نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
لماذا توحدت أوروبا وتفرق العرب ؟
لماذا توحدت أوروبا وتفرق العرب ؟
د.أحمد القديدي
كاتب وسياسي عربي ـ باريس
تستعد مجتمعات الدول المنخرطة في الاتحاد الأوروبي للمصادقة علىالدستور الأوروبي الموحد الذي سيتحول بالقارة إلى مؤسسة سياسية كاملة ذات قواعد دستورية في الدبلوماسية والدفاع والأمن، وتستكمل هذه العملية باستفتاء الشعب الفرنسي على الدستور الأوروبي يوم 29 مايو الجاري. وبذلك تتجاوز أوروبا مجرد التوحيد الاقتصادي والنقدي إلى مرحلة الدولة العظمى الواحدة. وتدور هذه الأيام في الأوساط السياسية والإعلامية والأكاديمية والثقافية الأوروبية حوارات ونقاشات للبحث عن أقرب السبل و أقوم المسالك لتعزيز البناء الأوروبي وترسيخ المثل الأوروبية و طي المراحل المبرمجة القادمة لتأسيس هذا العملاق الجديد.
بالطبع أنا لا أضيف جديدا كمواطن عربي إذا قلت بأن الوحدة الأوروبية نقيض التشتت العربي و بأن النجاح الأوروبي عكس الإخفاق العربي، و بأن الحكمة تقتضي بدل البكاء على أطلال الفشل استخلاص الدروس و العبر من هذا البناء الأوروبي الشامخ و محاولة قراءة توفيقهم و تحليل خيبتنا بعيون متفائلة وعقل مستنير يتجه بإيجابية إلى المستقبل عوض النحيب على أطلال الماضي.
وأجد نفسي مدفوعا لسرد بعض ذكرياتي التي لا تمحوها الأيام من ذاكرتي حول موضوع الوحدة لأنها تضيء بعض عتمات الحاضر: في الثمانينيات عندما كنت أعد رسالة الدكتوراة في جامعة السربون بباريس، كنت أرتاد مكتبة جامعية متخصصة في التاريخ السياسي بالسربون تحمل اسم مكتبة ( لالند ) على اسم أستاذ القانون في الربع الأول من القرن العشرين ( لالند) وهو أحد الأساتذة الذين أشرفوا على رسالة الدكتوراه لطيب الذكر المرحوم عبد الرزاق السنهوري الذي يعتبر إلى اليوم (أب القانون الدستوري العربي) وصاحب الفضل الأول في سن الدساتير العربية في أكثر من دولة عربية منها مصر و العراق و سوريا
وغيرها. وكانت الرسالة التي نال بها السنهوري شهادة الدكتوراه بعنوان: كيف يمكن تفعيل آليات الوحدة الإسلامية لتحقيق دولة الاتحاد الإسلامي ؟ ولا ننسى بأن هذه الرسالة القيمة قدمها السنهوري للمناقشة عام 1923 أي أنها تزامنت مع انهيار الخلافة العثمانية وجاءت بعد اتفاقية سايكس بيكو لتقاسم تركة الرجل المحتضر أي الأمة الإسلامية بين الإمبراطوريات الاستعمارية فرنسا و بريطانيا في ذلك العصر.
و نعود لعلاقتي الطريفة بهذه الرسالة، حين كانت محافظة المكتبة الفرنسية تتعاطف معي
وتزودني بما تراه صالحا لإنجاز رسالتي التي كانت حول موضوع الإسلام السياسي وكيف حللته الصحافة الغربية ( و كانت الثورة الإيرانية في ذلك العهد تملأ الدنيا و تشغل الناس).
وأطلعتني المحافظة على نسخة نادرة من رسالة السنهوري منشورة بمؤسسة غوتز للنشر عام 1924 أهداها هو نفسه و بخط يده إلى أستاذه لالند الذي أودعها هذه المكتبة في الدور الأول من السربون، و بدأت أتصفح بشغف هذه الرسالة والمحافظة الفرنسية تنصحني بالرفق واللين مع هذا الكنز العلمي القديم ، و اكتشفت في آخر صفحة من الرسالة ملاحظة كتبها الأستاذ لالند بقلمه و بالحبر البنفسجي الجميل باللغة الفرنسية وهي حرفيا : بحث متميز للسنهوري و يا ليت يطبق الأوروبيون ما اقترحه السنهوري من آليات الوحدة فإنهم يصلون يوما ما إلى تحقيق الولايات المتحدة الأوروبية .. . نعم و الله بالحرف، و قد لفت انتباهي هذا التكهن العلمي بوحدة أوروبا في العشرينيات وازددت دهشة مع الزمن حين عشت هنا في باريس تحقيق كل مراحل الوحدة الأوروبية ، وشعرت بالاعتزاز لبعد نظر الأستاذ العربي عبد الرزاق السنهوري حين اعتبره أستاذه الفرنسي مرجعا للوحدة الأوروبي من خلال تقديمه لأصول الوحدة الإسلامية ! لكن الغريب في الأمر هو بالفعل و بالضبط تقريبا تطبيق الاتحاد الأوروبي للآليات التي عرضها السنهوري وهي آليات الوحدة الإسلامية التي كانت موجودة بالفعل في العصور الذهبية للأمة الاسلامية، أي الغاء الحدود وهو ما طبقته أوروبا بمعاهدة شنغن والدينار الإسلامي الواحد وهو ما حققته أوروبا باليورو، ومجلس أهل الحل والعقد وهو ما حققته أوروبا بالمجلس الأوروبي ببروكسل، وديوان المظالم وهو ما حققته أوروبا بالمحكمة الأوروبية بستراسبورغ، و بيت مال المسلمين وهو ما حققته أوروبا بالبنك المركزي الأوروبي،و ميثاق العهد الإسلامي وهو ما حققته أوروبا بسن الدستور المشترك، ثم بمبايعة الخليفة العادل الصالح وهو ما تسعى لتحقيقه أوروبا قريبا بانتخاب رئيس للاتحاد! أليس هذا بالأمر الغريب ؟! وكنت اطلعت عليه بالصدفة المحض. أي في الحقيقة نفذ الأوروبيون حرفيا ما خطط له السنهوري وما تحقق في العالم الإسلامي بالضبط حين كنا بفضل الإسلام قوة عظمى بين الأمم.
العجيب أن أوروبا توحدت بهذه الآليات حين نفذتها ونحن تفرقنا شذر مذر بينما نحن علمنا البشرية كيف تتوحد شعوبها !

جريدة الوطن    26/05/2005