بقلم :د. هاشم الباش داخل مدار التلوث البيئي تشتعل الأسئلة ويلتهب الحديث؛ رغم ما تحقق من نمو صناعي في مملكة البحرين سواء في مساهمة الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي أو في ازدياد عدد العاملين في هذا النشاط الذي يعتبر أحد أذرع تنويع مصادر الدخل التي تنشدها المملكة في توجهاتها الاقتصادية كان الرأي السائد في وقت ليس ببعيد بين مجموعة كبيرة من الاقتصاديين، بأن التخلف والتصنيع قضيتان متناقضتان. وأن الشروع في التصنيع، كاف لقهر التخلفين الاقتصادي والاجتماعي؛ إلا أن مسيرة التصنيع في دول العالم الثالث رافقتها أحداث تخريب في البيئة الطبيعية، تحت تأثير نوعين من الأضرار: إتلاف النظم الإيكولوجية، وإفناء وتبذير المواد الطبيعية. جاء ملف مدارات في جريدة الأيام (16أبريل2005)، حاملا صرخات ونداءات معاناة قرية المعامير من تلوث بيئي؛ متمثل في غازات وروائح خانقة، ونتنة، وفضلات، ونفايات، وأتربة، وأغبرة المصانع المنتشرة في مختلف زوايا هذه القرية البحرية الجميلة. لقد أكدت المعاينة الميدانية وأحاديث أهل القرية وما نشر في الصحافة، مأساةَ هذه القرية التي تقع في أحضان مصانع لا تتوقف أدخنتها، ولا تصمت أصوات آلاتها؛ مسببة أمراضاً وأوراماً خبيثة. هذه الصورة القاتمة، التي مركزيتها تلوث الهواء، والموضحة في ميثاق كيوتو، الذي توافق عليه معظم دول العالم في العام 1997، تدعو إلى حضور فكري اقتصادي جديد، في مبادرات عمليات الإصلاح الاقتصادي، لا يعول على اختزال هذا الاعتداء السافر والمستمر، على البيئة والإنسان، إلى أرقام وبيانات إحصائية، قد يساعد في تحديد تقريبي لحجم الظاهرة، ولكن يعجز عن حساب التكاليف المجتمعية، الناجمة عن الإضرار بصحة الإنسان والممتلكات والأنظمة البيئية. فقد فتنت مسألة التلوث، بعض الاقتصاديين، وحاولوا إدخالها في تحليلاتهم كسلعة خاضعة للعرض والطلب، وانطلقوا في البحث عن «التلوث الأمثل»، إلا أن هذه المقاربة اصطدمت بمفهوم الملكية الفردية لكل السلع، فالماء والهواء وحتى الأرض في كثير من الأحيان، تعد سلعا لا تخضع لملكية فردية، كما أن استغلالها في العديد من الحالات، قد يؤدي إلى إتلافها وتخريبها والإضرار بحياة الإنسان الاقتصادية والصحية. كل هذه الأضرار، لا يمكن إدخالها في حسابات المشاريع الفردية عند دراسة جدواها الاقتصادية، التي لا تنظر إلى حياة المجتمع ككل، حيث تعتبِر الفرد الوحدة الأساسية للتحليل وتفسير سلوك الاقتصاد ككل، عبر سلوك مختلف وحداته الفردية التواقة إلى تعظيم المنفعة، والربح الفردي، عن طريق تقليل التكلفة إلى أقصى الحدود. ورأى آخرون، بأن فرض ضرائب أو رسوم، قد يقف في وجه الإخلال بالبيئة وتدميرها؛ أي افتراض القبول الضمني بحد معين من التلوث؛ فحتى هذا التبرير الأعمى، الذي يحاول نفي السبب، والتلاعب بالنتيجة لا يساعد إلا على الموت البطيء للبيئة والإنسان، ولا يقدم حلا يمكن أن يكون سدا منيعا لهدمها وإلقاء الإنسان في أحضان أمراض لا حصر لها. إن طرح طائفة من الأدوات والوسائل الاقتصادية؛ (ضرائب على التلوث، دعم معدات السيطرة على التلوث... إلخ)، قد لا يكون كافياً، دون توافر قدرة مؤسسية وكوادر ماهرة؛ لتقويم آثار الاستثمارات على البيئة، لا على المنتجات والمشاريع فقط، بل يجب أن يشمل هذا التقويم البرامج والسياسات الاقتصادية والمالية. كما أنه يجب التذكير، بأن غياب أداة ووسيلة واضحة؛ لتحديد وقياس القيمة الاقتصادية للمنافع، والمتأتية من الإنفاق على وسائل القضاء على التلوث أو القيمة الاجتماعية، أو تكاليف الإنسان؛ (الأخطار على الصحة، الضغوط البيئية... الخ)، يؤدي ( أي هذا الغياب)، إلى عرقلة القدرة على معرفة وإيجاد التقديرات