توقفنا في العدد الماضي عند السؤال الذي طرح نفسه وكان فحواه: هل كان عقد من الزمان كافٍياً لأن تطور ما عرفت "بالحركات الإسلامية" من بنائها الأساسي فتنشر الأفكار بطريقة منظمة قائمة على إنشاء مؤسسات تربوية؟ أو عبر التغلغل التدريجي في أدمغة وعقول الشباب ومن خلال التأصيل لفلسفة السعي الإسلامي المشروع للأخذ بناصية السلطة في الجمهوريات الإسلامية في روسيا؟ إن الأمر في رأينا لا يعدو أكثر من تضافر مجموعة من الملابسات شكلت أهم دوافع تطور الحركات القومية الدينية في جمهوريات روسيا الإسلامية وهي: 1 معاناة الشعوب الإسلامية من الحرمان الطويل من الدور الروحي للإسلام وإمكاناته الكبرى في تنسيق الحياة بين السكان في ظل التداعيات الخطيرة لانهيار النظم الاجتماعية التي خلّفها إفلاس الأيديولوجية الشيوعية شكلاً ومضموناً. وبحكمة التاريخ سرعان ما أدركت الشعوب الإسلامية في روسيا بوادر تراخي القبضة المركزية في عهد جورباتشوف، فسارعت الجماعات السياسية الراغبة في الانفصال بمؤازرة من الأيديولوجية الإسلامية بمناقشة الأطروحات الفكرية التي شهدتها مناطق إسلامية في فترة سابقة من التاريخ المعاصر كديار الحرب وديار الإسلام...إلخ. وتُرجمت أفكار أصولية ونُقلت كتب في الأدبيات الإسلامية لأعلام مؤسسين للفكر الإسلامي. وقد دعم ذلك حالة الإفلاس الاقتصادي التي عاشتها الشعوب الروسية ومن بينها الشعوب الإسلامية وبصفة خاصة في القوقاز عقب انهيار النظام الاشتراكي الذي ضمن بشكل أو بآخر رعاية صحية وتعليمية وضمانات اجتماعية تبدد أغلبها مع مزاحمة الأفكار الرأسمالية المشبوهة أو ما عرف في الشارع الروسي برأسمالية المافيا، وكانت النتيجة انتشار البطالة بين قطاعات الشباب خاصة. 2 الخلل الديموجرافي، إذ يربط البعض بين هجرة السلافيين من المناطق الإسلامية وخاصة في الجمهوريات الإسلامية في القوقاز مع توتر الأوضاع السياسية في أعقاب تفكك الاتحاد السوفييتي بتفريغ المدن القوقازية من نسبة معتبرة من سكانها وإحلال الشباب القوقازي القادم من الريف محملاً بالأفكار الدينية التي كانت بعيدة نسبيا ًعن أعين السلطة المركزية. وفى ذات الوقت يخشى البعض من اختلال الميزان الديموجرافي في المنطقة لصالح القوقازيين خاصة والمسلمين في روسيا عامة. فلقد نشر برنامج الأمم المتحدة للتنمية بحثاً عن الأوضاع السكانية في روسيا تبين من نتائجه تناقص سكان روسيا منذ عام 1992 بمقدار 3.5 مليون نسمة. ويعادل هذا التناقص إجمالي عدد المسلمين في روسيا من الشيشان والداغستان والأنجوش والشركس والكارتشييف. ومنذ عام 1999 وروسيا تفقد سكاناً بمقدار ثلاثة أرباع مليون نسمة كل عام. وصار ترتيب روسيا 141 في قائمة دول العالم من حيث معدل الإنجاب. وقد ناقشت بعض الأبحاث التي قدمت إلى وزارة الداخلية الروسية أن تعداد سكان روسيا قد يتناقص حسب المعدلات الحالية من 145 إلى 130 مليون نسمة فقط سنة 2010م! بل قد يتناقص إلى مجرد 70 مليون نسمة في 2050م إذا ما استمرت الكارثة الديموجرافية على حالها من انخفاض بالغ في معدلات الإنجاب وهجرة الشباب واستمرار الحروب التي تخوضها روسيا منذ مطلع القرن الحالي. وبينما سيتناقص سكان روسيا خلال الخمس عشرة سنة القادمة بنحو 6 % فإن عدد سكان المسلمين في القوقاز سيزيد بنحو 13 %. وتشير وزارة التعليم الروسية إلى أن المناطق الروسية خارج إقليم القوقاز ستشهد تناقصاً في الالتحاق بالمدارس بنسبة ستتراوح بين 25إلى 30 % مع عام 2010م كنتيجة مباشرة لتناقص المواليد في المناطق غير الإسلامية من روسيا. وفي الوقت الذي يمكن أن تتهدد بعض المدارس في المناطق الإسلامية من غرب القوقاز بتناقص مقداره نحو 10 % فإن المدن الروسية الكبرى مثل موسكو وسان بترسبرج ستتناقص نسبة الالتحاق بالمدارس فيها بنحو 43 %. أما باقي مناطق القوقاز فستشهد ثباتاً في أعداد الملتحقين بالمدارس أو زيادة فيها؛ حيث تشير البيانات إلى أن أطفال المدارس في داغستان سيرتفع عددهم في سنة 2010م إلى 471 ألفاً مقارنة ب 460 ألفاً في 1998م، وعلى الرغم من أن الخطر الديموجرافي الأكبر الذي ستواجهه روسيا هو التزايد في أعداد سكان روسيا ذوي الأصول الصينية (سواء في المناطق الروسية على الحدود مع