نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
كــي نتجـــنب طـــريق الندامــــــة

فهمي هويدي

ما تمنينا أن يكون انسحاب سوريا من لبنان استجابة لضغوط أمريكية وأوروبية‏,‏ لأن مختلف الشواهد تدل على أن الانصياع لرغبات الدول الكبرى هو الخطوة الأولي على طريق الندامة‏,‏ وأن الذين يبدأون بالانحناء ينتهي بهم الحال إلى الانبطاح‏,‏ إن لم يكن الانتحار‏.‏
ليس دفاعا عن الوجود السوري
ليس عندي أي دفاع عن الوجود السوري في لبنان‏,‏ ولا أجد تبريرا يسوغ الممارسات السورية هناك‏,‏ التي أقر الرئيس بشار الأسد بأنها وقعت في أخطاء أساءت إلى لبنان وسوريا معا‏,‏ وهي الأخطاء التي استخدمت ضد دمشق في نهاية المطاف‏,‏ إذ بها جرى ابتزازها ولي ذراعها‏,‏ الأمر الذي عرضها لما تمنينا ألا نتعرض له‏.‏ فتجرأ عليها الجميع‏,‏ واستقوى عليها كل من هب ودب‏.‏
أجد الإجابة صعبة عن السؤال‏:‏ هل كان يمكن للسوريين أن يخرجوا بغير هذه الطريقة؟  والصعوبة ليست في عدم العثور على الإجابة‏,‏ ولكنها تكمن في أن الإجابة موجودة‏,‏ ولكنها بعيدة المنال ومتعذرة التنفيذ‏,‏ ذلك أنني أزعم أن النظام العربي لو توفر له حد أدني من العافية والصدقية في تمثيل الأمة العربية وإدارة خلافاتها‏,‏ لما وقعت أمور كثيرة‏:‏ من غزو العراق للكويت إلى غزو الأمريكيين للعراق‏,‏ إلى الدعوة إلى تأديب وتهذيب وإصلاح الأمة العربية بأسرها‏,‏ من خلال ما يسمي بالشرق الأوسط الكبير‏,‏ إلى طرد سوريا من لبنان‏..‏ إلخ‏.‏
بسبب انهيار النظام العربي فإن وفود المعارضة اللبنانية لم تخاطب أحدا من العرب حين استحكمت الأزمة‏,‏ ولكنها توجهت إلى موسكو وبروكسل وفرنسا وألمانيا‏,‏ لم تجد تلك الوفود كبيرا في العائلة العربية تحتكم إليه‏,‏ ولم تجد إطارا مؤسسيا عربيا تلجأ إليه‏.‏
وهي ذاتها الخلفية التي شجعت قوي الهيمنة على الاستفراد بسوريا‏,‏ وراحت تملي عليها شروطها وتتفنن في إذلالها‏.‏
أيدني الدكتور أحمد يوسف أستاذ العلوم السياسية ومدير معهد الدراسات العربية فيما ذهبت إليه‏,‏ واسترسل مذكرا بأن النظام العربي هو من وضع أساس حل المشكلة اللبنانية من خلال اتفاق الطائف‏,‏ الذي أصبح مرجعية وافق عليها الجميع‏.‏ وقال: إن اتفاق الطائف كان عنوانا لعافية النظام العربي‏,‏ في حين أن قرار‏1559‏ الذي مررته الولايات المتحدة بالتواطؤ مع فرنسا في مجلس الأمن‏,‏ أصبح أحد عناوين مرحلة انهيار ذلك النظام ؛‏ إذ في الطائف كانت الأمة حاضرة‏,‏ وفي قرار‏1559‏ كان السيناريو الأمريكي هو المفروض على الأمة‏.‏
لئن كان الانسحاب من لبنان هدفا رحب به البعض ودعت إليه المعارضة اللبنانية‏,‏ إلا أن ذلك لا يشبع رغبة واضعي السيناريو؛ إذ الانسحاب هو بداية الانصياع الذي يراد له أن يشمل أشياء أخري بعضها نص عليها قرار مجلس الأمن‏(‏ نزع سلاح حزب الله‏)‏ وبعضها وارد في الأجندة ضمنا‏,‏ والبعض الآخر لا يزال في علم الغيب‏.‏ فهي مطالبة الآن بالمساهمة في تثبيت الهيمنة الأمريكية على العراق‏,‏ وتأييد التسوية السياسية الجائرة للقضية الفلسطينية‏,‏ وإغلاق مقار المقاومة الفلسطينية‏(‏حماس والجهاد أساسا‏)‏ وطرد قادتها من دمشق‏,‏ وقطع علاقاتها مع حزب الله في لبنان‏,‏ وفك الارتباط مع إيران‏.‏ وإذ قطعت دمشق شوطا في الاستجابة لبعض تلك الطلبات‏,‏ إلا أن هناك أمورا أخري مدرجة على القائمة‏,‏ تتعلق بالأوضاع الداخلية السورية‏,‏ كان منها على سبيل المثال إلغاء التدريب العسكري في المدارس‏,‏ وتغيير الزي العسكري للطلاب‏.‏
إن السؤال الكبير الذي يلح على المرء حين يتابع تلك المؤشرات هو‏:‏ ما الذي يبقي من سوريا إن هي استمرت في الامتثال‏,‏ واستجابت لما يطلب منها؟‏!‏
استباحة العالم العربي !
