نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
عباسي مدني.. رهين المحبسين وصراع المشروعين
أكتب هذا المقال عن أخي العزيز الشيخ عباسي مدني عله يخفف عنه شيئا من آلامه في محبسيه (محبس الغربة والمرض)، عجل الله له الشفاء والعافية؛ فهو من الطراز الأول، من الدعاة والسياسيين في المغرب العربي، وعلى صعيد الحركة الإسلامية المعاصرة، وقد أمضى عمره الذي جاوز السبعين ذابا عن الإسلام والعروبة والحرية في وطنه.
البداية من مدينة الفاتح
 ولعله لا يخلو من الدلالة أن كان مولده سنة 1931 في مدينة سيدنا عقبة نسبة وتخليدا للفاتح العظيم عقبة بن نافع، وهي مدينة عرف أهلها بالتدين والغيرة على الإسلام، والنبوغ في علومه، والدعوة إليه، والجهاد لإعلاء كلمته، وشدة البأس والشكيمة.
توزعت حياة الفتى عباسي من وقت مبكر بين طلب العلم والنضال من أجل الإسلام والعروبة والحرية في مواجهة لا تفتر مع أضدادها: التغريب الديني والثقافي والاستبداد الدولي (الاستعمار) وخليفته الاستبداد المحلي ممثلا في نظام الحزب الواحد نظام الفساد والاستبداد.
درس عباسي في المدارس الفرنسية في صغره إبان الاستعمار الفرنسي، ثم في مدارس جمعية العلماء، وتخرج في كلية التربية لينخرط في المقاومة بانضمامه لأولى المجموعات الفدائية التي شكلتها ثورة التحرير، وكان من باكورات عملياتها عملية نسف الإذاعة الاستعمارية الفرنسية التي شارك فيها الفتى وقبض عليه، فتعرض لأقسى أساليب التنكيل مهددا بحكم الإعدام، إلا أن الله نجاه، فأمضى طوال سنوات الجمر.. سنوات الثورة سجينا في السجون الفرنسية، ولم يغادرها إلا مع هتافات الجماهير: "يا محمد مبروك عليك، الجزائر رجعت ليك".
العلمانية تقطف ثمار الثورة
انتصرت الثورة، غير أن الفكر العلماني الثوري كان السائد وقتها؛ فكان هناك نوع من التحالف بين التراث الفرنسي الثقافي والإداري وحتى العسكري الذي خلفته الإدارة الاستعمارية، وبين النخب المتأثرة بالمناخات الدولية الاشتراكية والماركسية، والتي واتتها الفرصة للاستئثار بمواقع متقدمة في النظام الجديد رغم أن بلاءها كان محدودا في إنجاز الثورة، بل كانت قطاعات واسعة منها حليفة للاحتلال ترى في رأسماليته مرحلة متقدمة على طريق الاشتراكية، ولا ترى في الصراع غير بعده الاقتصادي؛ كونه صراعا بين الطبقة العاملة والرأسمالية؛ وهو ما يجعل ثورة التحرير بلا معنى بل هي في المحصلة ثورة رجعية.
 تلك كانت إيحاءات وتوجيهات آباء الماركسية ماركس ولينين، وكذا تقويمات الليبراليين أمثال دي توكفيل، إزاء ثورات الجزائر. ومع ذلك تمكنت عناصر يسارية من تبوؤ مراكز مهمة في دولة الاستقلال مستفيدة من التراث الاستعماري؛ وهو ما جعل التيار العربي الإسلامي الذي صنع ثقافة الثورة بزعامة جمعية العلماء، وعباسي امتدادا طبيعيا لتراثها، في وضع توتر بلغ حد الإحباط وخيبة الأمل؛ وهو ما دفع بقية شيوخ جمعية العلماء إلى التعبير الصريح والشديد عن سخطهم على مناخات التغريب التي أخذت تفشو في سياسات دولة الاستقلال.
لم تتحمل دولة الاستقلال ذلك النقد، ففرضت الإقامة الجبرية على خليفة ابن باديس الشيخ البشير الإبراهيمي، فأخذت مناخات وخيوط التوتر تتجمع وتتهيأ للاصطدام بين الدولة بشرعيتها الثورية القوية والتيار الإسلامي الذي أخذت تعبيراته الاحتجاجية تتوالى نقدا شديدا للسياسات الثقافية والاقتصادية للدولة، ظهر ذلك فيما فعله الشيخ الإبراهيمي والشيخ عبد اللطيف سلطاني الذي ألف كتابا قارن فيه بين الاشتراكية المتطرفة للرئيس بومدين وبالخصوص في الميثاق الذي أعلن عنه والمذهب المزدكي الفارسي الذي أشاع إباحية جنسية ومالية. كما عبر التيار الإسلامي عن نفسه في شكل بعث جمعية القيم التي أسسها عدد من نشطاء الإسلام، كان من بينهم الشاب مدني.
