نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
مجمعنا والتنمية اللغويـــــــة

بقلم : فاروق شوشة
حين اقترحت علي العالم اللغوي الكبير الدكتور كمال بشر ــ الأمين العام لمجمع اللغة العربية ــ موضوع التنمية اللغوية ليكون عنوان المؤتمر السنوي للمجمع في هذا العام‏,‏ تدور من حوله أبحاث المؤتمر وحواراته ومناقشاته‏,‏ لم أدهش لسرعة استجابته للاقتراح‏,‏ والقيام بعرضه علي مجلس المجمع الذي زكي هذا الاختيار‏,‏ باعتباره موضوع الساعة في حياتنا اللغوية المعاصرة‏,‏ ولأنه ــ بطبيعته ــ موضوع عام يتسع للعديد من الموضوعات الفرعية‏,‏ والروافد الكثيرة التي تصب كلها فيه‏.‏
نعم‏,‏ لقد آن الأوان لتصبح التنمية اللغوية في كل مجتمعاتنا العربية شعارا ومطلبا وضرورة حياة‏,‏ بالقدر الذي تهتم فيه هذه المجتمعات ــ تحت ضغوط داخلية وخارجية ــ بألوان التنمية التقليدية‏:‏ اجتماعية وسياسية واقتصادية‏,‏ وهو شعار يعني طرحه فتح أبواب الاجتهاد إلي أقصي حد في قضايا اللغة الاساسية من قياس ونحت واشتقاق وتوليد وتعريب وترجمة‏,‏ عكوفا علي متن اللغة ومفرداتها وتراكيبها‏,‏ واهتماما بلهجاتها وأصواتها ومعاجمها وتيسير نحوها وقواعدها‏,‏ امتدادا إلي تطوير مناهج تعليمها وتعلمها ــ من خلال تطوير النظام التعليمي كله ــ بحيث تصبح هذه اللغة وافية بمطالب العصر واحتياجاته‏,‏ متسعة لعلومه وفنونه وآدابه‏,‏ قادرة علي الاتساع لألفاظ الحضارة الحديثة ــ الشائعة والمتداولة في الحياة العامة ــ ومصطلحات العلوم‏.‏
هذه التنمية اللغوية ــ في معناها العام ــ متوقفة علي ماتقوم به المجتمعات العربية ــ قبل كل شيء ــ من جهد حقيقي فعال لمحو عار الأمية ــ إذ من المضحك والمبكي معا أن نتكلم عن علاقة حميمة مع اللغة‏,‏ وقدرة علي استخدامها استخداما صحيحا في مجالات الحياة وأغراضها ومواقفها المختلفة في مجتمع يعاني من سلبيات الأمية ــ في أبسط مستوياتها الهجائية ــ فضلا عن الأمية الثقافية التي تنخر في بنيان المجتمع ومؤسساته المختلفة‏,‏ وبخاصة ما يتصل منها بمجال التوعية والإشاد والإعلام والتثقيف والتوجيه ــ عندئذ تصبح الأمية الثقافية بدورها عائقا حياتيا ولغويا ومعرفيا يفوق آثار الأمية الهجائية في خطره وتفريغه للوطن من عطاء قطاع عريض من أبنائه‏,‏ وقدرتهم علي الإسهام الحقيقي‏,‏ وإحداث التنوير المطلوب‏.‏
