نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
الهاربات في هولندا.. مغامرة يدفع ثمنها الجميع
الهاربات في هولندا.. مغامرة يدفع ثمنها الجميع
تبدو تربية الأطفال لغالبية المسلمين المقيمين في الغرب مغامرة غير مضمونة العواقب، قد تفضي إلى كوارث اجتماعية ونفسية حقيقية لا يمكن استيعاب آثارها أو تجاوز انعكاساتها على النسيج الأسري الخاص والنسيج الاجتماعي للأقلية المسلمة بشكل عام؛ فالمشكلة بإيجاز شديد هي أن المجتمع الغربي لا يساعد العائلة المسلمة عادة على الوفاء بالتزاماتها والحفاظ على خصوصيتها، بل إنه كثيرًا ما يلعب دور المشجع على التمرد والتفسخ والصراع بين الأجيال.
إن مشكلة التربية لدى المسلمين تبلغ درجة الكارثة عندما يصل الأمر إلى خسارة الآباء للأبناء، وتكون الكارثة عظمى حينما تمس الخسارة البنات؛ فهؤلاء لا يمثلن -كما هو معروف في المجتمعات المسلمة- مجرد أبناء، بل هن رمز للشرف والفضيلة، وضياعهن لا يشكل في نظر الأولياء عصيانا فحسب بل تمريغا لسمعة العائلة ليس بالمقدور إصلاحه، و"كسر لا يُجبر" مثلما يقول المثل العربي.
في هولندا تعاني الأقلية المسلمة التي يناهز عددها المليون من ظاهرة "هروب المراهقات من منازل أسرهن"، والالتجاء إلى مؤسسات اجتماعية هولندية توفر لهن بموجب القوانين السائدة فرصا للعيش بمفردهن، من خلال تمكينهن من سكن خاص، وموارد مالية للوفاء بباقي الالتزامات الاجتماعية، ومساعدتهن لاحقا على إيجاد فرص عمل أو الالتحاق بمدارس إذا كن راغبات في مواصلة تعليمهن.
وقد أصبحت هذه الظاهرة التي استفحلت في السنوات الأخيرة مؤرقة جدا للآباء المسلمين، وللمنظمات الإسلامية أيضا، بالنظر إلى ما تتضمنه من خطورة على أكثر من مستوى؛ فالمراهقات الهاربات من بيوت آبائهن لا ينحصر الخطر في هروبهن على أنفسهن، بل يتجاوزهن إلى مختلف أفراد العائلة، خصوصا الأشقاء والشقيقات الذين يعيشون هاجس الهرب منذ اللحظة التي تغادر فيها الأخت الهاربة، كما يعيش الأبوان الهاجس ذاته، حيث يفقدان الثقة في نفسيهما، سواء تجاه باقي الأبناء أو في مواجهة الخارج.
لماذا يهربن؟
منذ سماح القوانين الهولندية سنة 1986 للمهاجرين المسلمين (غالبيتهم من المغرب وتركيا) بجلب عائلاتهم من الدول الأصلية، والاستقرار بشكل نهائي في هولندا، طفت على السطح الكثير من المشكلات الاجتماعية داخل الأقلية المسلمة، من أكثرها خطورة مشكلة هروب الفتيات المسلمات من بيت الأسرة.
تقول "ربيعة بوحلحول" الباحثة الاجتماعية ومؤلفة كتاب عن صراع الأجيال داخل الأقلية المسلمة: "إن أسباب هروب الفتيات المسلمات متعددة؛ اجتماعية وثقافية ونفسية ومادية وعاطفية، والمسؤولية في هذه المسألة ليست ملقاة على عاتق طرف واحد، بل تتقاسمها العائلة والسلطات والفتيات الهاربات أنفسهن".
