"رحمتك يا ألله.. صفحات مجهولة من تاريخ أمريكا" استحضرنا أسماء 3 قمم معرفية، ونحن نطلع على الكتاب الممتع والمزعج الذي حرره الصحفي الألماني الراحل يواخيم فرناو، والموسوم بـ"رحمتك يا ألله.. صفحات مجهولة من تاريخ أمريكا"؛ وهم: المفكر الأمريكي الألمعي نعوم تشومسكي، وإدواردو غاليانو من أوروجواي، ثم الأديب السوري منير العكش. استحضرنا تشومسكي وإداوردو غاليانو بحكم تشابه أسلوب الكاتب في النقد الجاد لممارسات الإدارة الأمريكية بأسلوب يوفق بامتياز بين السخرية والتهكم مع ما يصدر عن هذين المعلمين، واستحضرنا اسم منير العكش؛ لأن هذا الأخير أصبح أحد الأهم المراجع العالمية في كشف الغطاء عن فظائع الإبادة التي تعرضت لها قبائل الهنود الحمر هناك في الولايات المتحدة الأمريكية، ولو أن يواخيم فرناو لا يفصل كثيرا في هذا الموضوع، إلا أنه يعرج بين الفينة والأخرى عليه، مستشهدا بتصريحات وإقرارات تبعث حقا على التبصر العميق من فرط تأمل تبعاتها الميدانية على الهنود الحمر. صدر الكتاب في نسخته الأصلية باللغة الألمانية سنة 1997، ولم تصدر ترجمته للعربية التي جاءت في 336 صفحة إلا مؤخرا، وقد أعدها الكاتب والمحلل السياسي السوري ميشيل كيلو، ونشرتها مؤسسة "الحوار الثقافي البيروتية. أمريكا والذهب الذي يشفي الجراح يعرض المؤلف بأسلوبه الخاص ما جرى في أمريكا، بطريقة ساخرة ومسلية في آن؛ حيث يكشف عن خفايا ما جرى في أمريكا قبل الاستقلال وبعده، ثم يبحث في تشكيل هذا التجمع من الولايات بعد الاستقلال، وكيف صنع الدستور، والمشكلات التي نشأت بين ولايات الشمال وضغوطها على ولايات الجنوب، ومشكلات الأفارقة الذي سيقوا عبيدا إلى أمريكا، والحرب الأهلية ونتائجها، أو "حرب الانفصال"، كما يصفها الأمريكيون. ويدخل الكتاب في تفاصيل محاور القوى الأمريكية الاقتصادية والنافذة التي تحرك السياسات الأمريكية، والتي أثرت في مجرى التاريخ الأمريكي حتى يومنا هذا. ومن هذه السياسات تلك المتعلقة بإلحاق مقاطعات وولايات وأقاليم، نذكر منها -على سبيل المثال لا الحصر- ما حصل مع ولاية تكساس التي دخلت في الاتحاد سنة 1848، بعد حرب مفاجئة مع المكسيك. وحتى لا تحزن المكسيك دفع الأمريكيون خمسة عشر مليون دولار؛ فالذهب -في عرف أمريكا- يداوي الجروح ونزيف الدم خيرا من أي ضماد. وفي سنة 1854 كتبت أمريكا إعلانا وجهته إلى أوربا، تقول فيه: إن الولايات المتحدة تحتاج من أجل أمنها إلى كوبا، وأن لديها حقا "إلهيا" في انتزاعها من إسبانيا، بطريقة أو بأخرى. يوجز المؤلف أصول الشعب الأمريكي في قوم جاءوا ضمن شحنات بشرية حملتها السفن من إنجلترا قبل أجيال، وقد رسموا إشارة الصليب 3 مرات على وجهها لأنهم غادروها. لقد فقد هؤلاء الشعور بالراحة في موطنهم القديم، وذلك أمر مفهوم حسب فرناو؛ ذلك أن وعيهم المتغطرس الذي أوهمهم أنهم "أصفياء الله"، وحماستهم "الإيمانية الطهورية" كانا مما لا يمكن احتماله، وما إن نزل الآباء أرض أمريكا وهم يصرخون "المجد لله" ويجثون على ركبهم حتى أفسدوا الأجواء باستقامتهم المنافقة، وقناعتهم أن الله سيجزي أفعالهم بالنجاح والذهب الرنان. حسب فرناو كانت أمريكا الشمالية ستعرف مصيرا مختلفا كل الاختلاف، ربما كان شبيها بمصير إفريقيا، لو لم يتبن هؤلاء فكرة إبادة الهنود الحمر؛ أي أن البيض الذين هاجروا إلى أمريكا كانت ستبلغ بهم الأمور حدا إلى مغادرتها، وتحتفل بفضله عشرون أو ثلاثون دولة هندية بتحررها من نير السادة الكولونياليين، لولا أن الأمور أخذت مجرى مغايرا لذلك الذي شهدته إفريقيا مع الاستعمار البريطاني؛ فلا يرى المؤلف إلا سببا واحدا -يبدو سخيفا للوهلة الأولى- هو أن شمال أمريكا لم تعرف آفتي إفريقيا: الملاريا وذبابة التسي تسي. وقد يتسم هذا القول بعمق خفي لا يبدو للناس؛ فالبريطانيون لم يفتقروا إلى العزم الصادق على إبادة سكان إفريقيا، وإنما هم أخفقوا بسبب هاتين العقبتين غير البرلمانيتين اللتين وقع اختيار الأقدار لهما. جناية الهنود على أنفسهم! مشكلة الهنود وتحديدا في القرن السادس عشر هي أن السكان البيض قد بدءوا يبيدون ببنادقهم مناطق صيدهم الواقعة في محيط المستعمرات؛ ولذلك تعلم الهنود