الموضوع إذن ــ في أبحاث المجمعيين المصريين والعرب ومناقشاتهم كما حدث بالفعل منذ بدء المؤتمر السنوي للمجمع يوم الاثنين الماضي ــ يفضي إلي دائرة واسعة‏,‏ ومتداخلة من القضايا الجديرة بالاهتمام‏.‏ منها ما يتصل بالواقع اللغوي في أجهزة الإعلام‏,‏ وما تقوم به هذه الأجهزة المختلفة من صحافة وإذاعة وتليفزيون من دور كبير في إثراء هذا الواقع وتحقيق مزيد من التنمية اللغوية‏.‏ وهو الموضوع الذي عالجه المجمع باستفاضة في مؤتمره العام الماضي لكنه ــ في هذا العام ــ يصبح جزءا من سياق أعم وأشمل ــ ومنها ما يتصل بالجهود المجمعية ــ التي سبقت الإشارة إلي مجالاتها ــ خاصة مجالي متن اللغة والمعاجم اللغوية والعلمية‏.‏ ومنها ما يتصل بضرورة القيام بجمع لغوي جديد‏,‏ علي غرار ما صنعه العالم اللغوي الخليل بن أحمد في القرن الثاني الهجري‏,‏ وكان أساسا لوضع أول معجم عربي هو معجم العين‏,‏ الذي كان بداية للعديد من المعاجم اللغوية فيما بعد ــ هذا المجمع الميداني الجديد للغة هو الذي سيجعلنا علي وعي حقيقي بما حدث للغة من تطور‏,‏ وما اكتسبته من ثروة جديدة هائلة من المفردات والتراكيب‏,‏ وما اتسعت له ألفاظها وتعابيرها من دلالات‏,‏ وما دخل في جسمها أو متنها نتيجة للترجمة والتعريب‏,‏ والتوسع في النحت والاشتقاق والقياس‏.‏ وهو الخطوة الأولي لعمل معجم عصري‏,‏ لاتكون مادته ــ في جوهرها ــ تكرارا لمواد منتزعة من معاجم قديمة‏,‏ كما يحدث الآن في المعجم الكبير الذي يعكف عليه المجمع منذ سنوات طويلة‏,‏ أنجز خلالها ستة أجزاء‏,‏ ولا يزال الأمر يتطلب عشرات السنوات للانتهاء من المعجم كله ــ وبعد الانتهاء منه نكتشف أنه لايشفي غلة الإنسان العربي المعاصر ولا احتياجات الحياة الحديثة بالرغم من اضافة بعض ما تضمنته المعاجم العلمية التي أصدرها المجمع إلي متن المعجم الكبير‏.‏ لكن لاتزال الحاجة أشد إلي معجم عصري‏,‏ وإلي معجم تاريخي يتتبع الكلمة في دلالاتها عبر العصور‏,‏ مدعمة بالأمثلة والنماذج المأخوذة من كتابات الأدباء والشعراء والبلغاء ومن واقع الاستعمال اللغوي في كل عصر وصولا إلي ما نحن فيه الآن‏.‏
كما أن هذه التنمية اللغوية بإصلاح حال التعليم في المدرسة والجامعة‏,‏ بحيث يحبب النشء في لغة‏,‏ ولا ينفره من لغته القومية‏,‏ وبحيث يصبح تعلم اللغة العربية تعلما سمعيا بصريا ــ كما يحدث بالنسبة لتعلم اللغات الأجنبية في المعاهد والمراكز التي تقوم بتعليمها‏.‏ فلكي يكون تعليم اللغة ــ أية لغة ــ ناجحا لابد من أن تكون اللغة علي ألسنة المعلمين منطوقة ومسموعة‏,‏ أي حية مستخدمة في مجالاتها الوظيفية‏.‏ لا أن يكون تعلمها صامتا والعلاقة معها علاقة صامتة من مبدأ الأمر حتي نهايته‏.‏ فإذا ما اضطر طالب الجامعة‏,‏ أو الذين تخرجوا في الجامعة إلي النطق بالعربية ظهر العجز عن الأداء السليم‏,‏ واستخدام صوتيات اللغة الصحيحة‏,‏ وفقدان القدرة علي الأرتجال‏,‏ حتي لو كانت حدود هذا الارتجال عدة عبارات أو جمل بسيطة لاتستغرق دقيقة أو دقيقتين‏.