زوجتي العزيزة... أكتب إليك هذه السطور، والدموع تملأ عيني، والأسى جمر يتقد في أضلعي. قبل عشر سنوات تزوجنا، وكنت أسعد الرجال بك. ولدت لنا ثلاث وردات جميلات كأنهن الأقمار، وبدأنا نتعهدهن بالرعاية والتربية الحسنة، وهاهن يكبرن أمام أعيننا، ويتنقلن في أطوار الحياة المختلفة التي يحتاج كل منها إلى أسلوب خاص في التوجيه والاهتمام. بيد أنني في ثلاث السنوات الأخيرة لم أعد "فارس" الذي تعرفينه، صرت أتغيب عن البيت، وأسهر الساعات الطوال خارجه، وأعود متأخرا لأواجه أسئلتك بإجابات ملتوية واعتذارات فارغة، حاولت عبثا أن أخفي الأمر عنك، وشعرت بالرعب ينتابك عندما أصبحت أطيل المكث في البيت، وصارت الساعات تمر علي وأنا ساهم واجم في غرفة الجلوس لا أحير كلمة، ولا أنبس ببنت شفة. الاحتجاج الصامت كم مرة سألتيني بحرقة: ما بك؟ دعني أسري عنك، فإن مجرد إفضاء المكنون يخفف لوعة المهموم، فأهرب من أسئلتك فرار الصحيح من المجذوم، وأظل أمعن في الهرب كأني مضرب عن الطعام، أو سائر في تظاهرة احتجاج صامتة، وربما واجهت شكوكك الكثيرة باتهامك بالوسوسة وتحويل الحبة إلى قبة. لكن الأمر تجاوز طور "الوسوسة" عندما بدأت تلاحظين تأخري عن عملي، ثم غيابي المتكرر، وأصبحت تناشديني أن أتصل بالمدير، لأخبره بظروفي وأعتذر عن غيابي، فأرد عليك بأن المدير لن يفهم، فتقولين بحرقة الزوجة الصابرة: افعل شيئا يا "فارس"، فلا أملك جوابا سوى "التطنيش". انتقل الأمر إلى طور آخر عندما بدأت أترك الصلاة في المسجد، وأصليها في البيت جملة ونقرا كنقر الغراب. تلك لعمري كانت أم المصائب، والمصائب بعدها جلل! ثم أصبحت مكالماتي "سرية للغاية". وربما هاتفت أحدا في الساعة الثانية صباحا، فخرجت للقائه، وعدت قبيل الصلاة لأنام، وكنت تتساءلين بحرقة الزوجة المؤمنة الوفية: تنام عن صلاة الفجر؟ كيف إذن تعافى وترزق؟ تضاعف همي وكمدي وأنا أسمع بناتي يمطرنك بالأسئلة: "بابا تعبان؟"، "زعلان منا بابا؟"، "ليش ما يروح للدكتور؟". حتى ابنتنا "فاطمة" التي أكملت الآن تسع سنوات، تأثرت بما يجري، وباتت عيناها تنطقان بألم مكبوت، وحيرة مريرة، وأسئلة لا جواب لها. بقايا رجل كنت أراك تصلين طويلا. ربما كنت تسألين الله أن يحفظ هذا البيت الذي لو تعرض للدمار، سيكون "فارسه" هو الذي دمره، هو الذي أضرم فيه النار وأحرقه. زاد الأمر سوءا عندما أصبحت أرمي نفسي في أي زاوية من زوايا البيت. وأستلقي طويلا، وعيناي شاخصتان إلى السقف، أشياء كثيرة تشكل مجتمعة الدليل على أسوأ ظنونك أو "وساوسك". أجل يا نوال، لم أعد فارس الذي تعرفين، أنا بقايا رجل، أثر بعد عين، حطام، صورة باهتة لرجل.. كان "فارس" الذي تعرفينه ترجل، وغاص في القاع. أنا مدمن يا "نوال".. مدمن على الخبائث القديمة والجديدة، مدمن ولا أجد مخرجا، أو ربما أجده ولا أستطيع الوصول إليه، غارق حتى أذني، وربما كان حبل النجاة قريباً، ولكنني لا أستطيع الإمساك به، تائه في صحراء قاحلة، يقتلني الظمأ، والماء من حولي، وتعميني الظلمة، وخيوط النور تشع في الأفق. تحدثت إلي مرارا عن مشكلاتي الوظيفية، وأنت لاتعلمين أنني فصلت من عملي، صدر قرار بفصلي في الأسبوع الماضي، ولم يكن السبب هو غيابي وتأخري فحسب، بل شعور الإدارة بأن وراء الأكمة ماوراءها، وأنني ربما أسلمت قيادي لإدارة أخرى وكّلتها أمري، وأبحتُ جسدي وعقلي لها. لقد حاصرني زملائي بأسئلة مشابهة لأسئلتك، فكنت أفر منها إلى تلك (الكبسولات) التي تعطيني لذة زائفة، وشعوراً مؤقتاً بالاسترخاء. أمواج عاتية أعرف ياحبيبتي أن كلامي هذا لن يسري عنك، ولن يخفف معاناتك، بل يزيدها. ولكن هذا ما كنت تريدين أن تسمعيه، وكنت أريد أن أجنبك ألم معرفته.لقد قلت لي البارحة إن سفينتنا الصغيرة تحاصرها أمواج عاتية، وإن على ربّانها أن يفعل شيئاً، لكن الرّبان يا نوال يغرق. أتذكر أيام استقامتي التي تداعب خيالك، لقد كانت أياماً جميلة ذات نكهة خاصة ومشاعر فريدة، كم أحبها وأحن إليها، لكنني عشت بعدها فترة ابتعدت فيها عن الله، ابتعدت فيها عن القرآن، ابتعدت عن أولئك الأصحاب البررة ذوي الوجوه الوضيئة الذين طالما جلست إليهم نتساقى كؤوسا عذبة من ( زاد المعاد) و(سيرة ابن هشام) و( رياض الصالحين).. ابتعدت عن ذلك الجو, ونقص إيماني كما ينقص وزن أهل (الريجيم)، وتهت ملياً حتى التقمني كمين الإدمان. زوجك...