على طريق الإحياء
لم تنقض العشرية الأولى للاستقلال حتى أخذ التيار الإسلامي يدب أثره في الوسط الطلابي الجامعي؛ حيث تشكلت الخمائر الأولى للحركة الإسلامية المعاصرة بكل اتجاهاتها، وعرفت ونشطت الزعامات الإسلامية للتيار الإسلامي، وكان من أبرزهم الشيخ عباسي مدني إلى جانب الشيخ محفوظ نحناح، والشيخ عبد الله جاب الله، ومحمد السعيد، ومصطفى براهمية، ورشيد بن عيسى.
وبعد فترة من تحرير الجزائر طمح عباسي مدني إلى تعزيز ثقافته العربية الإسلامية بثقافة غربية اتجه في طلبها ضمن بعثة حكومية، ليس إلى فرنسا شأن معظم النخبة المغاربية؛ وإنما إلى منافستها إنجلترا؛ حيث أمضى بضع سنوات (1975 ـ 1978م) في جامعة لندن يعد أطروحة في مجال التربية المقارنة، مجال تخصصه الذي ألف فيه أكثر من كتاب. وفي إنجلترا كانت له فرص للتعرف على نخبة من الطلبة الإسلاميين النشطين في جامعاتها، ارتبط بهم بعلاقات وثيقة سيفيد منها فيما سيستقبله من محن.
رجع عباسي إلى موطنه مسلحا بمزيد من الأسلحة لخوض الصراع الفكري المحتدم في بلده بكفاءة أكبر، فرفض الانخراط في أي من التنظيمات الإسلامية العاملة على الساحة مركزا جهده على الدعوة العامة والمجادلات الفكرية مع التيارات العلمانية والكتابة والتدريس، وقام في تلك الفترة من نهايات السبعينيات بزيارتنا في تونس؛ حيث تبادل مع دعاة الإسلام فيها الرأي حول الإسلام والسبيل الأقوم لنصرته ضمن الأوضاع القائمة.
 وكان واضحا من مناقشاته معنا عدم قناعته بالأساليب التنظيمية السائدة؛ إذ يراها مغلقة ولا تستجيب لاستيعاب الأفق الجماهيري الذي يرنو إليه والمتشبع به، وربما بتأثير تكوينه المخضرم الوطني الإسلامي، خلافا لمعظم العاملين في الساحة الإسلامية الذين لم تسعفهم السن للاشتراك في الحركة الوطنية؛ فكان تأثرهم الفكري والتنظيمي بالوافد الإسلامي من المشرق العربي هو الأكثر تأثيرا في فكرهم ومناهجهم.
الصدام بين المشروعين
لم تتلبث الدولة طويلا بالتيار الإسلامي المتصاعد مده على امتداد المنطقة مقابل تفاقم مأزق المشروع الوطني في جملة المنطقة، فبدأت منذ أوائل الثمانينيات حملات اضطهاد للتيار الإسلامي في الأقطار المغاربية الثلاثة المغرب وتونس والجزائر.
 والحقيقة أن اعتقالات الإسلاميين الجزائريين سبقت؛ إذ بدأت منذ نهاية السبعينيات باعتقال الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله وثلة من إخوانه؛ حيث سلطت عليهم صنوف من النكال وأحكام قاسية. وتوسعت موجة الاضطهاد في الجزائر في بداية الثمانينيات على إثر مسيرات احتجاجية طلابية مدعومة من قبل جيل شيوخ بقية جمعية العلماء وشيوخ الشباب أمثال الشيخ عباسي.
وهكذا عاد الشيخ عباسي إلى نفس سجون الاحتلال التي عرفها، ولكن كان السجان هذه المرة زملاء النضال الذين لم يكونوا أقل قسوة على رفيقهم من سجان الاحتلال، إلا أن الأحداث تلاحقت، وفرضت على الحكم إطلاق سراح أسراه حاسبا أنه قد لقنهم درسا لا ينسى، ولكنهم سرعان ما عادوا ليلتحموا مع جيل جديد يعاني القهر والاحتقار والتمييز الشديد وهو يرى تراث الثورة وثروات البلاد تحتكرها فئة ضيقة دون عامة الشعب الذي ضحى بمليون ونصف المليون من الشهداء من أجل الحرية والعدالة والمساواة، ومن أجل الإسلام، ثم هاهو بعد كل ذلك يضحى به على مذبح مافيا لا تترد في استخدام أقسى صور التضليل والقمع لإخماد كل صوت احتجاج..
