاة ، فكادت أن تفقد وعيها عن متابعة العمل الجهادي ، لهول الصدمة ، وهند الموتورة الثائرة بأركانها الأربعة تعرض لبنت محمد صلى الله عليه وسلم المال والمعونة ...!
وتوجت موقفها هذا بأن نظرت إلى هبار بن الأسود ومن معه اللذين تعرضا لبنت محمد عندما أرادت الخروج وروعاها بالرمح ، نظرت إليهما نظرة احتقار، واكتفت أن تقول لهما:
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة *** وفي الحرب أشباه النساء العوارك (5)
ولم يكن صنع أبي سفيان قائد مكة بأقل عجباً من تصرف زوجه، فعلى مسؤوليته مع أشراف مكة يعالج الوضع ، ويرضي خاطر بنت محمد ، ويحذر حماها سفاهة النساء والموتورين.، ويبين له ألا يأخذ خروج بنت محمد طابع التحدي لمكة الموتورة والمقهورة، ويحثه على الخروج بها ليلاً ، فلن يكون الثأر من بنت محمد.
نتحدث عن هذه الجاهلية وقيمها : في الوقت الذي نرى فيه جاهلية اليوم تفعل بالآمنين العزل ما يشيب له الولدان، فقد حبس زوج وزوجة أربع سنين رهينة عن صهرهما، ولاقيا أنواع التعذيب والتنكيل؛ لأن صهرهما يقاوم الطغاة، وها هن أولاء عشرات النسوة يُقِمْنَ في الزنزانات السنين الطوال، ويمكثن عشر سنين أو عشرين سنة. حين ينظر إليهن من بين المعتقلين ولا كرامة لامرأة أو شيخ أو طفل..! إن وحوش الغابة عندها قيم أكثر من قيم طغاة اليوم (إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(6) (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ)(7) وقد نزلت هذه الآيات فيمن يملكون ما ذكرنا من هذه القيم ... فمن هؤلاء اليوم الذين فقدوا كل قيم السماء والأرض والدواب والوحوش ، وهو يتعاملون مع الدعاة إلى الله ؟؟ من هؤلاء ؟؟؟
بقلم/ د.منير الغضبان
الهوامش :
(1) بطن يأجج : موضع بمكة .
(2) سلها : انطلق بها في استخفاء .
(3) ثؤرة : ثأر منها .
(4) تفسير القرطبي /4/8/54
(5) السيرة النبوية لابن هشام /2/302(الأعيار : الحمير )، (العوارك : الحيض) .
(6) الأنفال / 55
(7) الأعراف / 179
المرجع : مجلة المنار ، العدد72 ، رجب 1424هـ.