نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
قبل انفراط العقد الفريد
بقلم : فهمي هويدي
في الفضاء المصري الآن كلام كتير وحوار مقطوع‏.‏ ولكي يتحول الكلام إلي جمل مفيدة‏,‏ فلا بديل عن التواصل بين الذين ارتفعت أصواتهم داعية إلي الإصلاح والتغيير‏,‏ أملا في أن يصوغ هؤلاء من الصخب الراهن خريطة طريق للعمل الوطني في المرحلة المقبلة‏.‏
ومن ثم أزعم أن التئام الجميع في مؤتمر وطني لهذا الغرض هو واجب الوقت بامتياز‏.‏
‏(1)‏ خلال الأسابيع الخمسة الأخيرة تلقيت ست دعوات من تجمعات مصرية جديدة لمناقشة موضوع الإصلاح السياسي ومستقبله‏,‏ لبيت بعضها واعتذرت عن بعضها الآخر لأسباب عدة لا مجال للخوض فيها الآن‏.‏ وكان أحدث تلك الدعوات يوم الخميس الماضي‏.‏ لمجموعة من المثقفين شغلهم الهم الوطني والقومي‏,‏ استشعروا أهمية ترشيد الخطاب السياسي في المرحلة الراهنة‏,‏ وتجنيبه مزالق الانكفاء علي الذات‏,‏ أو ابتعاده عن الهموم المعيشية للناس‏,‏ أو ضعفه أمام فكرة الاستقواء بالخارج‏.‏ وكان من أهم ماأثير في ذلك الاجتماع الأول أمران‏,‏ الأول ضرورة توسيع قاعدة المشاركين‏,‏ بحيث يمثلون قدر الإمكان المثقفين الوطنيين في مصر‏,‏ والثاني ضرورة تحديد المبادئ والقواسم المشتركة بين أولئك المثقفين‏.‏ التي يستدعيها أو يفرضها الموقف الوطني الصحيح في المرحلة الراهنة‏.‏ ولأن انجاز المهتمين مما يحتاج الي وقت للاتصال والدراسة‏,‏ فقد اتفق علي عقد اجتماع آخر بعد أسبوع لمواصلة البحث فيهما‏.‏
قبل أسبوع من ظهور تلك الفكرة في الأفق أعلن في القاهرة عن تشكيل كيان باسم التجمع الوطني للتحول الديمقراطي الذي انضم إلي قائمة الكيانات والهياكل التي برزت في الساحة السياسية المصرية تحت العناوين التالية‏:‏ الحركة المصرية من أجل التغيير‏(‏ كفاية‏)‏  الحملة الشعبية من أجل التغيير‏(20‏ مارس‏)‏  الجبهة الوطنية من أجل التغيير  شباب من أجل التغيير  صحفيون من أجل التغيير  محامون من أجل التغيير  عمال من أجل التغيير  حركة‏9‏ مارس‏(‏ المدافعة عن استقلال الجامعات‏)‏
إلي جانب تلك التجمعات بدا حضور المرأة في الساحة مدهشا ومثيرا‏,‏ فقد ظهرت في الأفق في أعقاب ماجري في يوم الاستفتاء‏(5/25)‏ رابطة الأمهات المصريات‏,‏ وهي حركة استهدفت الاحتجاج علي الانتهاكات التي حدثت في ذلك اليوم‏,‏ وسعت إلي تفعيل المواطنين وتوسيع دائرة الاحتجاج السلمي بأسلوب رمزي‏(‏ ارتداء الثياب السوداء في‏6/10)‏ وفي الوقت نفسه ظهرت مجموعة نسائية أخري قدمت نفسها تحت اسم حملة الاعتذار‏,‏ وقد ضمت بعض ربات البيوت اللاتي أغضبهن ماتعرضت له النساء في أثناء الاستفتاء‏,‏ فوزعن أشرطة بيضاء لاعلان اعتذارهن باسم المجتمع للاتي تعرضت للانتهاكات‏,‏ وطالبن باعتذار مماثل من جانب السلطة‏.‏
