نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
الخديعة الكبرى: هل ينقلب السحر على الساحر..؟
يطنطن السيد شارون وأبواقه حول موضوع الانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة، بعد إجلاء المستعمرين منها وتدمير مستعمراتها، ويزيد ويعيد حول صعوبة ذلك وما يواجهه من معارضة شديدة وعنيفة من سكان المستعمرات، مما أجبره على توجيه تهديدات لهم، ولقد كان راعيهم وحاميهم، بل الدافع لهم إلى استعمار أرض الغير والاستقرار عليها، بإجلائهم بالقوة. وإزاء هذا المشهد الدرامي نرى الأميركيين يتعاطفون معه، فها هو الرجل اليميني المتطرف، الذي شجع ودفع إلى استعمار كل أرض فلسطين التاريخية، ليزرع فيها جذورا لبقاء إسرائيلي غير شرعي، وحتى يضع العالم أمام الأمر الواقع، وهذا هو الرجل الذي كان يجاهر بأنه يرفض إجلاء أية مستعمرة، وإخلاء أية أرض احتلتها إسرائيل أثناء عدواناتها المتكررة، يتخذ خطوة وصفها الأميركيون بأنها تنازل شجاع ينقله من صف الصقور إلى صف الحمائم، حتى إذا كلفه هذا غضب مؤيديه الذين اغتالوا رابين لأنه خطا خطوات نحو احتمال تسوية عادلة.
وإزاء هذا المنظر، ومن واجبنا أن نكشف حقيقة تلك الخديعة الكبرى التي يروجون لها بالقول والصوت والصورة، إزاء صمت قد يكون لسان حال أن كل شبر نسترده هو خطوة إلى الأمام، وأنا قطعا اتفق مع هذا المبدأ، ولكني قطعا أيضا أرى أنه يجب أن يتم ذلك في وعي كامل بمقاصد الطرف الآخر وأهدافه البعيدة، حتى لا تعمينا الشجرة عن الغابة كما يقولون. وقد فطنت مصر منذ اللحظة الأولى بعد لحظة دهشة تصور خلالها البعض أن النمر قد يستطيع أن يغير خطوطه ـ كما يقول المثل ـ، إلى حقيقة الأمر، وتحركت كما سنوضح فيما بعد على أساس الواقع لا الوهم، والنظر إلى الأمام وليس تحت الأقدام.
ولنبدأ أولا بتفكيك الخديعة إلى أجزائها الأصلية والحقيقية، لنوضح النقاط التالية:
1 ـ ان انسحاب إسرائيل من قطاع غزة فكرة راودت زعماءها منذ فترة طويلة، وما زلت أذكر أنه في يناير 1987، عندما قرر الرئيس السادات استدعاء الوفد المصري الذي كان يشارك برئاسة وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل في اجتماعات اللجنة السياسية الثلاثية في إسرائيل، جلسنا في مطار بن جوريون ننتظر الطائرة المصرية لتعود بنا إلى الوطن، وكان معنا ـ لمدة ثلاث ساعات موشي ديان، الذي كان حديثه يدور حول استعدادهم لإعادة قطاع غزة إلى مصر، وكان رد مصر أننا لا نقبل تجزئة جديدة لأرض فلسطين، وان المطلوب هو انسحاب إسرائيل من كل الأراضي المحتلة في يونيو 1967.
2 ـ ان السبب في هذا الموقف الإسرائيلي هو أن الكثافة السكانية في غزة تجعل بقاء قوات الاحتلال معرضا باستمرار لمخاطر، وبالتالي فان التخلص من القطاع بثمن معقول يأخذونه من بقية اللحم الحي هو غنيمة وليس تنازلا. وهذه الفلسفة الإسرائيلية بالتخلص من منطقة صداع مستمر عن طريق المساومة عليها، ومحاولة الظهور بمظهر المتنازل الكريم حبا في السلام، هي فلسفة دائمة تسير عليها إسرائيل .
3 ـ أعاد شارون احياء الفكرة لأنه وجد أو تصور أنه وجد فرصة لكي يبيع غزة ـ التي هي عبء عليهم أصلا ـ ثلاث مرات ـ مرة مقابل تحسين سمعته وخداع العالم بانه رجل سلام وانه معتدل، وانه مخلص في الرغبة في التوصل إلى تسوية، ومرة ثانية بأن يكسب بالصفقة وبما يحيك به تنفيذها عمدا من مناظر درامية يختلقها، فرصة يدعي أنها لالتقاط الأنفاس، ولكنها في الحقيقة لتأكيد قبضته على الضفة الغربية والقدس وراء ضباب حسن النوايا المزعومة، ومرة ثالثة بالحصول على معونات إضافية من الولايات المتحدة، قدرها مؤقتا بما يقارب البلايين الثلاثة ـ بحجة تغطية نفقات إجلاء المستعمرين وتعويضهم وهدم مباني المستعمرات ـ التي لا تصلح في زعمه وزعم غيره للفلسطينيين، ونقل القواعد العسكرية.
4 ـ ولعله يتطلع إلى بيع الصفقة مرات اكثر، منها استمرار الحصار على الفلسطينيين، والوقيعة بين القوى الفلسطينية، ومحاولة توريط مصر في مسؤولية حفظ الأمن والنظام في غزة، في ظروف من التوتر خلقها هو باستفزازاته، ومن هنا فإني أطلقت على خطة شارون للانسحاب من غزة لقب عملية النصب أو عملية الخديعة الكبرى، فهي بعيدة في جوهرها عن أن تكون حركة حسن نوايا، لأن نتيجتها في تصوره أن يتظاهر بالابتعاد عن غزة ولا يتخلى عن إبقائها أسيرة، وبؤرة تلعب فيها الأصابع الإسرائيلية القذرة، فيبيعها كما ذكرت اكثر من مرة، ويقبض أثمانا كثيرة وكبيرة دون أن يورد في حقيقة الأمر البضاعة.