الصين أو عبر موجات الهجرة المتتابعة للشباب الصينيين على المدن الروسية واحتلال مكانة متقدمة في السوق التجاري) إلا أن التركيز على الخطر الديموجرافي الإسلامي يحتل مكانة أهم بحكم اختلاف الأيديولوجية وتاريخ الصراع. ومن زاوية أخرى يرى بعض المحللين الخطر الإسلامي في روسيا مرتبطاً بخطر أكبر هو الزيادة الديموجرافية الإسلامية وتنامي القدرات المالية على مستوى العالم، ويسجل هؤلاء تمتع الدول الإسلامية بمصادر اقتصادية ومالية عظمى وتنامي دور ومكانة المنظمات المالية الإسلامية. كما يحذر هؤلاء من أن العامل الديموجرافي يلعب في صالح العالم الإسلامي الذي ستتخطى حصة معتنقيه حصة معتنقي المسيحية خلال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. 3 تفشي حالات الفساد الحكومي عند مستويات مختلفة اقتصادية وعسكرية وإدارية، لدرجة مهدت الطريق أمام النقد الشديد الذي وجهته جماعات الانفصال القومي الديني، بحيث نظر إلى الإسلام "كأمل" في الخروج من الأزمة الحياتية بصورها المختلفة. وفى مثل هذه الأحوال يتم الاستناد إلى مفاهيم إسلامية كالعدل والمساواة والإخاء، وأن حكم الشريعة الإسلامية كان هو الأساس في نمو الإمبراطورية الإسلامية وازدهارها. ومن المفيد أن نعي أن هذه الأفكار تنقل وتترجم إلى الأدبيات الثقافية الروسية ويصل تبسيطها إلى المناقشات الصحفية والتلفازية. وفى هذه المناقشات يحلل بعض المراقبين هذه الأفكار المرجعية في الدين الإسلامي باعتبارها "أساطير" تسعى لإعادة أسلمة القوقاز والفولغا، وأن ما اصطلح بين المسلمين على أنه عهد الإسلام الذهبي إبان حكم الخلفاء "الراشدين" بمفاهيمه القائمة على العدل والحرية والمساواة لا يزيد عن كونه "أفكاراً دعائية" تتضارب الأسانيد التاريخية في صحتها.!! وفى ذات الوقت انتقلت مفاهيم الجهاد إلى رؤوس الموضوعات الإعلامية، وعرضت هذه المفاهيم كبرى الصحف الروسية وعلى رأسها نيزافيسميا جازيتا وإزفيستيا وأرجيومنتى إي فاكتي وكومرسانت، في وقت لم تكن هناك نوافذ إعلامية تعبر عن أفكار الانفصاليين سوى موقعين على الإنترنت هما kavkaz.org و amina.net وتعرضا للهجوم عدة مرات من قبل موسكو، بل أغلق موقع amina.net نهائياً. ويشهد موقع Kavkaz.com ضغوطًا حيث يبث من تركيا التي تتلقى طلبات روسية متتابعة لإيقاف تشغيله من أراضيها. 4 في الوقت الذي تعاطى فيه البعض مع ظاهرة العمل الإسلامي من زاوية صراع على السلطة بين جماعات سياسية تتشح بالدين وتستغله لتحقيق مآربها، وسّع البعض الآخر مجال الرؤية ونظر إلى الصراع باعتباره امتداداً لفكرة الصدام المسيحي الإسلامي. ورغم أن السلطة الحكومية في روسيا لم تعلن أنها تتحدث باسم المسيحية، كما لم يُعنوِن قادة الجماعات الإسلامية أي هجوم يشنونه على القوات الحكومية بأنه هجوم ضد المسيحيين، إلا أنه راق لبعض المحللين النظر إلى الصدام في القوقاز باعتباره حلقة في سلسلة صدام الحضارات، وهو ما رفع من درجة حرارة الصراع وأجج ناره. وهكذا في نهاية عقد التسعينيات سار بعض المحللين على نهج السيناريو الذي قدمه صمويل همنتجتون في أطروحته حول صدام الحضارات، رغم أن الأخيرة اقترحت قيام تحالف روسي إسلامي وليس العكس. وفي المقابل فإن عديداً من المحللين الروس تزداد قناعتهم بأنه تمت مبالغة شديدة في قدرة العمل الإسلامي في روسيا على تهديد الدولة وحجتهم فى ذلك: أن تأثير العلمنة والحداثة أقوى من تأثير الصحوة الإسلامية. أن الانتعاشة التي شهدها الإسلام في القوقاز مردها شدة توق الناس إلى تغيير أسلوب التقييم الحياتي العلماني المادي في عالم اليوم. وأن التجربة الشيشانية الدامية ستؤدي إلى رفض داخلي لقبول مشروع الانفصال عبر الصدام والحرب.
المراجع باللغة العربية: عاطف عبد الحميد (2004) الصراع الروسي الشيشاني في ضوء الرؤية الجغرافية لنزاعات القوقاز. دار الحريري، القاهرة. مراد بطل الشيشاني ( 2002) الحركة الإسلامية في الشيشان والصراع الشيشانيالروسي (20001991). مركز القدس للدراسات السياسية. عمّان باللغة الروسية: فاجايوف (1999) دوي الأفكار الجهادية، نيزافيسميا جازيتا ملحق نيزافيسميا الدين جروميكا (1998 ) الإسلاموفوبيا، نيزافيسميا جازيتا، ملحق السيناريوهات