خلال الأيام العشرة الأخيرة طورت كل مجموعة مهمتها‏.‏ فرابطة الأمهات ارتأت أن تتبني برنامجا للدفاع عن حقوق الانسان في مصر‏.‏ وحملة الاعتذار قررت أن تنهض بمهمة مراقبة الانتخابات القادمة‏,‏ بدلا من الرقابة الأجنبية التي يجري تداولها الآن‏,‏ واتجهت إلي تخصيص موقع إلكتروني اخترن له إسم شايفينكو ‏(‏ عنوانه شايفينكو دوت كوم‏)‏ لكي يتولي المواطنون المشاركون في الانتخابات تقديم شهاداتهم عما رأوه في الدوائر الانتخابية المختلفة‏.‏ فضلا عن هذا وذاك‏,‏ ظهرت مجموعة باسم نساء مصر ضمت فريق عمل‏,‏ رفع شعار الشارع لنا استلهمته المجموعة من محاولة الأمن المركزي إقصاء المتظاهرين من الشارع وقمن بالرد علي ذلك‏,‏ عن طريق الإعلان عن أن الشارع هو ملك للناس ولا وصاية للأمن عليه‏.‏ وهذا التحرك شجع ثماني جمعيات أهلية مشتغلة بالدفاع عن حقوق المرأة‏,‏ علي الائتلاف فيما بينها‏,‏ وتبني الدعوة إلي ضرورة التغيير‏,‏ فيما يمكن أن يوصف بأنه جبهة نسائية ألقت بثقلها في الساحة إلي جانب معسكر دعاة الإصلاح السياسي‏.‏
‏(2)‏ إذا أحصيت المجموعات التي أشرت إليها‏,‏ وأضفت إليهم نخبة المثقفين الذين لايزال مشروعهم تحت التشكيل‏,‏ فستجد أن عددها وصل إلي‏14‏ مجموعة‏.‏ وهذا الإحصاء ليس حصريا بطبيعة الحال‏,‏ فلم يشر إلي نادي القضاة أو النقابات المهنية أو نوادي هيئات التدريس بالجامعات مثلا‏,‏ فضلا عن أنني لاأستبعد أن تكون هناك تجمعات أخري للناشطين تتحرك دون مسميات‏.‏ مع ذلك فالقدر المعلن من التجمعات والابداعات الحاصلة في التحرك والتعبير عن الاحتجاج السلمي‏,‏ يقطع بأن الشارع المصري يموج بحيوية غير مسبوقة‏,‏ لا أعرف لها مثيلا في التاريخ المصري المعاصر‏.‏
حين يدقق المرء في الصورة من هذه الزاوية‏,‏ فإنه يخلص إلي مجموعة من الانطباعات والملاحظات في مقدمتها مايلي‏:‏
‏*‏ أن كل هذه التجمعات تتحرك خارج الأطر والهياكل السياسية التقليدية‏,‏ الأمر الذي يعني مباشرة أنها لم تجد في التسعة عشر حزبا شرعيا المصرح بها في البلاد  بما فيها أحزاب المعارضة  وعاء كافيا يمكن أن يعبر عن تطلعاتها وأشواقها‏.‏ وإذا صح ذلك فإنه يغدو استفتاء سلبيا يقدح في صدق تمثيل تلك الأحزاب للمجتمع‏.‏ خصوصا الحزب الوطني الذي يدعي تمثيل الأغلبية الساحقة‏,‏ ويمارس بهذه الصفة هيمنة مشهودة علي كل المجالس المنتخبة في البلاد‏.‏
‏*‏ أن القاسم المشترك الأعظم بين تلك الدعوات أنها جميعا تجاوزت حاجز الانكفاء والخوف‏,‏ وأصرت علي المطالبة بالتغيير الديمقراطي‏,‏ وتمسكت في ممارساتها بالأساليب السلمية والقانونية‏.‏
‏*‏ أنها تجمعات عابرة للأيديولوجيات ورافضة للتصنيفات السياسية والطائفية والجنسية‏.‏ حتي أزعم أن كلا منها أصبح أقرب مايكون إلي مصغر الجبهة الوطنية‏,‏ الذي انخرطت وانصهرت فيه مختلف التيارات السياسية والفكرية والعقيدية ومختلف المراحل العمرية والطبقات الاجتماعية‏.‏ وكما أن للنساء حضورهن القوي في التجمعات الرجالية  إذا جاز التعبير  فان للرجال حضورهم المماثل في أنشطة التجمعات النسوية‏.‏ وفي تقدير بعض الخبراء فإن‏40%‏ من حضور المؤتمرات التي تدعو إليها تلك الجمعيات الأخيرة من ناشطي الرجال
