 |
المستشار طارق البشري |
نستطيع أن نقول إن القوة السياسية والإعلامية تعمل بجد على أن تنقلنا من مطلب الإصلاح السياسي إلى مطلب الإصلاح الدستوري، وهذه القوة ذاتها تعمل بجد على أن تحصر الإصلاح الدستوري في مطلب شبه وحيد، وهو أن يعدل النص الدستوري من الاستفتاء على مشرح وحيد لرئاسة الجمهورية، إلى الانتخاب لرئاسة الجمهورية من بين مرشحين متنافسين.
ولما طرح مبدأ تعديل المادة 76 من الدستور على الوجه المذكور، بدأ الحديث عن الصياغات التشريعية وعن القواعد الإجرائية التي تضبط عملية الانتخابات.
أحيط النقاش بفقه القانون الدستوري وبتجارب الدول الأخرى، حول القدر الأمثل من الحرية والقدر الأمثل من الضوابط والقيود التنظيمية التي تحيط بإمكانية الترشيح لهذا المنصب الخطير، ونحن نعرف أنه دائما في كل المعالجات الدستورية والقانونية لمسائل الحريات والحقوق، يعترف بالحق وبالحرية ثم يحاط ذلك بالضوابط والقيود، ودائما الديمقراطيون والمحكومون يهتمون بالحق والحرية، ودائما رجال الحكم والسلطة يهتمون بالقيود ويسمونها الضوابط للإفلات من التعبير بكلمات ذات ظلال كريهة.
والغلبة في هذا الصراع تكون للأقوى عند صياغة التشريعات، ثم يستمر الصراع بعد ذلك حول تفسير النصوص بعد تشريعها، وتستخدم الحجج القانونية والفقهية، ولكن الغلبة دائما تكون للأقوى سياسيا في ترجيح وجه تفسير على وجه تفسير آخر، والحجة الفقهية والقانونية عادة ما تتوقف فاعليتها في التطبيق على القوة السياسية التي تساندها، أكثر مما تتوقف على مدى تناسقها النظري وصوابها الحقوقي. لأن الأمر هنا ليس أمر حقوق فردية تتعادل في كفوف الموازين، ولكنه أمر نظم حكم وصراعات سياسية وتمسك بسلطة وأوضاع اجتماعية.
ونحن نلحظ هذه الصراعات حول تفسير نصوص الدساتير تدوم ما بقيت هذه النصوص قائمة وما بقي أطراف الصراع السياسي المختلفة حولها هم هم على مدى مرحلة تاريخية، ولا أريد أن أثقل على القارئ بأمثلة لا تكاد تنحصر من تاريخنا على مدى القرن العشرين، والقوة السياسية المشار إلى فاعليتها هنا هي مزيج من قوة استخدام السلطة المادية بأدواتها القمعية، وقوة البناء الهرمي التنظيمي لمؤسسات الحكم، وقوة المال وقوة الإعلام، وقوة جمع المعلومات وتوظيفها، وقوة الخبرات الفنية والمهنية المستفيدة من كل أولئك.
"مصر تحتاج إلى من ينقذ مؤسساتها من التآكل ومن ينقذ أجهزة دولتها من الاختناق، وكان المصريون قد كدوا نحو مائتي سنة لكي يحسنوا تكوين هذه المؤسسات ويحكموا بناء أجهزة دولتهم المتعددة المدنية والعسكرية، وهي لكل ذلك تحتاج إلى قدر هائل من الحريات الشعبية في الحركة والتنظيم". |
|
ومصر رعاها الله وأنجاها مما هي فيه، تحتاج إلى مجموعات كثيرة جدا من وجوه الإصلاح السياسي؛ فمثلا سياستها الدولية تحتاج لتغيرات جوهرية حتى لا تبقى هكذا واقعة في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية، وسياستها العربية تحتاج إلى تعديلات جوهرية حتى تخرج من نادي دول الخليج الذي صارت عضوا به مع أصغر دول العالم وأقلها شعوبا، والمفروض أن تستقوي دول الخليج بمصر لا أن تستقوي مصر بها، وسياستها الاقتصادية تحتاج إلى سرعة إنقاذ القليل الذي لم يتدهور بعد من صناعاتها، ووقف الكثير الذي فقدناه من أرض الوادي السوداء الخضراء لصالح المساكن الخرسانية، وضمان غذائها الضروري، ومصر تحتاج إلى من ينقذ مؤسساتها من التآكل ومن ينقذ أجهزة دولتها من الاختناق، وكان المصريون قد كدوا نحو مائتي سنة لكي يحسنوا تكوين هذه المؤسسات ويحكموا بناء أجهزة دولتهم المتعددة المدنية والعسكرية، وهي لكل ذلك تحتاج إلى قدر هائل من الحريات الشعبية في الحركة والتنظيم، سواء في التشكيلات الحزبية أو الاجتماعية أو الثقافية.
