نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
نظرة في أصل العلمانية
شهدت العصور الوسطى في أوروبا بلورة الكثير من النظريات السياسية، والأفكار المتعلقة بالحكومات وواجباتها وحدود صلاحياتها وعلاقتها بالشعب، وإذا كان الفكر السياسي قد نبع أساسا من فكرة وجود إمبراطورية (رومانية /مسيحية) فإن المفكرون في تلك العصور لم يقبلوا بفرضية انتهاء وزوال الإمبراطورية الرومانية بزوال وانتهاء الوثنية وسقوط نظام الأباطرة بل تبنوا مسالة الربط بين الآراء السياسية في الإمبراطورية الرومانية وبين تعاليم الدين المسيحي الذي جاء به (عيسى عليه السلام) وفي الواقع فان ظهور المسيحية ولد مشكلة خطيرة ظلت مستحكمة جزءا كبيرا من العصور الوسطى واساس المشكلة يتخلص في كون (الإمبراطورية الرومانية القديمة) لم تعرف حدودا لسلطة الدولة المطلقة على الفرد واعتبرت (الفرد/ المواطن) يعيش من اجل الدولة وليست له أية حقوق قبلها، ولكن المسيحية أنكرت هذا الوضع ولم تقر أبدا بان الحياة الفرد كلها ملك قيصر وإنما كما قال المسيح ((يجب ان يكون ما لقيصر لقيصر ما لله لله)) ومن هذا المبدأ نشأت الفوارق بين السلطة الزمنية (الحكومة السياسية) والسلطة الروحية (سلطة الكنيسة الدينية) وأدت بالتالي إلى قيام صراع رهيب بين البابوية والإمبراطورية حول أحقية القوانين الطبيعية على القوانين الوضعية وظهر رجال الدين مطلع العصور الوسطى تعرضوا إلى مشكلة الدولة السياسية وهل القوانين الوضعية تتفق مع القانون الطبيعي ومبادئ الأخلاق مثل القديس اوغسطين (354 -430 م) في كتابة (مدينة الله) الذي كانت فكرته الأساسية تتمحور حول المقارنة بين مدينه الله ومدينة الأرض وإذا كان اوغسطين قصد بمدينة الله (المدينة الفاضلة) مدينة الخيرين الذين باركهم الله، فإنه بلا شك يقصد بمدينة الأرض - الوحدة السياسية أ والدولة التي اصطنعها الناس والتي تقوم على أسس من الشرور والغدر وبالتالي فان النتيجة المستخلصة ان سيطرة الإنسان على أخيه الإنسان في ظل النظم السياسية المستبدة ليس أمرا طبيعيا لما يتخلل هذا النظام من غبن وهدر للحقوق . وعموما كانت نظرة مفكري العصور الوسطى ان (الدولة وليدة آثام البشر وأخطائهم) ولكنهم لم ينكروا ان قيام الدولة اصبح أمرا مفيدا لابد منه لمواجهة أعباء وتعقيدات الحياة وظروفها القاسية وكذلك لكبح جماح البشر بعد ان تردى الإنسان في الخطيئة وتخلى عن الصفات الطيبة التي يجب ان يتحلى بها .
أما الفريق الإمبراطوري فكان له رأيه الآخر (المعتمد على ميتافيزيقيا / غيبيه / لاهوتية) إذ نادى بأن الإمبراطور إنما يستمد سلطته من الله على اعتباره خليفة الله في الأرض وان الرأي الذي ساد العصور الوسطى ه وان الإمبراطور أ والملك أداة الله في مقاومة الآثام البشرية وانه بناء على ذلك يتولى وظيفته وفقا لحق مقدس مما جعل الخروج عن طاعته أ والثورة ضده خروجا عن طاعة الله .
وفي الحقيقة فإن الإتكاء على العامل الديني ليس جديدا فقد ادعى ملوك وادي الرافدين في سالف العصور ان الآلهة منحتهم السلطة مثل الإمبراطور (سرجون الاكدي) الذي أسس أول إمبراطورية في العصور القديمة أطلق على نفسه اسم (شر و-كين) أي الملك الشرعي أكد في وثائقه المسمارية ان الآلهة الحب عشتار أحبته ومنحته السلطة العليا في البلاد .
وفي القرن الثاني عشر (حنا سالسبوري) بين الملك والطاغية أ والحكام المطلق قال: (ان الملك يطيع القانون ويحترمه في حين يتجاهله الحاكم المطلق (- الدكتاتور -..) ثم قال: انه لما كانت الملكية نظاماً إلاهياً مقدساً / فان إساءة الملك استخدام سلطته يعتبر خيانة الله . وفي الحالة يجب إعدام الملك وتكون هذه العقوبة (حقا وعدالة)، هذه الآراء سجلها حنا سالسبوري سنة 1159 م في كتابه عن الحكومة والسياسة الذي يعتبر أهم محاولة لتنظيم الفلسفة السياسية في القرن الثاني عشر .
كما ان العلاقة بين الملك والشعب عبر عنها توما الاكويني في القرن الثالث عشر (1225 - 1274 م) حين قال ((ليست المملكة ملكا للملك وإنما الملك ملك للمملكة)) ويشع من هذه الفكرة بذور نظرية العقد الاجتماعي لأن معنى بقاء الملك في الحكم يجب ان يكون مقرونا بصالح الشعب وبناء على ذلك يحق للشعب الخروج عن طاعة الملك وخلعه إذا لم يعمل على تحقيق الصالح العام للرعية.