تفاعلت مناخات محلية ودولية وتجمع بركان الغضب والسخط على "منجزات" وسياسات مرحلة كاملة من عمر الجزائر مرحلة الاستقلال، فاندلعت في 8 أكتوبر 1988 براكين كل ما تجمع من غضب متفاعلا مع مواريث ثورية ونزعة مساواتية عميقة، ورفض للاحتقار متأصل. جيل جديد من الشباب الساخط على الجيل السابق انطلق يدوس بالأقدام على كل ما صنع جيل الثورة الحسن والقبيح فما أبقى تقريبا على رمز من رموز الدولة إلا وعمل على تحطيمه.
"الجبهة" من قلب الأحداث
لم تكن أكثر من ثورة غضبية عارمة كان يمكن أن تستنفد وقودها بعد بضعة أيام كما حصل في تونس قبلها بأربع سنوات احتجاجا على رفع أسعار الخبز وخمد كل شيء بمجرد العود إلى السعر القديم، إلا أنه في الجزائر كان عباسي مدني والشاب علي بلحاج حاضرين ممتلئين بحس ثوري عميق فبادرا إلى اعتلاء الموج العالي وبسطا على الموج الهادر شعارات كان يفتقدها ليستمر ويتحول من حدث عابر إلى مسار تاريخي لا يزال يحكم الجزائر حتى يوم الناس هذا، وكان أبرز تلك الشعارات شعار الدولة الإسلامية وما يختزنه في الوعي الجزائري من معاني المساواة والعدل والعزة، فضلا عما يختزنه من سحب لشرعية الدولة واتهام صريح لها بتنكبها عن المبادئ التي ضحى من أجلها الشهداء.
 وبينما ظلت الجماعات الإسلامية في الساحة مترددة إزاء السلطة التي أضحت من الوهن أن لا ترد لامسا ولا ترفض مطلبا المهم أن تلتقط أنفاسها وتستعيد الزمام الذي أفلت إلى يد عباسي، بادر هذا الأخير مع صاحبه بلحاج إلى إعلان تأسيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وأمام ذهول الجميع انخرطت بعد بضعة أشهر في أول انتخابات ديمقراطية لتنتزع من جبهة التحرير بلديات المدن الكبرى وتفرض نفسها القوة السياسية المحورية في البلد من خلال ذلك ومن خلال المسيرات المليونية التي تقودها، ومن خلال ما طورت من خطاب إسلامي اجتماعي مسيس لم يعرفه عالم الإسلام الحديث إلا مع خطابات الخميني، جاء خطاب الجبهة لينتصر للجماهير المسحوقة ولقضايا الأمة الكبرى ويمارس النقد الصريح القاسي ضد ناهبي أقوات الشعب واعدا الجماهير بالخلاص القريب عبر تأسيس الدولة الإسلامية الموعودة.
غير أن الدولة التي اضطرت لإرخاء الخيط قليلا سرعان ما أخذت تناور من أجل استعادة الزمام والإفادة مما تبقى في يدها من أدوات الحكم فقدمت مشرع قانون انتخابي رأت فيه الجبهة الإسلامية أنها المستهدفة به وأنه تراجع عما اتفق عليه، فدعت إلى التخلي عنه دون جدوى، فأدرك الشيخ وصحبه أن خط التراجع سيمضي قدما إذا لم يقع التصدي له والنزول بموضوع النزاع إلى الجماهير وإلى الشارع، فكانت الدعوة إلى الإضراب العام الذي أوشك بعد بضعة أيام أن يشل الحركة في البلاد فلوحت الدولة بعصاها الغليظة ونزلت الدبابات إلى الشوارع تحتل الساحات العامة وتحصد المتظاهرين ما حمل الشيخ على دعوة الجماهير إلى التوقف والانصراف إلى البيوت.. وكانت تلك النهاية الأولى للمسار السياسي والبداية لعودة حكم العسكر والمخابرات العسكرية وحكم المافيا السياسية والاقتصادية.