نظام منغلق ويدور حول نفسه
والسؤال الآن هو، هل يكون تعديل المادة 76 من الدستور الخاص باختيار رئيس الجمهورية يأتي بوصفه خطوة منتجة للسير في خريطة طريق تتعلق بتشكيلات النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والشعبي، وهل هناك خريطة طريق مرسومة يرد تعديل المادة 76 في سياقها، وإذا كانت مرسومة فهل أطراف النقاش متفقون عليها صراحة أو ضمنا.
والواضح أن الحكومة لم تلتزم بشيء ولا حددت هدفا آخر ولا وعدت بخطوات تالية محددة.
إن أول ما يبدو للخاطر أن القوة السياسية ذات المشيئة النافذة الآن، هي من سيكسب انتخابات الرئاسة القادمة بعد بضعة أشهر، سواء كانت بالاستفتاء أو الانتخاب بين متنافسين، ومهما وضع الديمقراطيون وأساطين القانون من شروط وضمانات تمكن من كفالة الترشيح لمن يمثلون القوى السياسية المعارضة، ومهما وضعنا من ضمانات الحيدة لتشكيل لجان المراقبة والإشراف.
"ينبغي أن نكون على بينة من أن أفضل الصياغات والتنظيمات الديمقراطية الشعبية لنص المادة 76 من الدستور، لا يحتمل أن يظهر له أثر إيجابي إلا بعد انتهاء مدة الرئاسة المقبلة، أي بعد 6 سنوات (....)، وهذا يعني أن مقدمة الإصلاح -تعديل المادة 76- قد أرجئ تحققه الفعلي إلى سنة 2011". |
|
ومتى كان كذلك، فينبغي أن نكون على بينة من أن أفضل الصياغات والتنظيمات الديمقراطية الشعبية لنص المادة 76 من الدستور، لا يحتمل أن يظهر له أثر إيجابي إلا بعد انتهاء مدة الرئاسة المقبلة، أي بعد 6 سنوات تبدأ من شهر أكتوبر 2005، وهذا يعني أن مقدمة الإصلاح -تعديل المادة 76- قد أرجئ تحققه الفعلي إلى سنة 2011.
ومن ناحية أخرى، فنحن نعلم أن نظامنا السياسي منغلق على نفسه ويدور في دائرة، وهذا ما أكدته مناقشات المادة 76 الأسابيع الماضية، أو ما أظهرته من حرص الحكومة على أن تكون التزكية للترشيح لمنصب الرئاسة، من عدد معين من نواب مجلس الشعب ومجلس الشورى والمجالس النيابية، بعضها أو كلها، والحكومة بحزبها الحاكم تملك أغلبيات كاسحة من هذه العضويات، بحيث يكون من زكتهم الحكومة وحزبها في هذه العضويات هم من يزكونها في الترشيحات، وهذا هو المقصود بانغلاق النظام على نفسه ودورانه حول نفسه، كما أن أصحاب العضويات أنفسهم هم من سيزكون إن شاءوا المنافسين لمرشحهم، ونحن لا ندري بأي منطق أو قانون أو فقه يكون للإنسان أن يعين من عينه، هكذا في دائرة مغلقة، أو أن يكون للإنسان أن يختار من ينافسه.