‏ الأمر الذي يدعو إلي القول بأن تعليم اللغة العربية في المدرسة وفي الجامعة ليست له أهداف واضحة‏,‏ يلتزم بها المنهج التعليمي‏,‏ ويسعي لتحقيقها‏.‏ ولولا ان مكتبة الأسرة ــ في ظل مهرجان القراءة للجميع ــ قد نجحت في تحريك الساكن ودفع الأسن المتراكم عبر سنوات طويلة‏,‏ وإعادة غرس عادة القراءة عند قطاعات عريضة من الشباب والفتيان‏,‏ والأطفال القادرين علي القراءة‏,‏ لكان الحال ــ بالنسبة للتنمية اللغوية المأمولة‏,‏ التي ينبغي أن يحققها تعليم صحيح واع بأهدافه ورسالته ــ علي أعلي درجة من الركاكة والهزال والتردي والتخلف والمزيد من كراهية اللغة وكراهية القائمين عليها في المدرسة والجامعة بالنسبة لمن يعانون من سوء المنهج وسوء الاختيارات ــ للنصوص والموضوعات المقررة وسوء الكتاب المدرسي والجامعي‏,‏ وسوء طرق التعليم وأساليبه‏,‏ التي تطورت في كل الدنيا إلا لدينا‏,‏ وإلغاء المكتبات وممارسة الهوايات في المدارس‏,‏ وقد كانت الوسيلة الأساسية لإتقان اللغة وحبها وتعلمها ــ وليست الحصة المدرسية ــ من خلال جمعيات وأسر المجلة أو الصحافة والتمثيل والخطابة والمناظرات والمسابقات الأدبية والقراءة الخارجية‏.‏
وقد استهل الدكتور كمال بشر ــ الأمين العام للمجمع ــ المناقشات التي دارت وتدور في جلسات مؤتمر المجمع وفي محاضراته العامة‏,‏ بعرض لتصوره لقضية التنمية اللغوية‏,‏ ضمنه خطابه الذي يقدمه الأمين العام للمجمع في مستهل المؤتمر السنوي تحت عنوان بين عامين‏,‏ موضحا أن التنمية اللغوية في رأيه ذات مفهومين‏,‏ أولهما يتمثل فيما يسميه التنمية الأفقية‏,‏ بمعني العمل والسعي حثيثا نحو توسيع آفاق اللغة الفصيحة الصحيحة‏,‏ وذلك سبيله الآكد تجريب توظيف اللسان نطقا بهذه اللغة في كل مكان ومجال قدر الإمكان ولو بالتدريج‏.‏ فاكتساب اللغة لايكون إلا بالتعامل والحوار معها‏.‏ وذلك لايتم إلا بالسماع والإسماع‏.‏ يسمع الإنسان اللغة المنطوقة مرارا وتكرارا فتستقر أصولها وضوابطها في الذهن‏,‏ وعليه بعد ذلك ان يولد من هذا الذي استقر في ذهنه ماشاء له أن يولد بالكلام جهرا‏.‏ وهكذا تدور العجلة بالتدريج حتي يحظي بطلبته‏.‏ ولكن السؤال الآن هو‏:‏ أين ومتي نسمع العربية الفصيحة الصحيحة حتي نكتسبها ونسير علي منوالها؟ معلوم أن استخدام هذه اللغة الآن نطقا محدود المجال والمكان‏.‏ فما الحال؟ نبدأ بالاستعانة بالمواقع العامة والخاصة التي من المفروض عليها فرضا أن تلتزم بهذا المنهج‏,‏ منهج السماع والإسماع ومن أمثلة هذه المواقع‏:‏ المطالعة في المدارس‏,‏ بمعني القراءة جهرا أمام مدرس عارف مخلص لوظيفته وقوميته‏.‏ ووسائل الإعلام المنطوقة فهي أشبه بمدرسة جماهيرية متنقلة‏,‏ يسمعها الكافة بلا فرق‏.‏ ودعوة المعلمين في كل مراحل التعليم ــ وكل مقررات الدراسة ــ إلي محاولة تفعيل لسانهم وتجريب الأداء باللغة العربية‏.‏ وبيانات القادة والمسئولين وأحاديثهم الجماهيرية‏,‏ التي ينبغي أن يراعي فيها هذا المنهج وبخاصة أنهم القدوة والمثل‏.‏ والخطابة والمؤتمرات والندوات ــ بكل صورها وأشكالها‏,‏ فهي من العوامل المؤثرة في هذا السبيل‏,‏ حيث تشهدها الجماهير من كل الطبقات‏.‏
