بقلم: رجائي عطية مهمة العدالة مهمة بالغة السمو, بالغة الخطر أيضا.. الي اقامتها تعزي استقامة الأحوال, والي غيابها يرتد كل جنوح وانحراف, وكل غضب وانفعال, وجموح وثورة.. لن يخطئك حين تراجع سيرة فرد, أو جماعة, أو دراسة حدث, ان تدرك ان الانفعال الذي قدم له أو أسلس اليه, هو غياب عدل, قد يرده البعض الي قصور القانون, أو الي غلبة القوة والأقوياء, أو الي اختلال الميزان أو الموازين, أو الي ضياع البوصلة, أو الي قصور رسالة العدالة عن القيام بواجباتها وتحقيق غاياتها, وقد يرد البعض هذا القصور الي قصور أفراد أو جماعات أو فئات, وقد يرده آخرون الي اختلاف الحظوظ والمقادير وهي الي العشوائية أقرب, وقد يجمح آخرون كأنهم ـ في جموحهم ـ يعاتبون السماء علي عدالة غائبة تركت الانسان نهبا لجنوح الجانحين وطغيان الشر والأشرار, وغلبة الأثرة علي الايثار, وانعدام أو تواضع الحظوظ ازاء أخري مفتوحة علي الواسع, أو الي نازلات لايفهم عجز الإنسان لها حكمة وغاية فيسوقه هذا وذاك الي مضاضة وضيق ثم إلي اعتراض وشرود, ثم الي جنوح وغضب, ثم الي التهاب وثورة وجموح! هذه كلها مظاهر يلمسها المراقب المتأمل المتدبر, ويلمس معها تفاوتا صعودا وهبوطا, كما وكيفا تبعا لأسباب الاعتراض من ناحية, وتكوين نسيج الجانح من ناحية أخري ـ لذلك فغياب العدل هو مقدمة لتداعيات بالغة الجسامة بالغة الخطر لايعلم متي وكيف تتراجع وتنحسر الا أن يدركها الله عز وجل بلطفه ورحمته! وخطير علي العدالة, ليس فقط أن تضيع موازينها بين الناس, وانما أيضا أن تهتز بوصلتها بين اركان الثلاثي القائم علي تحقيقها ورعايتها والعناية بها وبذل قصاري المستطاع للنهوض برسالتها.. تختلف الأدوار في محاريب القضاء ـ نعم, تنشد النيابة غير ماتنشده المحاماة, وتفترق بكليهما السبل بين سعي الي الاثبات, وسعي آخر الي الدرء والابراء, وبين هذه وتلك يقف القضاء ممسكا الميزان, ساعيا الي العدل الذي يرمز اليه بفتاة معصوبة العينين, لاتميز ولاتفرق ولاتستهدف الا غايتها الكبري في احقاق الحق.. هذه الغاية لايسع النيابة ولايسع المحاماة, الا أن تقرا بأنها هي هي غايتهما أو غاية كل منهما, وأن الاختلاف الواسع أحيانا ـ فيما بين أدائهما, هو اختلاف في النظر والرؤية, وفي الطريق والوسيلة, ولكنهما يجتمعان في النهاية علي طلب الحق.. هذا الذي ينشده القضاء ويسعي الي اقراره! تضيع البوصلة من المحامي اذا ضاق بالنيابة ودورها, أو سارع اليه سوء الظن أو سوء الفهم, فيحسبها ضده ولايدرك أن مهمتها لاتتعلق بشخصه, ولاتترصده عنية, وانما هي تدافع ـ وبوجهة نظرها ـ عن حق المجتمع في أن يصان له أمانه, وفي أن تكون جادة أمينة علي فاعليات منتجة لمحاصرة الجريمة واثبات أدائها والوصول الي معاقبة الجاني أو الجناة فيها! وتضيع البوصلة من النيابة, اذا عدت المحاماة تطفلا علي الدعوي أو عليها, أو صنفتها علي أنها مجرد تسويغ للباطل وانكار للحق ومن ثم حماية أو تشجيع علي الانحراف والفساد.. وتضيع البوصلة من النيابة أكثر.. حين تصرفها السلطة التي تملك مقاليدها عن تقدير المحامي كزميل معهد وحامل رسالة وصاحب دور علينا أن ننظر اليه باحترام, وأن نعينه علي القيام بمهمته الثقيلة وهو يقف الي جوار متهم أحاطت به وحاصرته ظروف صعبة لاقدرة له علي مواجهتها بغير متخصص عالم عارف بعلمه جامع لخبراته مالك لنواصيه مخلص لرسالته.. وأن ندرك أن هذه الملكات الواجبة في المحامي ـ ليست تحديا للنيابة ولا لقدرات النيابة أو القضاء, وانما هي أقدار ومهام وأنصبة موزعة في محراب العدالة علي كل أن ينهض بنصيبه منها دون أن يتبرم بأداء وسعي الآخرين! وتضيع البوصلة من القضاء اذا لم يستوعب بسعة صدر وتمام ثقة وقوة يقين. أنه فوق هذه وتلك بالمنصة العالية التي يرتقبها وبالعدالة السامقة التي يتغياها ويسعي اليها ولايصرفها عنه صارف.. فاذا كانت الندية هي قوام تقارع الحجج بين النيابة والمحاماة, باعتبارهما يمثلان الاتهام والدفاع, فان السمو السامق هو عدة ومهمة القاضي والقضاء باعتباره القمة الموكول اليها الموازنة العاقلة الواعية الفاهمة المعتدلة المتجردة المنصفة بين هؤلاء وأولاء.. وأنها تفقد دورها السامق اذا صنفت نفسها بين الأخصام, ولم تدرك أنها عالية علي القمة هناك.. اليها الحكم والفصل ـ وأن هذا لم يجعل لها الا لكونها أسمق وأعلي وأكثر تجردا وآمن حرصا علي العدل ممن قد يصرفهم تقارع الحجج وزهو النجاح عن ادراك غاية ومكنون وجوهر العدالة.. لايستطيع القاضي ـ وهو الأعلي مقاما بحكم موقعه الموكول اليه ـ أن يسير بدعواه الي مرساها اذا ضاق صدره مهما اشتط أو طال الأداء, أو اذا ضاق صبره عن الاستماع أو اذا ظن أنه يستغني بعلمه عن الانصات, أو اذا سمح بترك أي انطباع يسري ـ خطأ أو صوابا ـ بأنه صاحب ميل أو أنه طرف من أطراف الخصومة, أو أنه يعتبر سعي النيابة أو اجتهاد المحاماة انتقاصا من وقته أو من قدرته علي الفهم والتقدير والموازنة.. هذه قدرات مفترضة فيه, والا ما ولي المنصة العالية, ودورها آت لاريب فيه حين ينطق حكمه فاصلا بالعدل بين ماسمعه من حجج وأدلة وبراهين الخصوم.. هذا هو فصل الخطاب الذي انعقد وينعقد للقضاء, أما ميزان الذهب في بيان وتقدير دور ومكانة كل ضلع من اضلاع هذا المثلث الذهبي, فدعونا نلتق واياه في حديثنا القادم مع عبد العزيز باشا فهمي شيخ القضاة والمحامين, في كلمته الضافية التي افتتح بها حفل انشاء محكمة النقض والابرام المصرية في5/ نوفمبر1921.