نحن نعرف أن قانون الأحزاب منذ سنة 1977 يسير على سنة مشابهة؛ لأنه يجعل اللجنة المختصة بالموافقة على الأحزاب تتكون من لجنة أغلبيتها يجب أن يكونوا وزراء بالحكومة وبحكم مناصبهم، أي أنهم بالضرورة من حزب الحكومة ولا يصح اجتماع اللجنة إلا إذا حضروها جميعا، وذلك كله يجري مع تجاهل مبدأ قانوني صارم يتعلق بنفس صلاحية الإنسان أو النظام إذا اجتمعت لديه مصالح متعارضة، إن مبدأ عدم تعارض المصالح هو مبدأ جدير بأن يتبع وأن مخالفته من شأنها أن تنفي صلاحية أي إنسان أو أية هيئة لاتخاذ أي تصرف يتجمع فيه حال من أحوال تعارض المصالح، ناهيك أن يكون تعارض المصالح مشروطا بالقانون بحيث يصير هو الشريعة والمنهاج ويكون رفع تعارض المصالح هو الذي يولد بطلان التصرف.
نحن هنا نعتبر أمام مجافاة لروح القانون ومبادئه، وذلك من الناحية القانونية، ونحن هنا أيضا من الناحية السياسية أمام وضع منغلق على نفسه لا يريد أن ينفتح لما عسى أن يرد إليه من خارج عناصره المحدودة، الأمن يستنسخهم من قرابته الأقربين.
ولا ندري ما سيسفر عنه أمر التعديلات المقترحة، والأرجح حسبما يستفاد مما جرى الاعتياد عليه، ووفق موازين القوى في الوضع الراهن، أن ما يستحسنه النظام الراهن هو ما سيجد طريقه إلى التشريع، وفي مجال الترجيح يدور الأمر في إطار الضغوط ذات الفاعلية والتأثير، وهي في غالبها تدور في دوائر رئاسية في قمة اتخاذ القرار، مما لا نملك إزاءه متابعة أحداثه وميولاته ولا التوقع بشأنه إلا رجما بالغيب، وهي تدور أيضا في إطار الضغوط التي ترد من ذوي الكلمة المسموعة من الخارج، ومدى الحرص على الظهور بالصورة المقبولة منهم، وهذا اعتبار لا يرجع فيه إلى رأي القوى الداخلية في مصر الصادرة عن قيادات الرأي العام المصري، إلا أن يأذن الله سبحانه بفرج قريب، يجعل لما تتنادي به القوى السياسية والشعبية والهيئات المؤسسية ذات الاستقلالية عن القرار السياسي، يجعل لذلك آثارا فعليه قريبة، ولدينا كل الأمل في صعود حركة التنادي بالتكرار والإلحاح والتكاثر، حتى يكون لها من الضغوط ما يعادل ضغوط الخارج، فتنفتح الدائرة المغلقة، وهي لا تنفتح إلا من خارجها.
والحاصل أن القوة السياسية للنظام القابض على الدولة، هي من يعمل على أن يحول الحركة المثارة من سعة الإصلاح السياسي إلى ضيق الإصلاح الدستوري، ثم إلى الأضيق من ذلك وهو الانحصار في تعديل المادة 76 وحدها ما بقيت هذه القوة بذات نفوذها دون تحد معارض فستصوغ النص الدستوري بما يؤمن بقاءها المغلق. والضمان في ذلك يرد من نمو القوة المقابلة، بالتحريك الشعبي الذي يخرج المسألة من ضيق الإصلاح الدستوري إلى سعة الإصلاح السياسي ومن جهة ثانية، فإن المطلب الديمقراطي الخاص بوضع حد أقصى لرئاسة الجمهورية بمدتين لا تزيدان، هذا المطلب إن قدر أن يثور وتتعدل به المادة 77 من الدستور، فينبغي أن يراعى في صياغة التعديل أن يوضع في صيغة الشرط المانع من الترشيح وليس في صيغة الحد الأقصى لمدة شغل المنصب. ذلك أنه إذا قيل بأنه يتعين في المرشح ألا يكون قد أمضى مدتين سابقتين في المنصب، انطبق هذا الحكم على حال المرشحين عند الترشيح، أما إذا وقبل أنه يجوز الانتخاب لمدة أخرى، فيمكن أن يوجد من التفسيرات القانونية من يقول بأن الأثر المباشر لهذا الحكم يجعله يسري منذ صدور التعديل فلا تحسب المدد السابقة.
