** خليل العناني الحياة 2005/03/27 لم يكن لأي عاقلٍ أن يشكك في إمكان حدوث الانسحاب السوري من لبنان، خصوصاً في ظل حملة الضغوط الدولية التي تقاطعت مؤشراتها بين ضفتي الأطلسي وزادت وطأتها عقب عملية اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري. بيد أن السؤال المُلح الآن هو: ماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟ السؤال يحمل وجوهاً عدة بين المحلي والإقليمي والدولي. سورياً، بدا أن دمشق وعت الدرس العراقي جيداً، وأن محاولات استدراجها لمزيد من التعنت والتحدي في وجه المجتمع الدولي لم تفلح، فهي قرأت، بحذر، الرسائل العديدة التي جاءتها من أطراف إقليمية ودولية للانسحاب، وهو ما فطِن له الرئيس السوري بشار الأسد حين أعلن في خطابه أمام مجلس الشعب السوري أنه لن يقف في وجه الشرعية الدولية ممثلة في القرار 1559 الذي ينسجم مع «روح» اتفاق الطائف. بل ذهبت سورية أبعد من ذلك حين أعلنت عن سحب كل أجهزتها الأمنية والاستخباراتية من بيروت في رسالة واضحة مفادها أن هناك ثمة تغيراً في الفكر الاستراتيجي السوري، كان كثيرون راهنوا على جموده وتحجره في مواجهة التغيرات الإقليمية والدولية. سورية التي نجحت حتى الآن في نزع فتيل التحرش الغربي بها، لا تزال توَاجه بقائمة استحقاقات أميركية، ذلك أن مسألة الانسحاب من لبنان لم تكن سوى جولة تسخينية أولى للطرفين السوري والأميركي لمعرفة حجم الصلابة والليونة في موقفيهما، ومن المحتم أن تتبعها جولات أخرى أكثر إثارة وسخونة، طالما ظلت سورية على موقفها من مواطن القلق للمشروع الأميركي والإسرائيلي في المنطقة، ومن يرى غير ذلك فهو واهٍ. وإذا كان الانسحاب أعطى سورية فرصة لالتقاط أنفاسها، فهي بحاجة ملحة لبلورة رؤية متكاملة تطفئ بها بؤر الخلاف والتوتر في علاقتها مع الخارج. لبنانياً، لا زالت الميادين والساحات مشتعلة بتظاهرات «إثبات الذات"، ولا تزال شهية الأطراف مفتوحة لتحقيق مكاسب يرى البعض بصعوبة تحقيقها بعد انطفاء جذوة الأحداث، ولذا يحاول كل طرف ممارسة أكبر قدر من الضغوط على الآخرين من أجل القفز قدماً لتحقيق مكاسب يمكن التفاوض بشأنها مستقبلاً. فبعد أن كانت مسألة الانسحاب السوري من لبنان عامل وحدة وانسجام بين المؤيدين والمعارضين، ظهرت في الأفق بوادر انشقاق يحمل نذير شؤم إذا لم يتم تفاديه مبكراً، وهو ذلك الدائر حول مستقبل «حزب الله» وكيف سيتم التعاطي معه كقوة سياسية لها وزنها. ذلك أن النظر للحزب بوصفه مجرد قطعة حرب من زمن ولى وفات، هي نظرة قاصرة تنطوي على فهم ملتبس لحقيقة الأوضاع الإقليمية خصوصاُ في ما يخص العلاقة مع إسرائيل. بالطبع، يمكن للحزب أن يمارس دوراً سياسياً وهو قادر على منافسة الكثيرين في ذلك، بيد أن تقليم أظافر الحزب العسكرية واللوجستية ينطوي على مخاطرة باتجاه مستقبل العلاقة مع تل أبيب، حيث لا يزال «حزب الله» يشكل حاجز ردع مؤثر في الحسابات الإسرائيلية ويجهض أي تطلعات لها بإعادة التفكير في احتلال جنوب لبنان، بوصفه حديقة خلفية يمارس فيها نفوذه الإقليمي. ويظل التخوف من احتمالات أن يصبح الحزب عامل عدم استقرار في ما يخص الداخل اللبناني لجهة امتلاكه الورقة العسكرية، في غير محله، ذلك أننا نتحدث عن لبنانيين في زي عسكري وليس عن قوات أجنبية يمكن إغراؤها بأي مكاسب للتضحية بمصالح الشعب اللبناني، وإلا لكان الحزب فعلها حين كانت الكفة في صالحه إبان الثمانينات من القرن المنصرم. والأقرب للتصور