المفهوم الثاني للتنمية اللغوية ــ في رأي الدكتور كمال بشر ــ هو التنمية الرأسية‏,‏ ومعناه ــ عنده ــ تعميق أصول لغتنا وإثراء محصولها اللفظي والأسلوبي بوسائله المعروفة عند الثقات من الدارسين‏,‏ مثل‏:‏ العود إلي اللغة ذاتها لتفعيل طاقاتها والتوليد منها‏,‏ بالاشتقاق والتصريف والنحت‏,‏ والنظر في كل ما يجد من ألفاظ وعبارات معاصرة شاع أو يشيع استعمالها‏,‏ وتمحيص صلاحيتها وضمها إلي جسم اللغة‏.‏ والتعريب بكل ألوانه وصنوفه ضرورة حتمية‏,‏ والبدء بحسم في تعليم العلوم باللغة العربية في التعليم العالي‏,‏ فضلا عن الاهتمام بالترجمة‏,‏ واستمرار المجامع العربية في تيسير قواعد اللغة والسير قدما في صناعة المعجمات علي مستويات متدرجة‏,‏ ولامانع من الاقتراض من لغات أخري متي كان هذا الاقتراض لايسيء إلي متن اللغة‏.‏ وأخيرا يصف الدكتور كمال بشر هذه النماذج من وسائل التنمية اللغوية بأنها تمثل حسوة طائر من بحر عميق فلنبدأ إذن بحسوة الطائر قبل أن يجيء زمان لانجد فيه ما نحسوه‏!‏
شكر واجب
أستأذن القاريء في سطور أعبر بها عن الشكر الواجب والتقدير العميق لأسرة مركز الطب الطبيعي والتأهيلي والروماتيزم للقوات المسلحة وعلي رأسها اللواء طبيب محمد رضا عوض‏.‏ فقد واجه أحد أشقائي محنة صحية عصيبة اقتضت علاجه في هذا المركز‏,‏ الأمر الذي جعلني ألمس عن قرب مدي الجهد الهائل والرعاية الموفورة التي يحاط بها المترددون علي المركز والمقيمون به‏,‏ من كل العاملين فيه من الأطباء والإداريين وأسرة الرعاية الاجتماعية والخدمة في منظومة متكاملة من النشاط والفاعلية‏,‏ والحرص علي الراحة الكاملة للمرضي‏:‏ بدنيا ونفسيا وعقليا‏.‏ فضلا عن توفير الاحتياجات الضرورية للعلاج والتأهيل ومتابعة أحدث الطرق والأساليب ــ في العالم كله ــ من أجل تحقيق أعلي مستوي من الأداء‏,‏ وأقصي درجة للرعاية‏.‏
إن الأماكن برجالاتها‏,‏ ومثل هذه المراكز مفخرة لمصر ولقواتها المسلحة ــ التي جعلتها تتسع أيضا لعلاج المدنيين ــ كما أنها إطلالة علي عصر قادم من تحقيق خدمة طبية متميزة‏,‏ في إطار من الرعاية الإنسانية‏,‏ والقيادة الحكيمة الحازمة‏,‏ التي تحرص علي تخفيف وقع المحن الصحية‏,‏ مهما بلغت‏,‏ وغرس الأمل في قلوب من يحتاجون لنقطة ضوء واحدة‏,‏ تبدد ظلام العجز والمعاناة‏.

جريدة الأهرام    28/03/2004