الإشراف على انتخابات الرئاسة.. أي هيئات قضائية؟
يستطرد الحديث الآن إلى طريقة تشكيل اللجنة التي تكون مشرفة على انتخابات الرئاسة، والخلاف بين الحكومة وأنصار الحزب الحاكم من جهة، وبين مطالب المعارضة ورجال القانون والديمقراطيين المستقلين، هذا الخلاف يدور حول ما إذا كان ينحصر تشكيل اللجنة في العناصر القضائية أم يشترك فيه مع هؤلاء شخصيات عامة. المعارضة والديمقراطيون بعامة يؤكدون على وجوب حصر التشكيل في رؤساء من الهيئات القضائية، ثم يدور الحوار حول خلافات في التفاصيل أكثر تعقيدا؛ لأن السؤال يرد أيضا عن: ما هي الهيئات القضائية التي يختار منها أعضاء اللجنة، وهل سينحصر ذلك في هيئات القضاء التي عينها الدستور حصرا في المحاكم العادية ومجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا، أم أنه سيتسع لما أجازته المحكمة التفسيرية أخيرا في تفسير حديث بها من شمول الهيئات القضائية لهيئة قضايا الدولة وهيئة النيابة الإدارية التابعتين لوزارة العدل والسلطة التنفيذية، ومن جهة أخرى هل تتشكل اللجنة من قضاة بحكم وظائفهم التي يحددها نص التعديل الدستوري، مثل رئيس النقض ومجلس الدولة وهكذا، أم يكونون قضاة تختارهم جمعياتهم العمومية في هيئاتهم القضائية، أم يختارهم من يصدر قرار تشكيل اللجنة وهو سيكون رئيس الجمهورية، وهو ذاته يحتمل أن يكون من بين المرشحين في انتخابات الرئاسة.
وبالنسبة للشخصيات العامة التي يمكن أن تكون أعضاء في لجنة الإشراف، من يختارهم، هل هو رئيس الجمهورية، فيكون من يختار المشرفين على الانتخابات هو واحد من الأطراف المتنافسين في هذه الانتخابات الخاضعين لإشراف اللجنة، أي هل يختار الشخص من يشرف عليه في خصومته للآخرين. أم تختارهم جهة أخرى، وما هي هذه الجهة من بين، مؤسسات الدولة التي يمكن أن تتصف بالحيدة وتكون بمنأى عن التنافس الانتخابي غير القضاة، والحال أن السلطة التنفيذية كلها خاضعة لنظام الحكم الذي يسيطر عليه الحزب الحاكم، أيا كان وبدءا من رئيس الجمهورية، وأن السلطة التشريعية تتشكل نظريا من أعضاء ينتمون إلى الأحزاب التي ستتنافس في الانتخابات، ولا يبقى بعد ذلك إلا السلطة القضائية، فهل يخولون اختيار الشخصيات العامة التي تشترك معهم في لجنة الإشراف، وعلى أي أساس يختارونهم والهيئات القضائية ليست هيئات ذات صلة رسمية أو عضوية إلا بالقضايا والأحكام والقوانين، فكيف يختارون من ليس منهم؟.
ومشكلة أخرى تثور، فإن المادة 88 من الدستور أوجبت أن يكون القضاة هم من يشرف على العملية الانتخابية لجانا وإجراءات، وأوجبت شمول الإشراف القضائي لهذه العملية على نطاقها الأفقي بلجانها كلها، وعلى نطاقها الرأسي من بدئها إلى ختامها، وهذا ما أوجبته المحكمة الدستورية العليا في حكم تاريخي لها، والمادة 88 من ثم تعتبر الإشراف على الانتخابات مهمة قضائية، فكيف تكون لجنة الإشراف على الانتخابات مشكلة من غير القضاة، بمعنى يكون غير القضاة مشرفين على القضاة في صميم أدائهم لعمل قضائي أوجبه عليهم نص الدستور. لا يبقى من هذه الاحتمالات صالحا لأن ينص عليه التعديل، إلا أن يكون الإشراف للجنة تشكل تشكيلا قضائيا كاملا، من أعضاء قضائيين بحكم مناصبهم وممن تختارهم جمعياتهم العمومية في هيئاتهم القضائية.