وتشير بحلحول -التي تشغل منصبا رفيعا في بلدية روتردام ثاني أكبر المدن الهولندية- إلى أنه "ليست هناك إحصائيات رسمية تبين حجم هروب الفتيات المسلمات، لكن الأمر -بحسب الكثير من المصادر- يشير إلى آلاف الحالات؛ فحالة الهروب عادة ما تُحاط بقدر كبير من السرية والكتمان، سواء من قِبل عائلة الهاربة التي تخاف تعليقات الأقارب والمعارف، أو السلطات التي تخشى ردود أفعال عنيفة قد تطول الهاربة من قبل أقاربها".
وتذكر الباحثة الاجتماعية من أصل مغربي "أن الفتيات الهاربات ينتمين في الغالب للجيل الثاني والثالث، الذي ولد وتربى في هولندا، بينما ينتمي الآباء للجيل الأول من المهاجرين المسلمين، الذين جاءوا إلى هولندا كبارا في السن، بعد أن اكتمل الوعي لديهم، وليس مستغربا في هذه الحالة أن يحدث التصادم بين جيلين مختلفين في التربية والتكوين".
وتبين الأبحاث الاجتماعية التي أجرتها مؤسسات هولندية على حالات كثيرة من الهاربات "أن سبب الهروب قد يكون انعدام التفاهم بين الهاربة وأبويها، نتيجة اختلاف في المفاهيم أو انعدام الحوار من الأساس، أو محاولة الأبوين فرض التزامات اجتماعية وأخلاقية بالقوة، أو التباين في الأولويات؛ حيث يعيش عدد كبير من الآباء على حلم العودة للوطن الأصلي، فيما يعتبر الأبناء هذا الحلم مستحيلا".
الحياة وسط التناقضات
"أحمد أحريكة" الإخصائي الاجتماعي من أصل مغربي، والذي يدير مؤسسة اجتماعية من اختصاصاتها معالجة حالة الهاربات، يقول: "إن أبناء الجيلين الثاني والثالث ينشئون على رؤية قيم متضاربة في البيئات التي يعيشون فيها، ويحتارون في إيجاد تفسيرات مقنعة للتناقضات السائدة بين مفاهيم أسرهم والمفاهيم التي تعرفوا عليها في المدرسة أو الشارع، ولا يستطيعون جميعا الصمود أمام هذه التناقضات والتضاربات، وقد يسقط بعضهم في الفخ، فيقرر معالجة مشاكله بالهروب، خصوصا الفتيات اللاتي يتعرضن في أسرهن لضغوط أكبر بسبب العقلية المحافظة السائدة في أغلب الأسر المسلمة".
ويختلف "أحريكة" في الرأي مع عدد كبير من الإخصائيين الاجتماعيين الذين يلقون باللائمة دائما على الآباء؛ حيث يرى "أن الظروف الاجتماعية والمعيشية السائدة في هولندا قد تلعب عامل المحرض للفتيات على الهرب؛ فالفتاة في سن المراهقة تكون معرضة أكثر من غيرها للإغراء، والسكن الخاص والمنحة المالية المستقلة، والتملص من التزامات الدخول والخروج في أوقات معينة، كلها أشياء توفرها البيئة الهولندية للأسف، وعلى نحو يشجع الفتيات المسلمات المراهقات على مغادرة منازلهن لأسباب تافهة أحيانا".
ولا بد من أن يُذكر في هذا الإطار أن الظروف التي أشار إليها الإخصائي الاجتماعي "أحمد أحريكة" لم تنشأ كما يذهب إلى ذلك بعض الآباء المسلمين المفجوعين بهروب بناتهن لإفساد أخلاق المسلمات، بل نشأت في ظل عوامل خاصة بالتطورات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي شهدتها المجتمعات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وانبنت في مجملها على شعارات تحرير المرأة وتمجيد الفرد، حتى ولو أدى ذلك إلى تحطيم منظومة العلاقات الأسرية، وإعادة بناء المجتمعات على أسس "الفردانية" (Individualism ).
