نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
عمائم العراق.. وآيات أمريكا
مشاري الذايدي
احذورا من تدخل الرموز والمرجعيات الدينية في التنافس السياسي العراقي، هكذا صاح الدكتور اياد علاوي، رئيس وزراء العراق الذي يوشك على المغادرة امس الأول.
يأتي ذلك بعد أن ألقت عباءة آية الله السيستاني بظلها على مجرى الانتخابات العراقية، هذا التأثير أسفر عن فوز كبير للائحته الائتلافية، وبعد نجاح التفاوض، الى حد كبير، بين لائحتي الاكراد، ولائحة الائتلاف، او لائحة السيستاني كما يطلق عليها. وهو أيضا يأتي بعد ضعف موقع علاوي «العلماني» ازاء المعممين او حلفاء المعممين العابرين مثل أحمد الجلبي، الذي لا ينقصه الآن إلا أن يرتدي العباءة والعمامة ويصبح «حجة الاسلام» احمد الجلبي.. فمتطلبات السياسة وحاجات التحالف قد تستدعي شيئا كهذا.. من يدري؟!
علاوي، ما زال لاعبا قويا، رغم تحالف لائحتي الكرد والائتلاف الشيعي من دونه، وبسبب قوته هذه، فهو مطلوب للانضمام الى التركيبة الجديدة، لكنه أصر على حصر المنافسة بين اللاعبين السياسيين دون تأثير رجال الدين، هنا او هناك، إبراهيم الجنابي احد مسؤولي حركة الوفاق الوطني، حركة اياد علاوي، أكد ان علاوي، وهو الشيعي العلماني، عبر عن رفضه لنفوذ رجال الدين السياسي في رسالة وجهها قبل عشرة أيام إلى مسؤولي اللائحتين الشيعية والكردية الذين يتفاوضون حاليا لتشكيل الحكومة المقبلة. ويلمح الطلب العلاوي بشكل ضمني إلى النفوذ المحتمل الذي يمكن ان يمارسه رجال الدين الشيعة على حكومة يتولى رئاستها إبراهيم الجعفري قائد حزب الدعوة الإسلامي ومرشح التحالف الجديد..
في كل حال، لا يهم أسماء من سيربح او يخسر في سوق السياسة العراقية، ولايهم استئثار فئة عراقية، شيعية كانت ام كردية، بحصة سياسية اكبر، فهذا من حقهم الصريح، خصوصا اذا تم ذلك بطريقة انتخابية شفافة ونزيهة، فالشيعة او الاكراد هم عراقيون اصلاء، وفيهم مثل غيرهم، كل نزعات التفكير والسياسة من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، لهم الحق في الحضور والحكم والفوز مع أهمية أن تتم عملية شاملة لكل مكونات الشعب العراقي، وسنة العرب منهم على وجه أخص، فهم «السن القلقة» في الفم العراقي الذي بدأ يقتات على خبز الحرية ويحتسي ماءها.
والأهم في هذ كله أن ينطلق العراقيون من أجندتهم هم، لا أجندة الآخرين الذين يسعون الى إيجاد اصوات تتحدث باسمهم او تسوق بضائعهم السياسية والثقافية في العراق، سواء أتت هذه السلع من ايران او من سوريا او من متطرفي الخليج والعالم العربي. فأسوأ شيء يمكن حصوله بعد كل هذه الدماء والالم الذي صار، ويصير، في العراق، ان نعود من حيث بدأنا! ويرتهن العراق لحكم اقصائي معزول آخر، هذه المرة باسم الله، بعد أن كان، ايام بعث صدام، باسم الامة العربية.
لا أريد الاسهاب في ملاحقة جزئيات التشكل السياسي الجديد في العراق، أريد ما هو أجدر بالوقوف على بابه والتأمل في بنيانه. يهمني في تحذيرات علاوي جذرها الفكري، لا ثمرتها السياسية الراهنة بالنسبة له، فهذا التحذير يجب ان يكون تحذيرا عاما لكل المسلمين، فمن حين امتزاج اجندة المشايخ او الفقهاء او «الملالي» او رجال الدين او الاسلاميين... لايهم الاسم، يصبح الامر خطيرا، ويتحول الدين، الهوية الجامعة لكل او جل المجتمع من عامل توحيد الى عامل تفريق، فهو اذا اصبح في حيازة طرف سياسي دون آخر، يقع الطرف « السياسي» الآخر بين أمرين: إما أن يتخذ ردة فعل دفاعية متطرفة ضد الدين كله، وهذا ما هو ضد مصلحة الدين الذي نزل رحمة للعالمين وملاذا لهم كلهم. وإما أن يدخل في محاولات تأويلية عبثية ومضنية للخروج من هذا الفخ المنصوب له، ويتغير ميدان الاختلاف من السياسة الى الفقه، ولا مناص من ذلك لأن الطرف الاخر لا يريد ان يتم شطبه سياسيا باسم الدين، لذا قد يلجأ الى استخدام نفس «الممحاة» لشطب الاخر.. وندخل في تكتيكات متعددة مستنزفة للجميع، وغير متقدمة بهؤلاء الجميع خطوة واحدة الى الامام.
