بوسعنا أن نقول بأنه ما لم تحدث مفاجآت غير متوقعة، فإن معركة انتخابات الرئاسة الإيرانية حسمت لصالح الشيخ هاشمي رفسنجاني. لذلك لم يكن مستغرباً أن تنشر صحيفة «فارهانج اشتي» الاصلاحية خبر ترشحه تحت عنوان كبير من كلمتين هما: عون الرئيس. في إشارة ضمنية إلى أنه ضمن الفوز بمجرد تسجيل اسمه كمرشح للانتخابات التي تجرى في 17 يونيو (حزيران) المقبل. وبدخوله حلبة السباق فإنه حسم الشائعات والأقاويل التي راجت حول موقفه طيلة الأشهر الماضية، وليس هناك من تفسير لتأخير اعلان قراره في هذا الصدد سوى أن ذلك السياسي الداهية آثر الانتظار حتى تكتمل قائمة المرشحين، وحتى يقتنع الرأي العام من استعراض الأسماء بأن ثمة فراغاً في القائمة لا يملؤه إلا حضوره الشخصي، إذ كان الرجل مدركاً لا ريب لحقيقة أن مرشحي المحافظين لا يحظون بشعبية كافية، وأن الناس انفضوا من حول الاصلاحيين حين وجدوا أن الرئيس الحالي محمد خاتمي لم يستطع أن يحقق لهم ما تمنوه، وإذ أتاح للمعسكرين أن يستعرضا مرشحيهما. وأن يعرض كل منهما «بضاعته»، فإنه أراد بذلك أن يقدم نفسه باعتباره «المنقذ»، الذي ترتفع قامته فوق قامات كل المرشحين الآخرين. ومن ثم دخل الساحة بحسبانه مستدعى من قبل الشارع الإيراني وليس متطفلاً أو مفروضاً عليه. من ناحية ثانية فأحسب أن تأخير اعلان قراره كان له سبب آخر هو توفيق الأوضاع مع السيد علي خأمنئي، القائد، الذي كان يتمنى أن يرأس الجمهورية واحد من رجاله المطيعين له والمحسوبين عليه، وليس شخصاً مثل رفسنجاني له استقلاله وقوة شخصيته التي لا تجعله محسوباً على غيره أو ملحقاً به. ولا يغيبن عن البال أن المحافظين حين خاضوا معركتهم الشرسة ضد السيد خاتمي طيلة السنوات الثماني السابقة كانوا مدعومين من جانب المرشد، وأنهم حين نجحوا في اضعافه وشل حركته أرادوا أن يكون البديل واحداً منهم، ولم يخطر على بالهم أن يتخلصوا من السيد خاتمي لكي يقطف الشيخ رفسنجاني ثمرة جهدهم. وليس سراً أن السيد خأمنئي الذي ارتاح لاختيار أحد انسبائه المحسوبين عليه رئيساً لمجلس الشورى (الدكتور حداد عادل)، كان سيصبح أكثر ارتياحاً لو أن رئيس الجمهورية كان من نفس الشريحة، وقد رشحت الدوائر المطلعة على ما يجري في الكواليس لهذا المنصب واحداً من «الموالين» المحافظين، الدكتور علي أكبر ولايتي وزير الخارجية السابق (الذي تنازل) أو محمود أحمدي نجاد رئيس بلدية طهران أو قائد الشرطة السابق محمد باقر قاليباف أو محسن رضائي قائد الحرس الثوري السابق والأمين العام لمصلحة النظام، أو حتى علي ريجاني رئيس الاذاعة والتليفزيون السابق، الذي اعتبر مرشح لجنة التنسيق بين الأحزاب المحافظة. غير أن استطلاعات الرأي العام والتقارير الداخلية التي يوليها المرشد اهتماماً خاصاً جاءت فيما يبدو مخيبة للآمال، حيث أجمعت على أن أياً من هؤلاء المرشحين لا يستطيع أن يحقق الفوز المرجو. وهي نتيجة كانت في صالح ترشيح الشيخ رفسنجاني، الذي لا أشك في أنه لم يكن ليرشح نفسه إلا بعد «التفاهم» مع القائد. ومن الواضح أن ذلك «التفاهم» استغرق وقتاً طويلاً نسبياً، ولم يتحقق إلا حينما أدرك السيد خأمنئي أن حظوظ من عداه في الفوز ليست مضمونة. ساعد على ترجيح كفة رفسنجاني عناصر أخرى هي: أنه بحكم شخصيته وتركيبته ظل طول الوقت يضع قدماً في معسكر المحافظين وأخرى في معسكر الاصلاحيين، الأمر الذي جعله على صلات قوية بالطرفين. وإذا كانت قيادات المحافظين لا ترحب به، وكانت لها معه ومع مجموعة كوادر البناء التي تعبر عن خطة صراعات عدة ألقت ببعض رموز «الكوادر» في