الصدام الكبير
لم يشفع للشيخ دعوته إلى الهدوء بل عمدوا إلى الزج به في السجن وصاحبه. ورغم ذلك نجحت قيادات الصف الثاني من الجبهة بقيادة الشيخ عبد القادر حشاني رحمه الله ورابح كبير في لملمة شتات الجبهة وإعدادها لخوض معركة الانتخابات التشريعية. وكانت كل التقديرات الرسمية قد بنيت على أساس أنه في غيبة شيوخ الجبهة وبعد ما تم من تغيير للقانون الانتخابي وحسبان فشل الجبهة في إدارة البلديات أن شعبية الجبهة قد تراجعت وأنها لن تحصل إلا نسبة من الأصوات لا تخل بالتوازنات القائمة بما يفرغ الديمقراطية من محتواها التداولي؛ إلا أن الجبهة صنعت مرة أخرى الحدث المذهل إذ أوشكت منذ الدورة الأولى أن تفوز وحدها بأغلبية الأصوات.
ساعتها لم يبق أمام الحكام الحقيقيين للبلد، وهم بضعة جنرالات ترتبط بهم جملة المصالح في البلاد ومواقع التأثير، إلا أن يفرضوا على الشاذلي بن جديد أن يختار بين رفض النتائج أو المغادرة فاختار الأخيرة.. فكانت الضربة والنهاية الثانية للمسار الديمقراطي ومحاولة العودة بالحكم إلى ما قبل انتفاضة 8 أكتوبر بعد أن أفشل عباسي مناوراتهم السياسية سبيلا للتوصل إلى ذلك.
غير أنه في بلد زاخر بالمواريث الثورية ما كان لهذا الانقلاب الغليظ أن يمر بسلام حتى وإن وجد الدعم السخي من قبل النخبة العلمانية المحلية والدولية بذريعة الدفاع عن الحداثة والتصدي للخطر الأصولي، إذ سرعان ما اقتفى جيل من الشباب الإسلامي الثوري آثار أقدام أجداده سيرا صوب الجبال الرواسي يحتمون بها من قمع الدولة ويتدرعون بها لمقاومتها، فاشتعلت جبال الجزائر والأحياء الفقيرة لمدنها نارا، ووجدت قوى كثيرة محلية ودولية ذات مصالح ومخاوف وأطماع فرصتها التاريخية لتنخرط على نحو أو آخر في المعمعة: قوى استخباراتية محلية وإقليمية ودولية كان لها باع في المعركة خلطا للأوراق وتشويها للإسلام من خلال إتيان فظائع تتم نسبتها للإسلاميين ومجموعات محلية ودولية إسلامية متطرفة وجدت فرصتها في الانخراط في الأحداث للتأثير فيها، وهكذا اختلط الحابل بالنابل.
المعادلة الظالمة
وخلال كل ذلك عرف عباسي كيف يحافظ على هدوء أعصابه فلازم الصمت لسنوات. ولم تجد السلطة - بعد أن جربت كل وسائل القمع لإخماد الحريق- بدا من اللجوء إلى الشيخين عباسي وبلحاج فجمعتهما في إقامة جبرية وأجرت معهما مفاوضات في عهد الرئيس السابق زروال طلب منهما -حسبما ذكر- استنكار العنف سبيلا لتفكيك المعضلة؛ إلا أن الشيخين وصحبهما لم يطمئنا فيما يبدو إلى جدية الوعود مما اعتبره بعض المحللين ضياع فرصة أخرى، فأعيدا إلى السجن أو إلى الإقامة الجبرية، وفتحت الاستخبارات خطا آخر للتفاوض المباشر مع قادة حملة السلاح في الجزائر أفضت إلى تفكيك متدرج لا لمشكل الاستبداد الجذر العميق للأزمة وإنما فيما يبدو مجرد تفكيك للجماعات المسلحة .
تتابع نزول المسلحين وعودتهم إلى الحياة المدنية وبالخصوص بعد مجيء الرئيس بوتفليقة وطرحه لسياسات الوئام المدني والمصالحة الوطنية؛ إلا أن الخطاب السياسي الرسمي ومنذ تجربة زروال في التفاوض مع السياسيين بدا وكأنه أقفل هذا الباب جملة واتجه للتعامل المباشر مع المسلحين، مبديا معهم مرونة غير معهودة في النظام العربي الذي طالما رفع شعار لا تفاوض مع الإرهاب في مقابل التشدد مع السياسيين ورفض أي تفاوض معهم، وكان جل ما بلغه النظام من تسامح مع السياسيين أن أطلق سراحهم فارضا عليهم الصمت ضمن المحرمات العشر التي فرضت على بلحاج، أما التسامح مع عباسي فلم يزد عن الإذن له بالسفر للتداوي.
 هذه -بكل أسف - المعادلة التي تحكم المشهد الجزائري، ومن ثم ستظل الجزائر في غيابك وصحبك يا شيخ عباسي شيخ المجاهدين قلقة تبحث عن مستقر لها على أرضية وئام وطني عادل، "والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".

موقع إسلام أون لاين    11/06/2005