لا مجال للمقارنة بين الضغوط الهائلة التي مارستها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ـ بما في ذلك بعض الدول العربية ـ على دمشق للامتثال لما يطلب منها‏,‏ وبين موقف تلك الدول من انسحاب إسرائيل من الأراضي الفلسطينية التي احتلتها في عام‏67.‏ وهي مقارنة تكرس شعور الواحد منا بالمهانة والخزي‏,‏ من حيث أنها تبين المدى الذي بلغته عملية استباحة العالم العربي والازدراء به‏,‏ كما أنها تبين في الوقت ذاته أن القرار الدولي إذا كان يطالب أي طرف عربي بشيء‏,‏ فإن القرار يكتسب حصانة وقدسية‏.‏ أما إذا كان القرار خاصا بإسرائيل‏,‏ ويطالبها بأي شيء فإنه يغدو مجرد ورقة لا قيمة لها‏,‏ وتستطيع إسرائيل أن تتجاهلها‏,‏ وأن تدوس عليها دون أن يكلفها ذلك شيئا‏.‏ وذلك موقفها التقليدي إزاء مختلف مؤسسات الشرعية الدولية‏,‏ بدءا من قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود عام‏1947,‏ إلى قرار محكمة العدل الدولية في عام‏2004‏ ببطلان إقامة الجدار وكل ما أقيم فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة‏.‏
في ظل انهيار النظام العربي‏,‏ وانعطاف الرئيس الفلسطيني  (الراحل) ياسر عرفات صوب طريق التسوية والانصياع‏,‏ طلب من الرجل أن يعلن على الملأ أن المقاومة إرهاب‏(‏ فيما رددت الأوساط الدبلوماسية أن الخارجية الأمريكية أصرت على تضمين خطابه عبارات محددة وردت نصا‏),‏ فوقف أبو عمار في عام‏1988‏ وردد ما طلب منه أمام اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في جنيف‏.‏ وأعلن نبذ الكفاح المسلح باعتباره إرهابا‏,‏ وهو الذي كان قد تمسك أمام المجلس الوطني الفلسطيني في عام‏63‏ ــ حين كان للنظام العربي حضوره ــ بأن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين‏!.‏
وقتذاك بدا أبو عمار وقد لبي ما أراده الأمريكيون‏,(‏ ومن ورائهم الإسرائيليون بطبيعة الحال‏),‏ إلا أن أحد الصحفيين الأمريكيين تساءل في تعليق له على المشهد‏,‏ لماذا لا يحلق الرجل لحيته ويغير هيأته‏,‏ حتى يبدو مظهره أكثر قبولا لدي العالم المتحضر؟‏(!) ــ وهو التعليق الذي حين قرأه الأستاذ أحمد بهاء الدين رحمه الله‏,‏ سمعته يقول بصوت تملؤه الحسرة‏,‏ إنهم لن يتركوا أبو عمار إلا إذا نزعوا عنه ملابسه قطعة قطعة‏,‏ وتركوه عاريا في نهاية المطاف‏!.‏
هنا فهان الهوان علينا !
