نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
أخبار الحلاّج

تأليف :علي بن أنجب الساعي البغدادي
رغم مرور 1082 عاماً ميلادياً على مقتل الحسين بن منصور الحلاج المولود عام 244 هجري 857م فإن أخباره لاتزال حديث الساعة ، كأن الرجل قتل البارحة.
يقول ابراهيم بن فاتك: دخلت يوماً على الحلاج وجلست بين يديه، فإذا عيناه كشعلتي نار، ثم قال: يا بني ان بعض الناس يشهدون عليّ بالكفر، وبعضهم يشهدون لي بالولاية، والذين يشهدون عليّ بالكفر أحب إليّ والى الله من الذين يقرون لي بالولاية. فقلت يا شيخ ولم ذلك؟ فقال: لأن الذين يشهدون لي بالولاية من حسن ظنهم بي، والذين يشهدون علي بالكفر تعصباً لدينهم، ومن تعصب لدينه أحب الى الله ممن أحسن الظن بأحد.
« من أخبار الحلاج » كتاب من أندر الاصول المخطوطة في سيرة الحلاج، وهو من تصنيف علي بن أنجب الساعي البغدادي المتوفى سنة 674هـ حقق أصوله وعلّق عليه موفق فوزي الجبر، وقدّم له هادي العلوي وأكرم انطاكي وفائق حويجة.
وهو كتاب يروي فيه عن الحلاج ما لم يروه راوٍ آخر. فالحلاج الذي عاش في ظل الدولة العباسية، في طورها الثاني، أي طور انحدارها، هذه الدولة التي قضت على مبدأ «العصبية» الاموي كأساس لسياسة الحكم، واتخذت بدلاً منه أساساً ذا طابع ديني، يضع الخليفة في موقع «خليفة الله في الأرض» وبذلك فقد استخدم الحاكم صفته كخليفة لله لفرض سلطته المطلقة في كافة مناحي الحياة باسم هذه الارادة الإلهية.
تبعاً لذلك، فقد أعطت هذه الدولة لنفسها الحق « في ان تكون لها سلطة على أفكار الناس، وعلى طرق تحصيلهم المعرفة» وعلى المصادر التي يعتمدونها في تحصيل المعرفة ـ وعلى الدولة ـ تبعاً لذلك أن تحصر مصدر المعرفة في المصدر الإلهي ـ أي الوحي.» ضمن هذا الاطار الاجتماعي أخذت الحركة الصوفية أبعادها، كشكل من أشكال الرد العفوي على استبدادية الحاكم الاقتصادية والاجتماعية والايديولوجية،
وقد تجلى هذا الرد في جانبه الايديولوجي فيما طرحه المتصوفة من امكانية معرفة الله والوصول اليه عن طريق غير طريق الوحي ـ وبالتالي عن غير طريق الحاكم الذي حصر مصدر المعرفة بهذا الطريق ـ هذا الرد الايديولوجي لم يكن منفلتاً عن الاطار الاجتماعي ـ الاقتصادي الذي وجد فيه، لذلك لم يكن، ولا كان باستطاعته ان يكون غير ذلك ـ أي ان يكون مفارقاً بالكلية للبنية المعرفية السائدة ـ لذلك لجأ المتصوفة محكومين، بمستوى الوعي السائد الى تحطيم احتكار الدين باستخدام مفهومي «الظاهر» و«الباطن» ليتمكنوا بذلك من البقاء ضمن هذا الواقع،
ومن الثورة عليه في وقت واحد، وما ساعدهم في ذلك، ان مسألة الظاهر والباطن وبالتالي مسألة «التأويل» لها أصل قرآني معروف «هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، واخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ،وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم» وبداهة ان يقول المتصوفة انهم هم «الراسخون في العلم» وبالتالي فإن من حقهم تأويل القرآن الكريم وفق معطيات علمهم «الذوقي» الذي اتخذ مفهوماً للمعرفة ـ يصل بين الله والانسان مباشرة بطريق المشاهدة الباطنية «ملغياً» بذلك كل وساطة بينهما حتى وساطة الوحي والنبوة ـ
وفي هذا السياق يصدق القول ان المتصوفة والحلاج على رأسهم كانوا يعملون على هدم ـ الجدار «الرسمي» الفاصل بين الله والانسان ـ ومن كان يمثل هذا الجدار أكثر من الحاكم الذي يحتكر طرق الوصول الى الله عبر الشريعة؟ ضمن هذا المناخ يمكن البدء بتلمس خصوصية تجربة الحلاج، من داخلها ضمن إطار التجربة بعامة، من جملة أقاويله، وما وصل من أخباره، وما قيل عنه ـ يمكن القول ان الحلاج كان يتمتع بشخصية جذرية، والمقصود بذلك «التزام الوجدان بالحدود الفاصلة وعدم تبنيه للحدود الوسطى فإذا طلب أمراً سعى إليه بكل كيانه، واذا رفض أمراً سعى اليه بكل جوارحه» وفي ذلك كان يقول الحلاج ما تمذهبت لمذهب أحدٍ من الإئمة جملة، وانما أخذت من كل مذهب أصعبه وأشده.