نعم لنا، كما لكل ثقافة وحضارة على هذه الارض، سمات وملامح وصفات، تختلف عما لدى الآخرين، وهي بمجملها تشكل «خصوصية» تميز هذه المجموعة الانسانية وذلك المجتمع عن غيره، لا شك في ذلك، ولا شك في وجود هويات مختلفة، ولكن من قال ان الهوية حالة جامدة لا «تنمو» هي الاخرى؟ ونموها يعني سريان الحركة والتحول عليها، تحول منها ولها، لا من خارجها، إذ هذا مستحيل قانونيا، وليس خيارا يمكن حصوله! تحول يفرضه الزمان والمكان، اللذان هما الثابتان الوحيدان في كل المتغيرات! فمسلم القرن السابع الميلادي يختلف كثيرا كثيرا عن مسلم 2005، ومسلم الدنمارك او ماليزيا ليس هو مسلم قرية نجدية نائية أو نجع صعيدي في اقصى الجنوب المصري... لكنْ الجميع مسلمون، رغم وجود هذه الفروقات والاختلافات في ملامح وشكل وحدود الهوية التي ينتمون اليها.
والياباني الذي يحلو لنا دائما التمثيل به نموذجا لإمكانية تحقيق الحداثة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من دون فقدان الهوية، هذا الياباني ظل يابانيا في عهد الامبراطور ابن الشمس ومقاتلي الساموراي، وظل ايضا يابانيا حقيقيا في ظل شركات سوني وتويوتا وانهيار الجدران التقليدية بين مجتمعات الارض.
إشارة علاوي هذه، التي قدمنا بها المقال، لها سياق آخر أعم وأشمل من سياقنا العربي والاسلامي، فنحن، والحق يقال، إزاء فوران ديني وصعود يميني يضرب انحاء كثيرة في العالم، بل وفي عمق امريكا ـ «قائدة العالم الحر» كما يقال ـ هناك أيضا على الضفة الأخرى من الأطلسي حالة ازدهار للحركات الدينية المسيحية، مخيفة في عددها واثرها، ويقودها رجال دين مسيحيون يشبهون في تطرفهم غلاة آيات الله وفقهاء التعصب في بلادنا. وكنت طالعت مؤخرا، في كتاب «النبوءة والسياسة» للكاتبة الامريكية جريس هالسل، من خلال نصيحة شخص حكيم عركته الحياة وعركها بقراءة هذا الكتاب، فوجدت اشياء مقلقة عن حجم التيار اليميني المسيحي.
هالسل، مؤلفة الكتاب، التي تقول سيرتها انها عملت محررة لخطابات الرئيس الأمريكي الأسبق «ليندون جونسون»، هي صحفية مشهورة، وقد حذرت في كتابها هذا من الخطر المحدق بالعالم من الأصوليين اليمينيين الامريكيين، وذكرت عدداً من الأمثلة لرجال دين ولسياسيين ممن دعموا التوجه اليميني المتطرف حيال فلسطين، مثل وزير الداخلية الأمريكي جامس وات (في عهد الرئيس ريجان) والقس جيري فالويل.
وفي مكان آخر تذكر معلومات مثيرة عن حجم هذا التيار الانجيلي المتعصب في امريكا، وتشير الى أن الانجيليين العسكريين فى طريقهم الى حرب نووية، وتطلعنا على أنه، ووفقا لدراسة مؤسسة «نلسن» التي نشرتها فى اكتوبر1988 ، فإن61 مليون امريكى يستمعون لمبشرين من طائفة الانجيليين فيهم الكثير من الضباط والجنرالات العسكريين، وهؤلاء المبشرون يؤكدون لهم على حتمية قيام الحرب النووية العالمية الثالثة والتي سيكون المسلمون والسوفيات من أهم ضحاياها!.
هكذا إذن، يصبح أثر التصورات الدينية، المغرقة في تفكيرها الملحمي المتعالي على الانسان لصالح افكارها عن العالم ونهايته، انه اثر مقلق ومخيف، خصوصا اذا ما فشت هذه الافكار وانتشرت، ليس بين البسطاء والفلاحين والعجائز المسنات، بل بين رجال السياسة والحرب! هنا نصبح على ميعاد مع كارثة تاريخية، ولحظة محزنة في حياة الانسانية.
من أجل ذلك، ومن أجل كل انسان يدب على الارض يحلم ويخطط لمستقبله وحياته وحاجاته البسيطة، نقول ليظل الدين، كما هو في جوهره الاصلي، لكل الناس يدواي جراحهم، ويطمئن ارواحهم الهائمة في لجة الحياة ... يمنح الامان ويعصم من التلاشي، هكذا يجب ان يكون، وهكذا جاء في لحظته النقية الاولى بعيدا عن متطرفي الغرب والشرق.

جريدة الشرق الأوسط    29/03/2005