‏*‏ أن وسائط الاتصال الحديثة‏,‏ الهاتفية والإلكترونية‏,‏ كانت الأداة الرئيسية التي اعتمدت عليها تلك التجمعات في توجيه تعميمات التعبئة والاحتشاد‏,‏ وإقامة شبكة علاقات واسعة مع مختلف فئات المجتمع‏.‏ وهو ماألغي تماما دور البيانات والمنشورات‏,‏ ومن خلال تلك الوسائط نجحت التجمعات المختلفة في مخاطبة الرأي العام وإثبات حضورها في ساحة الفعل السياسي
‏(3)‏ احذر من ثلاث خطايا‏:‏ الاختطاف والانكفاء والانفراط‏.‏ وإذا سألتني كيف ولماذا‏,‏ فردي أبسطه علي النحو التالي‏:‏
مظنة الاختطاف واردة من جانب الولايات المتحدة‏,‏ التي يدعي قادتها أنهم أخذوا علي عاتقهم مهمة التبشير بالديمقراطية في العالم العربي والإسلامي‏(‏ لاتسألني لماذا تجاهلوا أفريقيا وأمريكا اللاتينية‏).‏ ودأب إعلامهم وأبواقهم علي الادعاء بأن تباشير الديمقراطية إذا ماظهرت في أي مكان في عالمنا‏,‏ فذلك من بعض فضل الادارة الأمريكية وجهودها‏,‏ وضغوطها أحيانا‏.‏ ولا يستطيع أحد أن ينكر أن ثمة رياحا مواتية الان لاطلاق دعوات الإصلاح السياسي‏,‏ يستفيد منها الناشطون علي ذلك الصعيد في كل مكان‏.‏ ولكن الادارة الأمريكية ليست المصدر الوحيد لتلك الرياح‏.‏ وإنما هناك دور آخر في ذات الاتجاه لايمكن تجاهله‏,‏ تقوم به هيئات عالمية أخري‏.‏ مثل منظمات حقوق الانسان وهيومان رايتس ووتش والعفو الدولية‏.‏ وكان للأخيرة اشتباكها مع الادارة الأمريكية في الأسبوع الماضي بسبب تشبيهها السجون الأمريكية بمثيلاتها السوفيتية في عهد ستالين‏.‏
وهناك فرق لاريب بين التفاعل مع أجواء مواتية قادمة من الخارج‏,‏ وبين الانخراط في جهود وأجندة قوي الخارج‏,‏ ومن أسف أن الأبواق الأمريكية تحاول دائما الايحاء بأن مايجري في العالم العربي والاسلامي من تجليات الصنف الثاني وليس الأول‏.‏ وهو ادعاء يراهن علي ضعف ذاكرة المتلقين أو غبائهم‏.‏ إذ فضلا عن سوء سمعة الولايات المتحدة في مجال انتهاكات حقوق الانسان في داخل البلاد وخارجها‏,‏ فالثابت تاريخيا أن واشنطن لم تلجأ إلي رفع شعار الدفاع عن الديمقراطية إلا بعدما تبين كذب ادعائها بوجود أسلحة للدمار الشامل في العراق‏,‏ أو وجود علاقة بين النظام البعثي وتنظيم القاعدة‏.‏ وبالتالي فإنها لم تجد غير مشجب الديمقراطية تعلق عليه دافعها الي غزو العراق واحتلاله‏.‏
من المفارقات في هذا الصدد أن بعض التجمعات الاحتجاجية التي ظهرت مؤخرا‏(‏ الحملة الشعبية من أجل التغيير‏)‏ خرجت من رحم الغضبة الشعبية التي أطلقت في مصر‏,‏ رفضا للغزو الأمريكي للعراق‏,‏ الأمر الذي يعني أنه إذا كان للأمريكيين من دور فيما يجري في مصر‏,‏ فانه يكاد يكون محصورا في استفزاز الجماهير وإشعارها بالمهانة‏,‏ الأمر الذي دفع الناس الي رفع اصواتهم احتجاجا واعتراضا علي السياسة الأمريكية في المنطقة‏.‏
