المهندس الدكتور رضا بشير، أحد أساتذة الاتصالات الكهربائية المرموقين في جامعات كندا، وأحد خبراء التربية الإسلامية الذين أثمرت جهودهم العلمية والعملية لأكثر من ربع قرن، تقلد فيها العديد من المناصب الطوعية في المؤسسات الإسلامية، إلى جانب رئاسته قسم التربية الإسلامية الأمريكية لعدة سنوات، ترافقه في هذه الرحلة زوجه الموهوبة أ.د.إكرام بشير أستاذة طب نفس الأطفال، والحاصلة على جائزة أحسن مربية من بين سبعة آلاف مرشح بكندا عام 2000م. ونظراً لتفوقهم العملي في مجال تربية الأولاد الذي اكتسبا فيه شهرة، وحققا نجاحاً باهراً لأولادهم ولدارسيهم.. التقينا أ.د.رضا بشير وحاورناه:
كيف توفرتم على هذه الخبرة التربوية العملية، خاصة ما يتعلق منها بتربية الأبناء في الغرب؟ لعل أهم الأسباب التي دفعتنا للكتابة في هذا الموضوع الحساس، محاولة إيجاد الحلول العملية التطبيقية، النابعة من المبادئ الأساسية للتربية في القرآن الكريم والسنة المطهرة وسير الصالحين، للعمر الحرج "سن المراهقة" وكيفية الحفاظ عليه من الانحراف أو الانجراف في تيارات غير صحيحة متأثرين بطبيعة ثقافة سن المراهقة في المجتمع الغربي، الذي وصل عدد المدمنين للمشروبات الكحولية فيه في هذه السن إلى أكثر من 40% طبقاً لإحصاء 1997م، وبلغ عدد هؤلاء 11 مليوناً من المراهقين، بل إن إحدى الإحصاءات عام 97 قد أذاعت على الناس ما يلي: خلال الأربعة والعشرين ساعة القادمة سيحدث الآتي في الولايات المتحدة الأمريكية: أ سيقوم ما يقرب من 1439 مراهقاً بمحاولة الانتحار. ب ستحمل 2795 فتاة عن طريق الجنس غير المشروع. ج سيقوم 15006 مراهقين باستخدام المخدرات لأول مرة. د سيحاول 3506 مراهقين الهروب من بيوتهم. وتقدر هذه الإحصاءات الوقت الذي يقضيه الآباء مع أبنائهم يومياً بثلاث دقائق... وبالقطع هذه الإحصاءات في اضطراد مستمر، أضف إلى ذلك الضغوط الشديدة التي لا يستهان بها من الأقران والتي تقع على أبنائنا وبناتنا الذين يعيشون في المجتمعات الغربية فكان لابد من إيجاد الحلول العملية لأفضل الطرق للتعامل مع هذه المشكلة العصيبة.