وكان الى ذلك انفعالياً متسماً بالحدّة والتهور في طرح آرائه، وحدّته هذه دفعته الى الخروج عن المألوف في طلب الاتصال ـ فهو لم يطلب حبيبه بتواضع الصوفي وخشوعه ولم يتجه نحوه بهدوء وبساطة بل أراد تحطيم كل الحدود دفعة واحدة، ليتصل بحبيبه في حب عنيف لا يعرف الحلول الوسطى ـ أي أن التصوف عنده هو الفعل، والفعل الجامع الذي يلوب باتجاه الوصول نحو المرتجي، وهو ـ .. الرفض المطلق للنفي، والحنين الدائم للمركز الذي تتركز حوله جميع الدوائر ..
ـ وفي ذلك كان تصوف الحلاج مؤشراً على قدرة الإنسان على الحلم وعلى التوق الشديد، والعمل المخلص لتأكيد حلمه، على عكس الصوفية المتأخرة، التي لم تأخذ من صوفية الحلاج وأمثاله مافيها من ثورة على الواقع عن طريق الحلم والسعي الدائب لتحقيقه، بل اكتفت بالدروشة والطقوسية، وما يعني ذلك من تلاؤم مخزٍ مع الواقع، ففي رده المسبق على هذاالشكل من التصوف الطقوسي كان الحلاج يرى:
أن من ظن أن يرضيه (أي الله) بالخدمة فقد جعل لرضاه ثمناً، وهو في هذا كان يؤكد الطريق الذي حددته الصوفية الفكرية طريقاً للوصول إلى الله وهو الحب والتوق الشديد والذي هو «فعل» لا «انكفاء» إذا كان الطريق إلى الحق هو طريق التوق المشفوع بالحب، فهل لهذا الطريق من نهاية؟
بتعبير آخر: هل يمكن الوصول إلى المحبوب، أو إلى مركز الدائرة، أو لنقطة النون على اختلاف التسميات لا يعطينا ظاهر إجابات الحلاج جواباً شافياً. فالحق (.. واحدٌ ، أحدُ،وحيدٌ ، موحَّدُ) كما يقول في طاسين التوحيد، وفي هذا منتهى التنزيه، وبالتالي فإن إمكانية الوصول للمنزَّه تبدو معدومة، خصوصاً أنه لتصل لشيء لابدَّ لك من معرفة هذا الشيء. فما بالك إن كان المقصود هو الحق الذي تبدو معرفته مستحيلة، فالمعرفة ( .. طرقها مسدودة، ما إليها سبيل، معانيها مُبينَّة، ما عليها دليل، لاتدركها الحواس، ولا يلحقها أوصاف الناس..) ولكن هل كل طرق المعرفة مسدودة؟ .. جواب الحلاج هو: (لا) فالطرق ��لمسدودة هي الطرق العقلية فقط
من رامه بالعقل مسترشداً  *** قد شاب بالتلبيس أسراره
أسرحه في حيرة يلهو   *** يقول من حيرته هل هو
لكن الحلاج لا يهدأ ـ يضع العقل جانباً ويصعّد أسئلته: أيها الناس أغيثوني من الله .. فإنه اختطفني منه، وليس يردني علي، ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة ـ وأخاف الهجران، فأكون غائباً محروماً .. والويل لمن يغيب بعد الحضور، ويهجر بعد الوصل.
هذه هي المسألة إذن أن تتوصل (أو تتوهم الاتصال لا فرق) ثم تهجر، أن تعتقد أنك واجد ما تبحث عنه، وإذ لا شيء بين يديك. أن تعتقد أنك وجدت نفسك، وبالتالي وجدت للحياة معنى،في شيء ما، فكرة ما، أي أن تعتقد أنك خلدت من خلال إضفاء معنى محدد لحياتك، وأن هذا الخلود المطلق أصبح قاب قوسين أو أدنى، وإذ لا شيء .. !
عندئذ، لابد أنك صائح (أغيثوني) وإن كنت الحلاج على أرضيته الاجتماعية والتاريخية وبخلفيته الايديولوجية وبنيته النفسية، فانك ستحدد مضمون الإغاثة وكيفيتها على الشكل الذي يعيد لك الاتصال بالمطلق الذي يتناءى عنك كل يوم، وهل يكون هذا إلا بالموت الذي يكمل دائرة الاتصال التي تزداد فتحتها كل يوم «اعلموا أن الله تعالى أباح لكم دمي فاقتلوني ».. ليس في الدنيا للمسلمين شغل أهم من قتلي). وذلك أن القتل ـ هذا القتل بما يعنيه من امحاء لشخص الحلاج، هو وحده الذي يعيد ما انقطع من اتصال وبذلك يقول
بيني وبينك إني يزاحمني  *** فارفع بذاتك إني من البين
وبمناسبة هذا البيت يلاحظ «السهروردي» المقتول أيضاً في حلب ـ أن الحلاج قد أعطى حق تصرف الأغيار في دمه. وهذا يقودنا للقول: إن تجربةالحلاج لا تقوم على الحلول المطلق أو الاتحاد المطلق، بل على الشوق الدائم، والتوق لتأييد لحظة الاتصال بالمطلق، وبما أن لحظة الاتصال تلك، هي ضرب من الوهم فيذكرنا بصيحة «فاوست الشهيرة: أوه أيتها اللحظة توقفي، فإن الحل الأمثل يكون بالموت، وأي موت!
أنور محمد
الكتاب: أخبار الحلاج / دراسة  تحقيق: موفق فوزي الجبر تقديم: هادي العلوي وأكرم انطاكي وفائق حوجة الناشر: دار الطليعة الجديدة ـ دمشق 2004
الصفحات: 96 صفحة من القطع الوسط 

مجلة البيان    15/03/2005