إن الكلمة الأولى التي تنزلت على رسول الله { في غار حراء لم تكن نفياً أو سلباً، لم تقل: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن الخ وإنما كانت تأكيداً وإيجاباً وأمراً بفعل معرفي هو القراءة: اقرأ باسم ربك الذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الذي علم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) (العلق). القراءة والعلم والقلم، تلك هي المفردات التي تضمنتها الآيات الأولى في السورة الأولى من التنزيل، والتي وضعت المسلم في قلب العالم وليس بعيداً عنه أو منفياً منه. ليس هذا فحسب، بل إن الدلالة المعرفية تمتد إلى عمق زمني أبعد، إلى لحظة خلق آدم عليه السلام الذي علم الأسماء كلها ومنح آدم وذريته من بعده، الاستعداد العقلي والجسدي لممارسة دورهم العمراني في العالم وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين 31 قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم 32 قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون 33 (البقرة). ولقد تضمن القرآن الكريم دعوة واضحة مؤكدة إلى أن ننظر إلى الأمام، وألا نلتفت للوراء. إن هذا الالتفات له ضرورات محددة في حالة التلقي عن الآباء والأجداد معطيات تشريعية أو تراثاً معرفياً، قد تستهدي به الأمم لتبين مواقع الخطأ والصواب، أما أن يكون عملاً لا وعيياً يقوم على التقليد الأعمى فسيجعلنا في حالة تعارض مع ما يريده القرآن الذي نعى على المشركين والمتخلفين أنهم كانوا يتشبثون بما فعله الآباء والأجداد بغض النظر عن مدى سلامة هذا الفعل ومنطقيته: قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا (يونس:78)، إنا وجدنا آباءنا على" أمة وإنا على" آثارهم مقتدون 23(الزخرف). وهي هداية معكوسة يرفضها الإسلام أشد الرفض. إن توينبي، المؤرخ البريطاني المعروف، يشير إلى نمطين من التعامل مع معطيات الآباء، نمط التقليد الأعمى في مرحلة السقوط الحضاري، ونمط الاقتداء بالنخبة المبدعة وخبراتها الحيوية في مرحلة النهوض الحضاري، والقرآن الكريم يرفض الأولى لأنها تقود إلى التخلف والسكون. إن القرآن الكريم يضعنا في مساحات واسعة منه في قلب التاريخ بحثاً عن المغزى.. عن صيغ العمل في الحاضر والمستقبل: لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى" ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون 111 (يوسف). ولكنه في الوقت نفسه يحررنا من التاريخ لكي نتمحض للحاضر ونتحرك صوب المستقبل، دون أن تعيقنا وتنقل كواهلنا أعمال الأجيال الماضية: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون 141 (البقرة). وطالما أكدت المعطيات القرآنية والنبوية رفضها لهدر الطاقة التي تعمل أحياناً في غير مجالاتها المرسومة. إن الرسول { يقول: "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله". إنه ها هنا يدعونا للتفكير في الخلق الذي يقود إلى العلم والتكنولوجيا، بموازاة تأكيد إبداعية الله في العالم، والإيمان بوحدانيته سبحانه، ويحذرنا من التفكير في الذات الإلهية التي تعلو على الأفهام، وتستعصي على القدرات البشرية، وهو التفكير الذي يقود إلى ال "ما ورائيات" والتعامل التجريدي مع "واجب الوجود" و"متناهي الأول" والميتافيزيقا، وما يتمخض عن هذا كله من هدر للطاقة العقلية. إنه يريدنا أن نتعامل مع الكتلة الكونية وأن نكشف عن قوانينها لتنمية الحياة التي سخرت إمكاناتها للإنسان من أجل التحقق باستخلافه العمراني في العالم، بدلاً من هدر الطاقة فيما هو خارج عن حدودها وإمكاناتها وضرورات صيرورتها الحضارية في الأرض. إن القرآن بتأكيده الملحوظ على قيم المعرفة والتقدم والاكتشاف وضع المسلم في البداية الصحيحة والضرورية للفعل الحضاري ودفعه إلى الانطلاق لصياغة حضارة كان لها دورها المؤكد في تاريخ الحضارات البشرية. ولا تزال.