أن يُدمج الجناح العسكري للحزب في الجيش اللبناني بتسوية مقبولة تحفظ الحق التاريخي للحزب في قيادة نفسه، وأن يدخل الجناح السياسي للحزب في حلبة المنافسة السياسية. اللبنانيون الآن في حاجة ملحة إلى الإجماع على موقف موحد من «حزب الله» من شأنه إعطاء هذا الأخير مناعة قوية في مواجهة أي تحرش خارجي بلبنان. فضلاً عن كونه يفند محاولات استغلال الحزب كورقة قد تبرر التدخل الخارجي وتمرره. إقليمياً، ربما يكون الانسحاب السوري من لبنان ساهم في تهدئة الأجواء الملتهبة في المنطقة، موقتاً، بيد أنه أوضح إلى حد بعيد دوامة التخبط والترنح التي تدور في فلكها «بقايا» النظام العربي، والتي بدأت رحاها مع اجتياح العراق قبل عامين، وأكد أن اختراق الجسد العربي، بات أمراً معتاداً وارداً في أي لحظة. حال الانكشاف العربي كانت سبباً مهماً في اتخاذ سورية قرارها بالانسحاب، وهي فعلت بعدما تيقنت من حقيقتين أولاهما: «وهم» الرهان على موقف عربي موحد من مسألة وجودها في لبنان، بل على العكس من ذلك، فوجئت بإجماع عربي «نادر» حول مسألة الانسحاب، إن لم يكن اقتناعاً به، فعلى الأقل خشية من توابعه المتوقعة على بلدان المنطقة كافة. وثانيتهما: التخوف من أن يتم استغلال أزمة وجودها في لبنان من بعض البلدان العربية كي تصبح جسراً لمد أواصر الصلة والعلاقة مع الغرب على حساب سورية، وهو أمر بات متوقعاً في ظل حال «الخضة» وعدم الاتزان التي تعيشها نظم المنطقة الآن. في المقابل، تعيش إسرائيل أزهى أوقاتها، فهي لم تحقق مكاسب استراتيجية من الانسحاب السوري من لبنان فحسب، وإنما تستعد للوليمة الأكبر ممثلة في «وصم» «حزب الله» بالإرهاب، وقرب التخلص من شبحه الثقيل الذي أجبرها على الانسحاب من لبنان قبل خمسة أعوام. وهي في ذلك تراهن، كالعادة، على ضعف الموقف العربي من مسألة الحرب على الإرهاب، مدعومة بالاعتناق الأميركي للفكرة نفسها، لذا لا تتورع عن ممارسة ضغوطٍ غير طبيعية على الاتحاد الأوروبي لضم الحزب إلى «قائمة المنظمات الإرهابية». دولياً، وعلى رغم الترحيب «الحذر» الذي أبداه الغرب من تتابع مؤشرات الانسحاب السوري من لبنان، إلا أن هذا لا يعني بأي حال إيقاف ماكينة الضغوط على سورية، بل ربما تهدئتها فقط، وهو أمر يتفق فيه الطرفان الفرنسي والأميركي كل بحسب أهدافه. ففرنسا لن يهدأ لها بال إلا بمعرفة المسؤول عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والرئيس جاك شيراك يولي الموضوع اهتماماً «شخصياً» وهو في ذلك استفاد كثيراً في إنجاز ما لم يكن ممكناً، فالحلم الفرنسي يتعدى مسألة الانسحاب إلى وقف كل أشكال التدخل السوري غير المباشر في لبنان، بوصفه منطقة نفوذ ترتبط بعلاقات خاصة مع فرنسا، وذلك دون التلكؤ بلغة «المؤامرة» والمخططات التي تحدث بها الرئيس السوري في خطابه، فالصورة أوضح من الخيال. أما واشنطن فتتعدى استحقاقاتها من دمشق مسألة وجودها في لبنان بكثير، ففضلاً عن كونها مسألة تتلامس فيها المصالح الأميركية والفرنسية في فرصة نادرة التكرار، ومن شأن إبقاء الضغوط على سورية إطالة أمد هذه الفرصة إلى أقصى حد، هي أيضا قضية تتعلق بموازين القوى الجديد في الشرق الأوسط والذي تقف سورية، على رغم ضعفها وتآكل تأثيرها، عقبة كأداء أمام إنجازه. وواهم هو من يتخيل بأن واشنطن سترفع يديها عن دمشق، طالما ظل النظام القائم هناك على حاله ولم ينصع للموجة الأميركية التي يغطي رذاذها الآن سماء المنطقة. ** كاتب مصري.