ما يحدث في السودان يقدم نموذجا آخر‏,‏ فاضحا وفجا‏,‏ للنتائج والآثار التي ترتبت على السير على درب الانصياع‏.‏ إذ لأسباب يطول شرحها فإن حكومة الخرطوم لم تقو على أن تقول لا‏,‏ في مواجهة الضغوط التي مورست عليها‏,‏ خصوصا من الولايات المتحدة في  صدد التوصل إلى اتفاق لإنهاء ملف الانفصاليين في الجنوب‏,‏ الذين يقودهم جون قرنق‏.‏
وهو الرجل الذي ساندته كل القوي التي لا تكن ودا أو تتمني خيرا للعرب والمسلمين‏,‏ ولا للسودان بوصفه جزءا من تلك الدائرة ــ ماذا كانت النتيجة؟
في كل مكان ذهب إليه‏,‏ وفي كل مناسبة تحدث فيها‏,‏ مابرح جون قرنق يتحدث عن ميلاد سودان جديد منزوع العروبة والإسلام‏ ,‏ بل إنه في خطبة الاحتفال بتوقيع اتفاق السلام في نيروبي لم ينس أن يهاجم التسلط العربي الإسلامي طوال مسيرة الحكم الوطني‏.‏ وقد تحفظت حركته على مشاركة الدول العربية والإسلامية في قوات حفظ السلام بحجة أن بعضها ــ الأردن مثلاــ كانت تعالج معوقي الحرب من الجنود الشماليين‏,‏ بينما لم تعترض على مشاركة الأوغنديين والكينيين‏,‏ رغم أن البلدين كانا يعالجان جنود قرنق ويحتضنان حركته طول الوقت‏.‏
بل إن قرنق يصر على تغيير اسم العملة السودانية‏(‏الدينار‏)‏ واستبدالها بالجنيه‏,‏ بدعوي أن كلمة دينار عربية وإسلامية‏,‏ ومن ثم فهي مسكونة بإشارة لاتناسب السودان الجديد‏,‏ رغم أن ذلك يكلف خزينة الدولة حوالي‏80‏ مليون دولار‏,‏ وهو مبلغ لا يستهان به في بلد أرهقته الحرب وشاع فيه الفقر‏.‏ أكثر من ذلك فإن أحد أركان حركة قرنق احتج على شعار الخرطوم عاصمة للثقافة العربية للعام الحالي‏(2005),‏ وهو التقليد الذي اتبع بصورة دورية مع دول الجامعة العربية منذ سنوات‏,‏ إلا أنه بسبب ذلك الاعتراض جري تغيير الشعار بسرعة‏,‏ ورفعت اللافتات ووزعت ملصقات جديدة في العاصمة‏,‏ تحدثت عن الخرطوم عاصمة للثقافة‏,‏ فقط‏!‏
وإذ يحدث ذلك من جراء حالة عدم الممانعة من جانب حكومة الخرطوم‏,‏ واستجابة للضغوط التي يمارسها جون قرنق المستقوي بالدعم الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة‏,‏ فإن مجلس الأمن يتجه من الناحية العملية إلى فرض الوصاية على السودان‏,‏ بحيث تمثل المجلس لجنة تجعل أي تحرك للطائرات السودانية في دارفور ــ مثلا ــ مشروطا بموافقة تلك اللجنة‏.‏ ليس ذلك فحسب‏,‏ وإنما بلغت الملهاة ذروتها فيما نشر عن أن معهد ألمانيا يتولي هذه الأيام إعداد مسودة الدستور الانتقالي للسودان‏(!!).‏
في وصف المشهد ذكر الكاتب السوداني الطيب مصطفي في مقالة نشرتها له يوم‏28/2 ثلاث صحف بالخرطوم‏:‏لقد هنا فسهل الهوان علينا‏.‏ فبعد أن وعدنا من قبل أمريكا بالمن والسلوى ‏,‏ إن نحن وقعنا على الاتفاق مع قرنق بكل ما فيه من تنازلات‏..‏ ها هي أمريكا تضيق الخناق علينا أكثر‏,‏ وتعدل قانون سلام السودان لتجعله أكثر قسوة‏,‏ وتسخر صنيعتها الأمم المتحدة لتجعل منا أضحوكة بين العالمين‏,‏ ويصبح مندوب كوفي أنان مفوضا ساميا يحكم السودان‏,‏ ويصدر التعليمات الوقحة بأصبعه السبابة‏,‏ دون أن يجد رجلا واحدا يزجره أو يقول له: كفى‏..‏ إن الحكومة مطلوب منها أكثر من غيرها الحفاظ على كرامة الإنسان السوداني‏,‏ التي مرغت في التراب‏,‏ ولا يمكن ولا يجوز لها أن تمضي في مسيرة التنازلات إلى مالا نهاية‏.‏