الاقتصادية الإجمالية لهذه التكاليف، وحبس مفهوم المنافع، والتكاليف في قاعات دراسة الاقتصاد. لقد وقع كثير من دول العالم الثالث، فريسة للتلوث، وتحملت تكاليف باهظة لمعالجة التلوث المباشر، وتكتمت وتسترت على تكاليف أخرى؛ مرئية أم غير مرئية؛ من أجل خلق موقع تنافسي، لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية والبقاء فيه. هذا الصراع بين الآثار السلبية والحوافز التشجيعية، لاجتذاب الاستثمارات يدخل تلك الدول في تناقض بين الأهداف البيئية والاقتصادية، وغالباً ما يضيع همّ المحافظة على البيئة، في السعي نحو تعظيم الأرباح، دون الاهتمام بالمعايير البيئية وتجاهلها. وعلى الرغم من أن قضية البيئة، تتبوأ مكان الصدارة في المحافل السياسية؛ لحداثتها، وصدور تشريعات وقواعد تنص على إجراء تغييرات باهظة التكاليف، في طرق صنع السلع التي عضّدها بعض النظريات الاقتصادية والهندسية، إلا أن السؤال الذي تصعب الإجابة عنه، هو: ما هو حجم التكاليف الضرورية للتعامل مع معايير بيئية يمكن أن نطلق عليها أنها «معقولة» لمشاريع المستقبل، ومدى مواءمة المشاريع الصناعية الموجودة، مع المعايير البيئية الجديدة؟ لا يمكن للتشريع، أن يحقق الصالح العام وحده، فإن وعي و إدراك المجتمع لهذه القضية وتأييده لها، يشكل عاملاً داعماً للوصول إلى توازن بين طرفي المعادلة؛ أي التوفيق بين وسائل تشجيع الاستثمار، ومتطلبات المحافظة على البيئة. فالحقيقة التي لا مراء فيها، هي أن الانتصار على مشكلة التلوث، ليس سهلاً، حيث إن الجدل الدائر حول التقدم التكنولوجي والاختيار الملائم له، هو نقاش معقد، يصطدم بمصالح المجموعات الاقتصادية والسياسية في الدول الصناعية المتقدمة والنامية. هذا ما يؤكد أن تحقيق التوازن «المعقول»، بين احتمالات المخاطر، والمنافع ليس عملية فنية بحتة، فالعملية المحركة للتطورين الصناعي والتكنولوجي، لا يمكن فصلهما عن العوامل الاقتصادية الفاعلة في الحياة المادية للإنسان؛ أي دراسة وتمحيص وتحليل عمليات الحسابات الاقتصادية، التي تسبق التفكير في الدخول في المشاريع الصناعية، وإنتاج أو استخدام التكنولوجيا. إن المشاهد المتكررة يوميا، الفاضحة لتلوث قرية المعامير، التي استغاث أهلها مرارا دون أن تسمع صرخاتهم، وضاعت في ضجيج الندوات والمؤتمرات والحركة العمرانية و الصناعية. هذا التلوث، الناتج عن الإفرازات الفيزيائية والكيميائية، الملقاة في البحر أو المنتشرة في طبقات الجو، لا تخدم إلا المنافع الحاضرة على حساب المستقبل. أي أنها قرارات آنية، تنتهك البيئة، وتخنق حقوق الأجيال القادمة، في أرض أكثر عطاء ونقاء، تكشف عن قصر نظر في الحسابات الاقتصادية والسياسية، المسؤولة عن إقرار الحدود الدنيا أو العليا للتلوث، والمغيبة للبيئة من أولوياتها، والمكرسة لمصالحها الذاتية. وتزداد وتتعمق المأساة في ظل الصمت والتجاهل، لعشوائية عمليات بناء المصانع والمعامل، دون أن يهز أو يحرك هذا الخطر، الحملات الإعلامية والمجتمعية؛ لبلورة وعي جديد بأهمية التخطيطين الطبيعي والصناعي في تقليل الآثار السلبية، للاستغلال البشع للطبيعة الناتج عن التصنيع، وتقليص التكاليف الباهظة سواء المادية أم البشرية، للتخلص من التلوث. إن مشكلة التلوث، يجب عدم عزلها عن الزاويا الاقتصادية والاجتماعية، فالشروحات الكيميائية والفنية لنتائج التلوث، لا تكفي لخلق وعي موضوعي، قادر على تحدي متطلبات الإنسان المتزايدة، التي يحاول إشباعها عن طريق الإنتاج، في وضع لا توجد فيه يد خفية، يمكن أن تحقق الموازنة بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، فلا بد من خلق تحد لمشاكل البيئة، حيث لا سلام للمناورة، ولا أرض للحراك في حالة الاختناق.