وكان لظهور أفكار (ميكا فيلي) الذي عده البعض مؤسس علم السياسة الحديث اثر كبير في بلورة مفاهيم سياسية جديدة فقد انطوى المفهوم الميكيافيلى على معينين أ ولهما: عام ويدل على الأعمال السياسية اللاأخلاقية انطلاقا من المبدأ المعروف (الغاية تبرر الوسيلة) الذي يعزى إلى ميكيافيلى كالغدر والدسائس والمؤامرات وغيرها وثانيهما: دقيق ومحدد ويشير إلى أفكار ميكيافيلي السياسية التي تميزت عن غيره من المفكرين والتي تضمنها على الأخص كتاباه المشهوران (الأمير - 1513) و(المطارحات - سنة 1513- 1521) .
لقد كان نقولا ميكيافيلى (1469 - 1527 م) يرى وجوب التفريق بين السياسة والأخلاق . إذ لكل منهما ميدانه الخاص به والتفريق كذلك بين الأخلاقيات العامة والأخلاقيات الخاصة، إذ ان السياسة تفرض على ممارستها أخلاقيات في الحياة العامة تختلف عن أخلاقياتهم كأفراد تربطهم بالآخرين علاقات اجتماعية .. ويرى مكيافيلي ان الموضوع المركزي للنشاط السياسي ه والاستيلاء على السلطة (_سلطة الدولة) ثم المحافظة عليها بعد ذلك، ومن ثم فان الخداع والتزييف والمراوغة والدهاء والغدر والأنانية فضلا عن استعمال القوة عند الاقتضاء هي وسائل فعالة وتلعب دورا حيويا في الممارسة السياسية ولن تكون كل هذه الوسائل عيوبا في شخصية (الأمير) لأنه ليس هناك مجال لأخذ الاعتبارات الأخلاقية في تسير شؤون الدولة ان فضيلة الأمير (أ ورجل الدولة) هي النجاح في تحقيق سياسته بغض النظر عن طبيعة الوسائل التي يستخدمها في ذلك .
وجدير بالذكر ان العرب عدوا السياسة جزءا من الأخلاق وارجع البعض ذلك إلى ان العرب تأثروا باليونان وكانت الفلسفات القديمة والوسطية كلها تمزج بين الأخلاق والسياسة وكان مكيافلي أول من فصل السياسة عن الأخلاق في الفكر الفلسفي في كتابة (الأمير) .
وفي مطلع القرن الثامن عشر في حدث التطور الأبرز في تاريخ السياسية إذ ظهرت (العلمانية) كنظام جديد للحكم والعلمانية (بكسر العين) كلمة مشتقة من العلم والعالم وه وخلاف رجل الدين والكهنوتي وهي فكرة من أفكار المسيحية الغرب لا وجود لها في الإسلام، وأساسها وجود سلطة دينية هي سلطة الكنيسة وسلطة مدنية هي سلطة الأمراء وظهرت العلمانية في عصر النور كردة فعل على هيمنة الكنيسة الكاثوليكية في روما والمؤسسات الدينية لها على أمور الدين والدنيا ومحاولتها فرض سياسات معينة على الأقطار المسيحية فقد وصل الحال بالبابا ان اصبح (زعيما - دينيا - ملكيا) تحيط به مظاهر الأبهة ويعيش في بلاط مترف أشبه ببلاط الأباطرة واعتبر البابا نفسه (نائب المسيح) يحدوه الأمل ان يجعل العالم المسيحي مملكة واحدة يتولى شخصيا زعامتها .. وهكذا اصبح البابا راس الكنيسة الكاثوليكية باعتباره خليفة القديس بطرس، فكان رد فعل الأمراء وحكام أوروبا ان ابتكروا نظام العلمانية ليتحرروا من رقة النفوذ البابوي.
أما السلاطين آل عثمان في الأستانة فقد اعتبروا أنفسهم خلفاء الإسلام وأضفوا سلطة دينيه على حكامهم المستبدين الحاكمين باسم الدين مما أدى بالتالي إلى رد فعل عنيف معارض تمثل في حركات الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر الميلادي بزعامة علماء متحررين أمثال الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وكان لدعواتهم وأفكارهم الأثر الأبرز في شيوع وانتشار مذاهب سياسة جديدة مبتدعة ليس لها جذور في الإسلام كالديمقراطية والعلمانية والدعوة القومية والاشتراكية وأدى إلى التحرر الكامل من هيمنة علماء الدين، ثم تبنت اغلب الأحزاب السياسية العربية هذه المفاهيم ورفعتها كشعارات لتداعب من خلالها أحلام وتطلعات الشباب العربي المحبط والباحث عن مخرج لانتكاساته المتلاحقة وبذلك أصبحت هذه المفاهيم العلمانية واقع حال مفروض على المجتمع العربي الإسلامي رغم اختلافها جملة وتفصيلا مع روح الدين الاسلامي .

الدكتور ياسر تركي عنتر
الشرقاط - العراق

الاتجاه الآخر    30/03/2005