كره البيض، وهو الكره الذي جعل اندثارهم فيما بعد أمرا حتميا، وحال بينهم وبين إنقاذ أنفسهم، والتحول بسهولة إلى ماسحي أحذية وخدم مصاعد -على غرار ما حصل مع السود- فبدلا من أن يتخلى الهنود عن مناطقهم الضائعة بطريقة ليبرالية يغمرها التسامح، ويفكروا بطريقة عقلانية ويسترخوا؛ فقد فعلوا شيئا يفضي إلى قتل من يواجه جبابرة العالم: آمنوا بحقهم! مع أن الولايات المتحدة أصبحت يوما عملاقا ضخما مساحته حوالي مليوني كيلومتر مربع؛ فإنه كان عملاقا فارغا، بالرغم من أنه سيمتلئ في مائة عام، وسيكون أسطورة الإنسان الأبيض؛ فقد حلم جيفرسون دوما بهذه الأسطورة، وكان يظن أن بلوغها يتطلب أول ما يتطلب تصفية حساب الهنود الحمر التي عرف في ساعاته السوداوية كيف ستكون؟ وأي أشكال ستأخذ؟ ومع أندرو جاكسون الذي انتخب سنة 1829 رئيسا للولايات المتحدة بأغلبية كبيرة، وبتأييد سكان الغابات، لم تكن الأمور أفضل من غيره، حتى أنه لُقب بـ"قاتل الهنود"، ويعتبر في آن مؤسس ما عرف باسم "نظام الغنيمة"، وهي عبارة يراد بها التعبير عن أن جهاز الدولة ومناصبه هي غنيمة للرئيس وأعوانه. "إن هدفي الأعلى في هذا الصراع هو إنقاذ الاتحاد وليس حماية العبودية أو القضاء عليها. إذا كان باستطاعتي إنقاذ الوحدة دون أن أحرر عبدا واحدا، فإنني لن أتردد في فعل ذلك". صدر هذا "الاعتراف المتأخر" -كما يصفه فرناو- عن أبراهام لنكولن، رجل الدولة الكبير الذي أصبح اسمه بالطبع لصيقا بإلغاء العبودية هناك، لولا أن "الصدمة" التي يثيرها مؤلف "رحمتك يا ألله" هو أن السبب لم يكن يوما مرتبطا بنزعة إنسانية، بقدر ما كان رهينا بما يجري في شارع يحمل اسم "وول ستريت"، دون سواه؛ حتى إن الكاتب يتساءل: "ألا يكون الإلغائيون مجرد أغبياء؟ (والإلغائيون كانت حركة جد قوية في الشمال، أيدت التخلص النهائي من العبودية عبر الانفصال عن دول الجنوب)، لقد كانوا -ويتحدث دائما عن الإلغائيين- يفضلون الانفصال عن الجنوب بدل تحميل ضمائرهم جرم عشرات أو مئات الآلاف من القتلى. والواقع أنهم لم يكونوا أغبياء؛ حتى لا نكون سذجا أكثر من اللازم، بل كانوا جاهلين تماما بالأهداف التي كان "وول ستريت" يضعها نصب عينه. الحل في وول ستريت كان لزاما إذن حل مشكلة الهنود حلا بيولوجيا نهائيا، وقد نطق تيودور روزفلت في فترة لاحقة بالجملة الفظيعة التالية: "لو تركنا للهنود أراضي الصيد الخاصة بهم لوضعنا قارتنا تحت تصرف همج قذرين متوحشين؛ لذلك لم يبق أمامنا خيار غير إبادتهم". وروزفلت للتذكير حاز على جائزة نوبل للسلام سنة 1906! في الواقع كان ممكنا تصور سيناريو أقل دموية، مفاده أن الهنود والسود كانوا سينجون لو أنهم لعقوا حذاء المنتصر وأقروا أنهم حشرات! ولكن أي زمن يكتنفه العذاب لا يملأ كتبا كثيرة، بل يتم تجاوزه بعدد قليل من الأسطر. ثم من يُسأل اليوم عن هذا؟ أليس التعامي عن التاريخ أمرا مستحبا؟ ألم يكتب يوما مارك توين -في مطلع القرن العشرين- أنه على "الولايات المتحدة الأمريكية أن تستبدل بنجوم عَلمِها جماجم القتلى"؟. ليس ثمة شعب اشترى واستعبد ملايين البشر من السود، وذبح في قرنين مليون هندي أحمر، لم يكن لشعب أن يفعل هذا إلا عندما يكون مصابا بالجنون. من أكثر العبارات دلالة على رسالة الكتاب ما افتتح به المؤلف الفصل قبل الأخير من كتابه الشيق والقلق، حين تحدث عن عالم "ينقسم في نظر الأمريكيين إلى قسمين: شعوب شريرة تلك التي يجب تأديبها، وآخرين يريدون أن يكونوا أخيارا مثلنا"!. أما آخر كلمات الكتاب فنعتقد بتواضع أنها توجز بامتياز أهم سمات نظام ما بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن، والمثير للانتباه هنا أن الكاتب ولد سنة 1909، وتوفي سنة 1988 في فلورانس؛ أي أنه لم يشهد أصلا سقوط جدار برلين، وبالتالي انهيار المنظومة السوفيتية، وبزوغ فجر النظام العالمي الجديد"، ومع ذلك نقرأ له "البيان" التالي: المستقبل مضمون لنا، فإذا ربحت نزعة الأمركة فإنها ستدمر البشرية خلال مائة وخمسين سنة، وستواصل الأرض بعدها دورانها في الفضاء الكوني ككوكب المريخ. أما إذا ربح الخير فإن البشرية ستعيش ما قدر الله لها أن تعيش. وفي الحالتين: "رحمتك يا ألله"!.