5 ـ واقترن هذا بإضعاف السلطة الفلسطينية بإظهارها في مظهر العاجز عن الحصول من إسرائيل على الالتزام بالفعل بما تم الاتفاق عليه، والوقيعة بينها وبين القوى الوطنية الفلسطينية عن طريق عمليات استفزازية تؤدي إلى الرد عليها بقوة إسرائيل، كخرق لاتفاق الهدنة، فتضطر السلطة إلى اتخاذ إجراءات تؤدي إلى صدامات فلسطينية ـ فلسطينية تسيل فيها دماء زكية، وبذلك يشوه صورة الفلسطينيين كلهم ـ سلطة أو غير سلطة ـ بإظهار بعضهم كذبا وبهتانا في صورة المتعاونين مع إسرائيل، والبعض الآخر بأنهم يجهضون فرصة حقيقية للاقتراب من السلام، والبعض الثالث بأنهم يعملون بإيعاز قوى خارجية، مما يوغر الصدور ضد هذه القوة ويفتح الطريق أمام توجيه ضربات إليها.
6 ـ وفي نفس الوقت وتحقيقا لهذا المخطط الشيطاني، فشارون يصر على أن يكون تحركه في غزة من جانب واحد، قد يقبل في مرحلة ما التنسيق، وقد يقبل التباحث والمناقشة، ولكنه أبدا لا يقبل ان تكون «خطة الانسحاب من غزة» محل اتفاق ثنائي أو ثلاثي، لأنه لا يريد أن يربطها بخريطة الطريق، التي تتضمن خطوات محددة ومبرمجة للوصول إلى تسوية تشمل الضفة الغربية بما فيها القدس.
فهو يريد «غزة أولا وأخيرا» ولا يريد أن يعوق تنفيذ ذلك أي تدخل خارجي يلزم بخطة شاملة سبق أن تظاهر بالموافقة عليها بينما كبلها بتحفظات هي السم الزعاف ذاته، وتأكيدا لذلك فإنه استمر في بناء الجدار التوسعي العنصري الذي ادانته محكمة العدل الدولية بسرعة متزايدة، وخاصة في الجزء الذي يستهدف الفصل الكامل بين الفلسطينيين والقدس، ليس لأنه يفكر في الانسحاب من جزء من الضفة في مرحلة لاحقة، بل لأنه يريد الفصل بين قدس مهودة تماما، وأراض يسكنها فلسطينيون لا أمل لهم في استقلال، ولا صلة بينهم وبين المدينة المقدسة، بل هم أسرى لاستعمار لا يعترف لهم بحق سياسي أو معنوي أو ديني، وذلك إمعانا في إذلالهم. وفي اعتقادي أن هذا كله من مخططات يمكن أن ينقلب إلى أوهام تنفجر في وجهه.
7 ـ يضاف إلى ذلك كله محاولة استدراج مصر إلى تحمل مسؤولية الأمن في الجزء الفلسطيني المتاخم لحدودها المسمى بممر فيلادلفيا أو صلاح الدين.
وقد فطنت مصر منذ اللحظة الأولى إلى هذه الألاعيب والشراك الخداعية، ورغبة إسرائيل في بيع الأوهام فاتخذت موقفا واضحا من واقع مسؤولياتها الوطنية والقومية، ورغبتها الحقيقية الصادقة في دفع الأمور في طريق تسوية عادلة، فأعلنت منذ البداية أنها لا يمكن أن تعارض أو تعرقل انسحابا إسرائيليا من أي أرض محتلة، وفي نفس الوقت فإنها تصر على وضع أي انسحاب جزئي في إطار تحرك شامل وفقا لخريطة الطريق، التي تؤدي إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، كما أنها تصر على أن يكون الانسحاب انسحابا حقيقيا شاملا، يتم في ظروف لا تجعل من القطاع سجنا كبيرا أو (جيتو)، وفي نفس الوقت فان مصر بذلت وتبذل جهودا مع الفلسطينيين ـ سلطة ومنظمات ـ لكي يتجنبوا الوقوع في فخ الاستفزازات الإسرائيلية التي تستهدف الوقيعة بينهم ودفعهم إلى حرب أهلية تغرق القضية في دمائها.
وليس من المنطقي أن تظل مصر وحدها في الميدان لإفشال المخططات الإسرائيلية، فعلى أميركا وبما لها من نفوذ على إسرائيل أن تتدخل بقوة وأن تتدخل معها بقية المجموعة الرباعية، بل المجتمع الدولي كله، حتى لا يحقق شارون أهدافه الخبيثة التي يحاول إخفاءها تحت ستار من الدعاوى والمؤامرات، وعلى كل الأطراف العربية أن تتحرك منفردة ومتحدة في نفس الاتجاه، ولكن مسؤولية رئيسية تقع على الشعب الفلسطيني ومنظماته التي يجب عليها أن توحد صفوفها وتتجاوز خلافاتها، وتمتنع عن توجيه السلاح الفلسطيني ضد الفلسطيني، حتى تتركز كل الجهود لكي ينقلب السحر على الساحر ويبرز من جديد بعد انقشاع ضباب شارون ومخططاته، الهدف الذي يجب ألا يغيب أبدا وهو تحرير الأرض المحتلة في 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

جريدة الشرق الأوسط    23/07/2005