لقد كان هذا الحب يبدو واضحاً جلياً في كثير من المواقف في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تنطلق بالوفاء ومنها: الأول: في صحيح مسلم عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح الشاة قال: " أرسلوها إلى أصدقاء خديجة"، فذكرت له يوماً فقال: " إني لأحب حبيبها". الثاني: روت عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندي، فقال لها رسول الله: " من أنت "؟ قالت: أنا جثامة المزنية.
فقال: بل أنت حسانة المزنية، كيف أنتم، كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير، بأبي أنت وأمي يا رسول الله. فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال؟ قال: " إنها كانت تأتينا زمن خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان".
إن هذين الموقفين يرشداننا إلى أهمية خلق الوفاء في العلاقة الزوجية وأهميته كذلك في العلاقات الاجتماعية، وقد علمنا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم كيف نكون أوفياء مع زوجاتنا وفي علاقاتنا، فالوفاء إنما سُمي بالوفاء، لما فيه من بلوغ تمام الكمال، وقد أمر الله تعالى به فقال ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) [ الإسراء: 34 ]، كما وصف ربنا تبارك وتعالى إبراهيم عليه السلام بهذا الخلق في سورة النجم الآية 37 فقال: ( وإبراهيم الذي وفى) فهو إذن خلق الأنبياء في الصدق في الكلام والصدق في المشاعر والصدق في الأفعال، ولهذا قال الشاعر عن الأوفياء:
إذا قلت في شيء "نعم" فأتمه فإن "نعم" دين على الحر واجب وإلا فقل " لا" تسترح وتُرح بها لئلا يقول الـناس إنـك كاذب
فالوفاء بين الزوجين من دعائم استقرار البيوت وسعادتها، ويتحقق الوفاء في حال حياة الزوجين وحتى بعد وفاة أحدهما، ولكن في زماننا يعتبر الوفاء عملة نادرة في العلاقات الإنسانية.
مظاهر الحب والوفاء لقد أعجبني ما ذكره أبو مريم في الوفاء الزوجي وعلاماته في كتابه " حق المرأة على زوجها"، وقد ذكر فيه سبع علامات تدل على وفاء الزوج لزوجته وهي:
1- دفع ما يوجه للزوجة من نقد يرى الزوج أنه لا مبرر للسكوت عليه، والتماس المعاذير ما أمكن، وهذا الدفاع يعظم قدره إذا كان في غيبتها، ومن أمثلة ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم دفاعه عن زوجته السيدة صفية رضي الله عنها. 2- عدم تطليق الزوجة بغير سبب معقول، ككبر سنها، أو مرضها، أو فقرها، أو تغير مركزه الاجتماعي، فليس من الوفاء أن تقطف زهرتها، ثم تتركها، وفي معني الطلاق تغير معاملته لها على خلاف عادته السابقة معها. 3- امتداد الحب، أو التقدير للزوجة إلى ما بعد موتها. 4- إكرام صديقات الزوجة. 5- صلة رحم الزوجة وإكرام أقاربها. 6- الثناء على الزوجة والدعاء والاستغفار لها. 7- إنفاذ وصيتها بعد وفاتها.
ولا شك في أن ما ذكرنا من وفاء الزوج لزوجته ينطبق كذلك على وفاء الزوجة لزوجها، بالإضافة إلى حفظ أسرار كل واحد منهما للآخر وحسن تربية الأبناء، وحفظ ممتلكات الآخر أثناء وجوده وعند غيابه، كل ذلك من الوفاء الزوجي.
فمن هدي الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم نتعلم وسائل الوفاء الزوجي وكذلك الوفاء الوالدي، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنه أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: " نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية"؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء" فهذه علامة من علامات الوفاء الوالدي بعد وفاتهما.. وأما علامات الوفاء الزوجي فأحببت أن أؤكد على علامتين أرى أنهما في هذا الزمان الذي نعيش فيه مهمتان للغاية، وهما:
1- امتداد الحب والتعبير عنه بين الطرفين. 2- عدم التطليق من الرجل وعدم طلب الطلاق من المرأة من غير سبب.
فأما العلامة الأولى فقد أضعفها اليوم ما انتشر من مفاهيم للحب المزيف والحب الكاذب والحب المؤقت والحب الهاتفي والحب عبر الإنترنت، وكل هذا يخدش الحب الصادق بين الزوجين، وأما العلامة الثانية فكلنا يرى كم هي نسب الطلاق في مجتمعاتنا وارتفاعها بدرجة عالية، وكأن العلاقة الزوجية أصبحت اليوم لا أهمية لها.
هل من الوفاء.. عدم الزواج بعد الوفاة؟ إنه سؤال خطير ومهم.. وهنالك مفهوم شائع بين الناس بأن الزوجة إذا توفيت ولم يتزوج زوجها بعدها فإن هذا من الوفاء، وكذلك الأمر بالنسبة للزوجة بأن لا تتزوج بعد زوجها وفاءً له. وهذا ما سوف نتناوله في الحلقة الرابعة عن حقيقة الوفاء في العدد القادم بإذن الله.
في معاني الوفاء الوفاء معناه التمسك بالعهد, والثبات على الميثاق, والعمل بالواجب الإنساني والإسلامي تجاه الآخر, والوفاء من الأخلاق الكريمة، وصفة للنفوس الشريفة، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " ولا دين لمن لا عهد له" رواه أحمد ومن فقد الوفاء فقد تجرد من إنسانيته.
فهيا بنا نتعلم من سيد الأوفياء- صلى الله عليه وسلم- الذي كان وفياً حتى مع الكفار والمشركين حين عفا عنهم بعد فتح مكة رغم كل ما لاقاه على أيديهم قبل الهجرة وبعدها، لنبدأ الآن برد الجميل فعليا لكل من ساهم في تدعيم موقفنا في رحلة الحياة.
ولنستشعر الوفاء لله ورسوله ثم والدينا ثم الأقرب فالأقرب إلى أن يصل الوفاء إلى البيئة التي نعيش فيها لنحصد أجر الأوفياء في الدنيا والآخرة.