خوفاً على دينها
من جانبه يقول " قاسم الناعس" الذي أسس أول مدرسة ثانوية إسلامية في هولندا سنة 1999: "إن أهم ما يجب التفكير فيه بالنسبة للمسلمين في حالة الفتيات الهاربات هو دينهن، الذي يكون عرضة للخطر بمجرد وجود الفتاة الهاربة بين أيدي الهولنديين، الذين لا ينتظر منهم أحد أن يعملوا على صيانة دين الهاربة، بل إن عددا كبيرا من الفتيات قد اتجهن بعد هروبهن إما إلى عالم الدعارة أو إلى عالم الانحراف بمعناه الواسع".
ويرى الناعس أن على المسلمين في هولندا، وفي الغرب عامة، أن يفكروا بشكل أكثر واقعية؛ فخسارة الفتاة لعائلتها نتيجة مشاكل اجتماعية أو غيرها لا يجب أن يقود بالضرورة إلى خسارة الفتاة لدينها وانتمائها الثقافي والحضاري.
في هذا السياق يدعو "الناعس" وعدد من النشطاء المسلمين في الحقل الاجتماعي إلى "إنشاء دور رعاية وإيواء إسلامية لاحتضان الفتيات المسلمات في حالة فرارهن من عائلاتهن؛ لتوفر لهن الحماية الأخلاقية من جهة، وتمثل بالنسبة لأسرهن بيئة ملائمة تطمئنهم على مصير ابنتهم، وتبقي الأمل لديهن في استعادتها من جديد".
ويقول "الناعس" بهذا الصدد: "إن حالات كثيرة ثبت خلالها أن عملية الهروب لم تكن مدروسة بالنسبة للفتاة الهاربة، وأنها كانت مجرد لحظة ضعف أو طيش، سرعان ما يعقبها شعور بالندم والرغبة في الرجوع، ولهذا فإن وجود دور إيواء إسلامية للفتيات المسلمات الهاربات، سيشكل خط رجعة بالنسبة لهن؛ فهن في هذه الحالة لم يضِعن".
حلول دائمة
وإلى جانب الحل الذي يقترحه "الناعس" يعتقد إخصائيون اجتماعيون مسلمون "أن البحث لإيجاد حلول واقعية، كما هو الشأن بالنسبة لدور الإيواء الإسلامية، لا يجب أن يغني عن التفكير في المشكلة بشكل أكثر عمقا، والبحث عن حلول دائمة يقلص الظاهرة، ويحصرها في أضيق إطار ممكن".
ويشير هؤلاء الإخصائيون إلى ضرورة بعث منظمات إسلامية تعنى بتربية الآباء والأمهات وتثقيفهن؛ فالمستوى التعليمي والثقافي المتدني للآباء المسلمين، كثيرا ما يكون السبب في تفشي الخلافات بينهم وبين الأبناء؛ حيث لا ينتبه الآباء من ذوي المستوى الثقافي المتدني إلى أهمية الحوار مع الأبناء، كما يتمسكون غالبا بصفة الأبوة السلطوية على غرار ما تربوا عليه في مجتمعاتهم الأصلية.
كما ينصح عدد من الخبراء الاجتماعيين المسلمين بضرورة إقامة مجموعات للإصلاح الاجتماعي، تتشكل في إطار المنظمات الإسلامية، من شخصيات تحظى بالتقدير والاحترام، تقوم على المساعدة في معالجة المشاكل العائلية قبل أن تستفحل وتتطور إلى عصيان وهروب، أو حتى المساعدة في الأطوار اللاحقة حين تكون عملية الهروب ما تزال في مرحلتها الأولى.
بالإضافة إلى هذا كله يرى عدد كبير من نشطاء الأقلية المسلمة أن المنظمات الإسلامية يمكن أن تلعب دورا كبيرا في مساعدة الآباء على القيام بوظائفهم التربوية، وذلك من خلال تكثيف أنشطة العناية بأبناء الجيل الثاني، والعمل على استقطابهم في مشاريع وهوايات مفيدة، تساهم في تقليص شعورهم بالتناقض بين قيم الشارع والقيم التي تدعوهم أسرهم لاحترامها.

موقع إسلام أون لاين    27/05/2005