الانفلات الواقعي من ضوابط القانون
مشكل آخر يقوم، أنه يتعين من معايشتنا لأوضاع واقعنا التاريخي الحديث، أن نقول إنه لا تقوم ثقة ولا اطمئنان وحسن ظن بالممارسات الحكومية المتعلقة بالإشراف على الانتخابات، وسوء الظن من حسن الفطن كما يقال، بل أكثر من ذلك فإن حسن الظن هنا يكون من باب الغفلة أو التفريط. وأن سياسات الحكم وحزبه تصر على مدى العقود أن تحيل أجهزة إدارة الدولة إلى أجهزة تعمل لتحقيق الصالح الحزبي لحزب الحكومة، مع أن أجهزة إدارة الدولة لم توجد أبدا لكي تقوم بهذا الدور، وهذه قصة أخرى طويلة، إنما المهم الآن أن نقول إن مشاكلنا الفعلية لا تتأتى في الشأن الانتخابي من نصوص الدساتير والقوانين وحدها، ولكنها ترد في الأساس من الممارسات العملية والسلوك الواقعي الذي لا يلتزم بالقانون، كما أنه يلتزم بما هو خلف القانون من سلوكيات يتعين أن نلزم الإنسان العادي بموجب قيمه الأخلاقية، بأن يكون صادقا في ذكر الحقيقة وأن يصف الواقع كما هو، مشكلتنا تبدأ من هذا الانفلات الواقعي من ضوابط القانون والالتزام به، أكثر مما ترد من حكم القانون القائم وما ينص عليه، وهذا داء قد استفحل وصار داء عضالا، قد يختلف الناس في وصف واقعة حدثت، هل هي جائزة أو غير جائزة، وقد يختلفون في تقدير مسألة حاصلة وما تستوجبه من رد فعل أو من معالجات، ولكن الزعم بأن ما حدث لم يقع وأن ما لم يحدث قد وقع، فهذا هو المرض العضال، والسؤال ماذا يضع القانون في ذلك، وماذا تصنع تعديلات الدستور وتشكيلات اللجان؟.
ومع التسليم الصحيح بأن أصلح الأجهزة للإشراف على العمليات الانتخابية كلها هي هيئات القضاء التي تتولى الفصل في خصومات المتعارضين والمتنازعين، فإن الهيئة القضائية يتعين أن تسيطر على العملية الانتخابية كلها، وأن تكون دون غيرها صاحبة الولاية في توزيع القضاة على اللجان وإصدار قرارات التشكيل ومتابعة العملية من بدء كشوف الناخبين حتى إصدار النتائج النهائية، وأن تكون الشرطة فيما تؤديه في هذا الشأن مما لا يمكن أي أجهزة أخرى أن تتولاه، تكون في ذلك مستجيبة لقرارات الهيئة المشرفة على الانتخابات. وأظن أن هذا الوضع من شأنه أن يريح الشرطة كثيرا لأنه سيعفيها من الالتزام الرئاسي بتنفيذ أوامر القيادة السياسية في شئون حزبية أساسا، ويعيدها إلى أصل التزامها الوحيد وهو التنظيم الضبطي وحفظ الأمن ومد جهات الإشراف على الانتخابات بالبيانات الصحيحة، دون أن تتكلف بأعمال حزبية تجاوز اختصاصها، والشرطة شأنها شأن القضاء في عدم جواز اشتغالها. وفي ظني أنه لا يكفي التشكيل القضائي للجنة الإشراف، لضمان الحياد والصدقية، إنما يتعين أن يصحب ذلك بناء وجوه اتصال تنظيمي فعال بقضاة الهيئة القضائية الذين يشرفون على تفاصيل عملية الانتخاب، وأن يقوم ما يضمن اتصال جهاز الشرطة وارتباطه بالتشكيل القضائي في الشأن الانتخابي، وذلك بما ترتخي به قبضة الرئاسة السياسية عن هذا النشاط في فترة الانتخابات وفي الشأن الانتخابي.
إن الآلية الإجرائية لضمان هذا الأمر تحتاج إلى معالجة دستورية مع نص المادة 76، وذلك أن الدستور القائم في المواد التالية لهذا النص، وبخاصة في المواد 82، 83، 84، يرسم أحكاما عديدة لمن يتولى سلطات رئيس الجمهورية مؤقتا حالة قيام مانع مؤقت لديه، والظن عندي أنه يمكن في الدستور النص على أن إعادة رئيس الجمهورية القائم بترشيح نفسه في انتخابات تالية لمدته المنتهية، أن يعتبر ذلك بمثابة مانع مؤقت يقوم لديه بالنسبة للشأن الانتخابي وفي فترة الانتخاب، وأن تقوم مقامه في هذا الشأن ولمدته لجنة الإشراف على الانتخابات بتشكيلها القضائي.