غياهب السجون، إلا أن أغلب قواعد المحافظين تؤيده. ورغم ما بينه وبين أركان فريق خاتمي من حساسيات دفعت بعض أنصار خاتمي إلى التشهير به، الأمر الذي أوقع به هزيمة منكرة في الانتخابات النيابية التي جرت سنة ألفين، إلا أن أحداً لا ينسى أنه هو الذي شجع ترشيح خاتمي لرئاسة الجمهورية، كما أن مؤيدي خاتمي أصبحوا يرونه الآن بديلاً أفضل من المحافظين. من تلك العناصر التي رجحت كفته أيضاً الظروف التي تمر بها إيران في الداخل والخارج. ذلك أن الصراع الذي استمر طيلة السنوات الثماني السابقة بين المحافظين والاصلاحيين أثار ملل الناس ودفعهم إلى العزوف عن العمل السياسي، وكان من المهم أن يرشح واحد مثله لكي يعيد الثقة في النظام والثورة، ويستدعي الجماهير مرة أخرى إلى ساحة المشاركة. ثم أن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها ايران اقتضت أن يمسك بالدفة رجل الاصلاحات الذي يعيد الأمل إلى الجماهير في إمكانية تحسن أحوالهم المعيشية. أضف إلى ذلك الاحتلال الأميركي للعراق، ومشكلة الملف النووي الايراني، وهما ظرفان آخران لم يكن أي من المرشحين الآخرين مؤهلاً أو قادراً على التعامل معهما بكفاءة، لأن رفسنجاني معروف بأنه حلال العقد ورجل المساومات الأكثر قدرة على التفاهم مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وقد كانت له مع الأخيرة خطوط وتفاهمات سابقة، وبالتالي فالأمر ليس جديداً عليه. ليس معنى ذلك أنه لن تكون هناك معركة في الانتخابات الايرانية، لأن من الواضح أن المحافظين لن يسلموا بفوزه بسهولة، ولكنهم يحاولون الآن تجميع صفوفهم وراء مرشحهم الأثير علي لاريحاني، ويسعون إلى الضغط على من رشحوا أنفسهم من الرموز المحافظة الأخرى لكي يتنازلوا لصالحه. ولا يستبعد أن يعمل المحافظون على فتح ملفات قديمة لرفسنجاني لتشويه صورته واضعاف الالتفاف من حوله، وحتى كتابة هذه السطور فليس معروفاً بالضبط من المرشحين الاصلاحيين سوف يجيزهم مجلس صيانة الدستور، وأياً كان هؤلاء، فالمرجح أن حظوظ هؤلاء ستكون محدودة في التأييد الجماهيري، لأنه من الصعب توقع اقبال الناس على التصويت لصالحهم في الوقت الراهن، وقد لمسوا بأنفسهم أنهم لم يستطيعوا أن ينجزوا الكثير في ظل حكومة السيد خاتمي الاصلاحية. هذه الخلفية تسوغ لنا أن نسجل الملاحظات التالية على المشهد الانتخابي الايراني: فشل المحافظون في أن يقدموا مرشحاً ترجح كفته ويستطيع أن يلقى تأييداً جماهيرياً يؤهله للفوز، ومرشحوهم الذين تقدموا اعتمدوا على رصيدهم في مواقع السلطة ومراقبها، وليس على رصيدهم في الشارع الايراني. الاصلاحيون سوف يصوتون لصالح الشيخ رفسنجاني ليس حباً فيه، ولكن كيداً للمحافظين ومحاولة تصفية الحساب معهم. حين هزم رفسنجاني في الانتخابات النيابية عام 2000، فإن الناس تحولوا عنه لأن الاصلاحيين كانوا بديلاً أفضل، لكن هؤلاء الناس أنفسهم سيصوتون لصالحه في الأغلب هذه المرة لأن المرشحين المحافظين يمثلون بديلاً أسوأ. رغم أن رفسنجاني يعد الخيار الأفضل هذه المرة، إلا أن عودته إلى رئاسة الجمهورية وهو في سن السبعين، بعد أن شغل المنصب لفترتين متتاليتين خلال التسعينيات، تعد مؤشراً على أن الثورة الايرانية لم تتمكن خلال ربع قرن من افراز قيادات جديدة يمكن أن تتحمل مسؤولية ادارة شؤون البلاد، وذلك مؤشر على عقم الحياة السياسية يثير العديد من التساؤلات حول مدى العافية التي وفرتها الثورة للمجتمع على صعيد الممارسة الديمقراطية، وتلك مشكلة يجب أن تحل هناك، بقدر ما أنها تبعث على الأسف والحزن عندنا!