البحث عن الهوية
ولماذا ركزتم على هذه المرحلة من عمر الأبناء بكل هذا الجهد العملي والعلمي؟ هذه المرحلة هي أخطر مرحلة في عمر الإنسان، لما يصحبها من تغيرات عقلية وجسدية واجتماعية وروحية وخلقية، حيث يكون ولاء الناشئ لأقرانه شديداً، مما يجعل ولاءه متأرجحاً في نهاية هذه المرحلة بين ولائه لأسرته وولائه لهؤلاء الأقران.. كما أنها مرحلة تولد وزيادة الرغبة في ممارسة الجنس، بسبب كمية الهرمونات التي تعمل في جسده، وهي مرحلة إعادة اكتشاف الشخص لنفسه والبحث عن هويته الخاصة، في محاولة للحصول على أكبر قدر من الاستقلالية والاعتماد على النفس، وإدراك قيمة ومعنى الحياة وموقعه من هذه الحياة... كل هذا يجعل الناشئ راغباً في أن يكون جزءاً من المجموع، ليكون محبوباً من زملائه غير منبوذ، فيفعل كل شيء، ويبدأ في تقليدهم ومحاكاتهم في كل شيء.. وهنا تكمن الخطورة البالغة على الناشئ المسلم في المجتمعات الغربية.. حيث يقف في هذه النقطة عند مفترق الطرق، بكل ما يحمله من خطورة تستدعي ابتكار خطوط للتفاهم والتواصل بين الآباء والأبناء، وخلق جو بديل من خلال دراسات منهجية متوازنة، للارتفاع بالناشئ من مرحلة العلم عن الإسلام، إلى مرحلة القناعة الوجدانية والعملية التامة به. إلى أي مدى تمثل عملية تحصين الناشئ في الغرب مشكلة أسرية أو تربوية، لا سيما وهو يحيا في مجتمع مفتوح بكل معنى الكلمة؟ هذه مشكلة المشكلات لمن اختار أن يعيش بأسرته في الغرب.. ومن أهم عوامل نجاح هذا النهج التربوي أن يبدأ مبكراً منذ الصغر، حيث يكون الطفل متعلقاً بحب والديه، مهتماً برضائهما إلى حد كبير وفي المرحلة الأولى تتم عملية "الغرس" ثم تأتي التربية والتقويم والتوجيه في المرحلة التالية: إن الغصون إذا لينتها اعتدلت ولا يلين ولو لينته الخشب وفي المرحلة الثانية التي تبدأ من العاشرة تقريباً، حيث تبدأ بذور الشخصية في التبلور، علينا أن نعلم أن إحاطة الناشئ بجو المودة والمحبة والتشجيع والتفاهم، والتوازن.. هذا سيخلق لا شك جواً بديلاً للناشئ، ويقدم له وسائل إشباع وقناعات موازية لهذا الجو المفتوح بكل ما هو فاسد وشاذ ومنحرف.. وهذا التوجيه بحاجة إلى أعلى مستويات الحكمة، والقدوة الحسنة القائمة على العلم والعمل والتوكل على الله عز وجل.. ولا ينفع فيها سياسة الحدب الزائد الذي ينتج تربية قسرية قائمة على الجبر وحشو الذهن بمعلومات ومصطلحات عن الإسلام.. قد لا يكون من ورائها طائل عند أول المحكات العملية والواقعية.. لسلوك الناشئ الذي يواجه هذا المجتمع الضاغط وحده.. اللهم إلا من هذه الحصانة والمناعة التي يجب أن يتلقاها أسرياً بطريقة سليمة وتوازن وسط.. كيفاً لا كماً.. كما قال شوقي: قد ينفع الإصلاح والتهذيب في عهد الصغر والنشء إن أهملته طفلاً تعثر في الكبر نعلم أن وراء هذه الدراسات التربوية والبرامج العملية قصة خاصة بكم.. ليتنا نذكرها؟ في العمل الدعوي.. دائماً يختلط ويمتزج الأمر الخاص بالعام.. ومنذ قدومي وزوجتي الدكتورة إكرام بشير إلى كندا، ونحن منخرطان والحمد لله تعالى في أشرف عمل وهو الدعوة إلى الله تعالى.. ومن خلال عملي بالجمعية الإسلامية الأمريكية بلجنة التربية، كنت أقوم برصد الظواهر التربوية، وتنظيم الدورات التدريبية العديدة من منظور إسلامي.. ومن الطبيعي في هذا الجو أن يكون البيت محضناً تربوياً للأولاد.. والحمد لله تعالى الذي أنعم علينا ببنات صالحات هن "أميرة" و"هدى" و"نهى" و"سمية".. وكانت أولاهن متفوقة عملياً وسلوكياً.. مما حباها بجائزة الطالبة المثالية بمقاطعة "أونتاريون" بكندا.. ثم خطت شقيقتها الثانية على نفس الطريق، وحصلت على التكريم نفسه.. وزاد فضل الله علينا أن خطت الابنة الثالثة الخطوات الموفقة نفسها.. وعندها قال لنا مسؤولو وزارة التربية في كندا: يمكن أن تكون الأولى متفوقة وقويمة السلوك.. ويمكن كذلك أن تكون الثانية.. أما أن تتكرر الظاهرة ثلاث مرات.. فلا شك أنكم تتبعون منهجاً تربوياً معيناً.. فقلنا لهم: نعم.. فطلبوا منا هذا المنهج الذي نتبعه.. وكان هو المنهج التربوي الإسلامي.. الذي لا يعلوه منهج في الأرض، إذا أحسنا استخراج ما لدينا من كنوز، وقدمناها كحلول للفجوات التربوية التي تعاني منها المناهج الغربية.. ثم قدمت وزارة التربية الكندية هذه البرامج كمناهج استرشادية للآباء والمربين وحصلنا بفضل الله تعالى على جائزة "أحسن مربية" من سبعة آلاف مرشح. معاً إلى الحل لعل أهم ما يميز هذه الدراسات والبرامج أنها عملية إلى أبعد حد، وتعتمد طريقة سلوكية واقعية من الحياة الطبيعية للناشئ، ثم تخرج من هذه "اليوميات" بسيناريوهات علمية للتربية الإسلامية المتوازنة؟ يجب أن نعلم جميعاً أن مسؤولية تربية الأبناء في الإسلام مسؤولية مشتركة، تقع على عاتق الوالدين، ولكن للأسف الشديد نجد الأسرة في الوسط الغربي قد غاب أحد طرفيها، أو كلاهما.. ومن ثم يجد الأبناء أنفسهم بين مشرق ومغرب.. فترى الأب مثلاً يقول للأم: الأولاد مسؤوليتك أنت، أو العكس.. أو يلقيان معاً مسؤولية تربية الأولاد على الجهود الخارجية.. لذلك نحن نعمل تحت شعار "معاً إلى الحل"، وعلينا هنا أن ننتبه إلى أن أية برامج تربوية لن تؤتي ثمرتها إلا إذا أدرك الأبوان رؤيتهما الموحدة للعملية التربوية للأبناء.. وأن يتم التفاهم على مسار تربوي واحد للأسرة.. فالأم أجدى تربوياً مع البنات.. والأب أنجح مع الذكور بعد سن معينة.. كما أن هذه البرامج لن تنجح إلا بامتزاجها بحياة الناشئ في سلوك طبيعي في جو الأسرة والمدرسة والمعهد والجامعة والشارع والنادي.. بحيث يتشربها ويتشبع بها دون إفراط أو تفريط.. وتحضرني هنا كلمات خالدات لشهيد الظلام المرحوم "سيد قطب" حيث يقول: "الفرق بعيد جداً.. بين أن نفهم الحقائق، وأن ندرك الحقائق.. إن الأولى: هي العلم، والثانية: هي المعرفة" وأنا أضيف هنا بين قوسين "القناعة". وما الأهداف التي تتغياها هذه البرامج التربوية للناشئ في المجتمعات الغربية؟ نتغيا كل ما تتغياه التربية الإسلامية للناشئ المسلم: أن يكون ذا شخصية قوية واثقة، على معرفة بالله عز وجل، وفهم جيد للحياة ولرسالة المسلم فيها، وعلى معرفة جيدة برسول الله { وحسن الاقتداء به، أسرياً ومجتمعياً، فردياً ودولياً، كما أننا ننشد في الناشئ اعتماده على نفسه وقدرته ومهاراته في التغلب على الشدائد واتخاذ القرارات، والارتفاع بثقته بنفسه وشخصيته إلى البعد عن تضخيم الذات، أو الأنانية، والتربية على معرفة الحكمة من وراء الأوامر والنواهي، والبعد عن السطحية في التفكير، وتلبية غرائز الحب والانتماء.. بعيداً عن المثالية الزائدة الحد، أو "التربية تحت الحماية".. ذلك ليستطيع الناشئ في المجتمعات الغربية أن يحيا فطرته ويحمل مكارم أخلاقه، دون أن يكون معزولاً عن المجتمع..