الغالب أن أقلاما وآراء يمكن أن تعترض على هذا الاقتراح بأنه ليس له مثيل في نظم الدساتير الأخرى بالخارج أو عندنا، والرد على ذلك أن واقعنا يمثل حالة فريدة، والحال الفريد يستوجب نوع معالجة فريدة، إن ظروف الأوضاع المصرية قد آلت إلى حال من الشخصنة شديد، وأن انصياع أجهزة التنفيذ في الدولة قد صار انصياعا شبه كامل، وفي مثل هذا الواقع وتفاديا لأثر هذه السيطرة على حياد الانتخابات، أظن أنه من اللازم أن تعتبر إعادة الترشيح بمثابة مانع مؤقت لممارسة سلطات الرئاسة على الشرطة مدة الانتخاب وفي شأنه وأن يوكل هذا الأمر مؤقتا للجنة الانتخاب القضائية.
"وما ينبغي أن نحرص عليه هو أن نميل بميزان السلطة ميلا ملحوظا في حركة مضادة لميلها الحالي، حتى يمكن بعد ذلك أن تستقيم على سوقها بغير اعوجاج، وأن يستقيم لنا من بعد نظام لا يرتبط هكذا بشخص من يشغل منصب الرئاسة، مما يتيح له فيه خلودا ودواما لا تعرفه مخلوقات الأرض". |
|
ولهذا الأمر طبعا بعض المشاكل التي تتعلق بماهية السلطة المتعلقة بالشأن الانتخابي وكيف تمارس ونوعية القرارات التي تتخذ والتفاصيل الإجرائية لكل ذلك، مما يمكن أن يشار إلى أسسه مع تعديل نص الدستور، ثم يصدر عنه من بعد قانون من القوانين المكملة للدستور، وفي كل الأحوال فإن أي مشاكل أو صعوبات في ذلك لا تقاس أبدا في ظني بما يعاني منه نظام السلطة السياسية في مصر من ارتباط أجهزة التنفيذ بشخص من يتولى الرئاسة في الدولة، وذلك على مدى تطاول للعديد من العقود.
وما ينبغي أن نحرص عليه هو أن نميل بميزان السلطة ميلا ملحوظا في حركة مضادة لميلها الحالي، حتى يمكن بعد ذلك أن تستقيم على سوقها بغير اعوجاج، وأن يستقيم لنا من بعد نظام لا يرتبط هكذا بشخص من يشغل منصب الرئاسة، مما يتيح له فيه خلودا ودواما لا تعرفه مخلوقات الأرض.
إنقاذ أجهزة الدولة من حالة الاختناق القائمة
أستطيع أن أقول إنه ليس أمامنا من وسيلة لفك التلازم بين نظام الحكم المشخصن وبين أجهزة الدولة ومؤسساتها، وليس من وسيلة لإعادة إقامة هذه الأجهزة على أوضاعها المؤسسية الموضوعة، ولا حالتها من التبعية الاصطناعية لشخص القائم على السلطة إلى التبعية الموضوعية للقوانين السارية، ما من وسيلة أمامنا لذلك إلا بوضع حد أقصى للمدة التي يمارس فيها الرئيس سلطته على هذه الأجهزة، وأن تكون سلطته مؤقتة بسنوات قليلة معروفة سلفا من بدء توليه لها، وأن يكون تغييره من طبائع الأشياء، ومنصبه دائم التداول بعد كل عدد محدود من السنين، وأن يتقاسمه غيره في استعمال هذه السلطة، وأن يكون مسئولا أمام هيئات دستورية عما يرسم من سياسات وما يتخذ من قرارات وما ينفذ من أمور.