نماذج جديرة بالاهتمام
‏‏ في المنطقة من حولنا نموذجان للممانعة جديران بالاهتمام هما‏:‏
إيران التي تقاوم بصلابة وعناد الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي  لوقف تخصيب اليورانيوم‏,‏ الذي من خلاله تستكمل مشروعها الذي تواصل بناءه منذ ربع قرن لاستخدام الطاقة النووية في خدمة مشروعاتها التنموية والصناعية‏.‏
‏(‏يقول الايرانيون: إن من شأن ذلك إطلاق وإنعاش‏500‏ صناعة في بلادهم‏).‏ وما برحت تلك الضغوط تزداد شراسة‏,‏ حتى بلغت حد التهديد بإحالة الملف إلى مجلس الأمن‏,‏ الذي صار ألعوبة بيد واشنطن‏,‏ لتقرير العقوبات التي يمكن أن توقع على إيران إذا ما أصرت على المضي في مخططاتها‏.‏ وهو ما يلوح به الآن رغم قبول إيران إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مفاعلاتها وأنشطتها‏,‏ ورغم أن روسيا تقدم المساعدة إلى طهران في بناء مشروعها النووي‏,‏ اطمئنانا إلى أهدافه السلمية‏.‏ وهو ما يحدث بمنتهى الجرأة والبجاحة‏,‏ في ظل إغفال تام وتجاهل متعمد للمشروع النووي الإسرائيلي‏,‏ الذي يمثل تهديدا حقيقيا لكل دول منطقة الشرق الأوسط‏.‏
أما النموذج الثاني فهو تركيا التي رفضت السماح للقوات الأمريكية بعبور أراضيها في غزو العراق‏(‏ عام‏2003),‏ رغم ما بين البلدين من تحالف وثيق طيلة خمسين عاما‏,‏ معتبرة أن ذلك التحالف لا يبرر استخدام الأراضي التركية فيما يهدد مصالح البلد مع جيرانه ويؤثر على أمنه القومي‏.‏ وهو ما تجلى أيضا في رفض أنقرة قبل أسبوعين لمبلغ مليار دولار كانت قد قررتها الإدارة الأمريكية لتعويض تركيا عن خسائرها بسبب احتلال العراق‏.‏ وكان السبب الرئيس للرفض أن التعويض قدم بصيغة اعتبرتها القيادة التركية ماسة بسيادتها واستقلال قرارها‏.‏ وحسبما فهمت من المسئولين في أنقرة فإن التعويض كان يدعو حكومة أنقرة إلى التعاون في استقرار الأمور في العراق‏.‏ وهو أمر وجدت القيادة التركية أنه أمر ينبغي أن يترك لتقديرها‏.‏
إرادة مستقلة وظهير خارجي
إن الممانعة المرجوة تعتمد على أمرين يكمل أحدهما الآخر‏,‏ أولهما: توافر الإرادة المستقلة‏,‏ وثانيهما الظهير الذي يستند إليه النظام الذي يتعرض للضغوط‏.‏ ولا ظهير أقوى من جماهير تلتف حول النظام ويكتسب منها شرعيته‏,‏ يعززه ويقوي من عوده محيط أو حليف له بأسه‏,‏ يشكل قطبا مقابلا‏,‏ ولو بصورة نسبية‏.‏ وهو ما توافر لأمتنا يوما ما‏,‏ حين توافر لهم النظام العربي الذي كان بمقدوره أن يقف على قدميه على الأقل ـ والحليف السوفيتي الذي وازن الكفة في مواجهة القطب الأمريكي‏.‏
من أسف أننا في هذه الأيام نواجه مأزقا على المستويين‏,‏ سواء فيما يخص الإرادة المستقلة أو الظهير الداخلي والخارجي‏.‏ وفي غيبة هاتين الدعامتين فلن يبقي أمامنا سوي الهرولة على طريق الندامة‏,‏ مع أن طريق السلامة مفتوح على مصراعيه على الأقل لمن عزم وحاول أن يستقوي بشعبه

موقع الشبكة الإسلامية    30/03/2005