أما مادفعني الي التحذير من الوقوع في خطيئة الانكفاء‏.‏ فهو تلك التعليقات الأمريكية التي أشادت بتحرك الشارع المصري ومطالبته بالديمقراطية وانشغال المجتمع بقضية الإصلاح السياسي‏.‏ ولم يكن مصدر الإشادة هو الإعجاب بما يجري‏,‏ بقدر ما انه كان تعبيرا عن الارتياح لأن انشغال الشارع المصري بمسألة الديمقراطية والإصلاح جعل الناس ينكفئون علي أوضاعهم الداخلية‏,‏ الأمر الذي ألهاهم وصرف انتباههم عما يجري في العراق وفلسطين‏.‏
لقد سمعت من قال إن الخروج المصري الي الشارع للمطالبة بالتغيير والإصلاح حدث نادر‏,‏ إذ اعتاد المصريون أن يتظاهروا تضامنا مع الاخرين‏,‏ ولكنهم قليلا ما فعلوها للدفاع عن حقوقهم‏,‏ والمحظور الذي احذر من الوقوع فيه أن يتصور البعض أن علينا ان نختار بين هذا الموقف أو ذاك‏.‏ وتلك صياغة جد مغلوطة‏,‏ لأن استعادة مصر عافيتها السياسية والثقافية والاقتصادية شرط لفاعلية دورها في تحمل مسئوليتها القومية‏.‏ كما يجب أن يدرك الجميع ان الاهتمام المصري بما يجري في فلسطين والعراق ليس صادرا عن مجرد التضامن مع الأشقاء ولكنه أيضا جزء من استراتيجية الدفاع عن الأمن القومي المصري ذاته‏.‏ وهذا التصويب للروية مهم للغاية‏,‏ لتفويت الفرصة علي الذين يدعون الي الانكفاء أو يتمنونه‏.‏
بقي المحظور الثالث المتمثل في الانفراط‏,‏ وهو يحتاج الي وقفة خاصة‏.‏
‏(4)‏ ذلك ان المراقب للمشهد السياسي المصري‏,‏ إذ ينتشي بما يراه ويحتفي به‏,‏ لابد ان يخطر له في النهاية السؤال ماذا بعد  شئ جيد لاريب ان يفرز الحراك السياسي والاجتماعي كل حين تجمعا جديدا تحركة الغيرة علي الوطن ويتعلق ناسه بحلم استعادته عافيته‏.‏ ولاشك ان ظهور‏14‏ تجمعا وطنيا في الساحة هو من ارهاصات تلك العافية‏.‏
ولكن هل يستمر الأمر علي هذا النحو؟ والي متي؟ وألا يخشي ان يفتر حماس البعض بعد حين‏,‏ الأمر الذي يفتح الباب للتسرب والانفراط‏,‏ ويبدد وهج اللحظة التاريخية التي تعيشها البلاد‏,‏ وهو احتمال لا أستبعد ان يرهن عليه البعض‏,‏ وربما سعوا الي التعجيل بحدوثه‏.‏
فكرة الدعوة ألي موتمر وطني للاصلاح السياسي‏,‏ تشارك فيه كل التجمعات الموجودة في الساحة‏,‏ كما تشارك فيه الأحزاب التقليدية ايضا‏,‏ تبدو حلا يقطع الطريق علي ذلك الاحتمال الذي أتخوف منه‏.‏ ولست الوحيد الذي يدعو الان الي هذه الفكرة‏,‏ فقد سبقني إليها آخرون‏,‏ ممن أدركوا أننا أشد مانكون حاجة الي خطة طريق للاصلاح السياسي‏(‏ اعتذر عن استخدام المصطلح سيئ السمعة‏)‏
ولعلي افضل ان يسبق ذلك المؤتمر الوطني اجتماع لممثلي التجمعات الوطنية التي ظهرت معبرة عن الشارع خلال الأشهر الأخيرة‏,‏ يبلورون فيه رؤيتهم ويحددون مطالبهم وأولوياتهم‏,‏ ويقدمونها الي المؤتمر الكبير الذي تمثل فيه الأحزاب الشرعية
ثمة تفاصيل كثيرة في الموضوع‏,‏ لكن ماأود التأكيد عليه هو ان اللحظة الراهنة يجب أن تستثمر لصالح عافية البلد وحلمه‏,‏ قبل أن ينفرط العقد الفريد الذي نراه في الشارع المصري‏,‏ وقبل ان تختطف اللحظة من جانب الذين يعبثون بالاصلاح ويريدون تفريغه من مضمونه‏,‏ وحتي لايترك الأمر للمفاجآت الماكرة التي تزور عملية الاصلاح وتحتال عليها  فهل من مجيب؟

جريدة الأهرام    14/06/2005