وأن البدء الفعلي في ذلك كله هو الوسيلة الأساسية أمامنا لتصحيح الأوضاع القائمة وإنقاذ أجهزة دولتنا من وضع الاختناق الذي نعاني منه، وهو الوسيلة الوحيدة في ظني التي تفتح المجال أمام تصحيح أوضاع هذه الأجهزة، بغير جراحات وبغير اضطراب ولا إهدار للقوى ولا تصدع للأبنية المؤسسية. والراجح عندي أنه إذا تجاوزنا حالة الاختناق القائمة، فإن في التكوين المؤسسي لهذه الأجهزة وسوابق انشغالها بأهدافها القومية والوطنية ونظرها في شئون الداخل، إن في ذلك ما يمكنها بجهود ليست كبيرة أن تستعيد عافيتها وقدرتها على الإصلاح الذاتي لشئونها.
ونحن حسبما أشرت في مناسبات أخرى يتعين أن نميز بين نظام الحكم وأجهزة الدولة، ونظام الحكم يعني هنا القائمين على الأمر في كل حال في بلادنا وما يماثلها، وأجهزة الدولة هي هذه المؤسسات التي بنيت بناء موضوعيا بأهداف مرسومة ولتسيير شئون عامة، وبرجال وكوادر مدربين على النظم غير الشخصية. وهذا النوع من المؤسسات ينبني به الغالب من أجهزة الدولة المصرية مدنية وعسكرية وأمنية وخدمية وإنتاجية. والمهم هو كيف يمكن فك الاشتباك بين نظم حكم مشخصنة وأجهزة مؤسسية موضوعة، وذلك بأقل إجهاد ممكن لهذه الأجهزة وبأقل إهدار ممكن للقوى والفاعليات.
"المهم هو كيف يمكن فك الاشتباك بين نظم حكم مشخصنة وأجهزة مؤسسية موضوعة، وذلك بأقل إجهاد ممكن لهذه الأجهزة وبأقل إهدار ممكن للقوى والفاعليات". |
|
ويتعين أن يكون من أهم أهدافنا القومية تجاه بلادنا وشعبنا ومستقبلنا، أن نُقيل هذه المؤسسات من عثارها الذي حل بها بسبب شخصنة السلطة وأن نخرجها من حالة الاختناق القائمة، وذلك مع ما تهدف إليه من حريات شعبية وضمانات للحقوق الجماعية. وأن التأقيت والتداول لمنصب الرئاسة هو في ظني مما يقوم بدور فعال وسلس في هذا الشأن.
ومن هنا أيضا تظهر أهمية اقتراح أن تتولى لجنة الإشراف على الانتخابات سلطات الرئاسة في الشأن الانتخابي ولمدة الانتخابات، إذا رشح الرئيس الحالي نفسه لمدة رئاسة جديدة تالية، وأن الدستور الحالي يعرف حالة تولي رئيس المحكمة الدستورية رئاسة الجمهورية مؤقتا إن خلا المنصب ولم يمكن لرئيس مجلس الشعب تولي الرئاسة المؤقتة، ومن ثم فلا غرابة أن تقوم لجنة قضائية على مستوى عال يشكلها الدستور بتولي الرئاسة في فترة الانتخابات.. كما أنه بالنسبة لمجلس الشعب، يمكن أن ينص القانون على أن تشكل وزارة مستقلة غير حزبية، تكون هي من يجري الانتخابات، حفاظا على الحيدة، وحفاظا على ضمان استقلال أجهزة التنفيذ إزاء العمليات الانتخابية وهذا الاقتراح له سوابق عديدة في مصر في ظل دستور 1923 إذ كانت تشكل وزارة مستقلة غير حزبية أو وزارة ائتلافية من الأحزاب لتكون هي من تجرى الانتخابات لمجلس النواب في زخمها، ثم تستقيل بعد تمام الانتخابات.
إننا نعرف أن هذه الاقتراحات صعبة وتحتاج إلى ضغوط سياسية حزبية وشعبية كثيرة حتى يمكن أن تضطر إلى القبول بها نظم الحكم والحكومات؛ لأن أهل السلطة لن يفرطوا في سلطانهم بإرادتهم، وما من صاحب سلطة نزل عنها برغبته، ولكن هذا هو الطريق بدلا من محاولات البعض إقناعنا بلزوم اللجوء إلى هيئة رقابة دولية تشرف على الانتخابات وهم يصدرون في ذلك بدافع ما فاض بهم من يأس في أن تجرى لدينا انتخابات سليمة. |