عبد المنعم أبو الفتوح. بعد قراءتي لمشروع "الإسلام الحضاري" الذي طرحه رئيس وزراء ماليزيا الدكتور عبد الله بدوي ازداد إيماني ويقيني بعظمة هذا الدين وشموله وتجاوزه لمعنى الزمان والمكان أكثر وأكثر، فعلى تباعد المسافات واللغات بيننا فإن درجة التقارب بين التصور المبدئي الذي طرحه سيادته والتصور المبدئي الذي كنت قد طرحته بعنوان "المفهوم الإسلامي للإصلاح الشامل" جعل الأمر يبدو وكـأنهما قد خرجا من مشكاة واحدة، وهذا صحيح، وهو في ذاته أقوى دليل على عالمية هذا الدين واستيعابه الكامل للفوارق الطبيعية بين البشر. أنا ممن يؤمنون بوحدة التراث الإنساني وشيوعه بين البشر أجمعين .. وأن الحضارات تراكم بعضها بعضا وهي في نهاية الأمر بناء إنساني مشترك، اشترك ويشترك في بنائه مفكرون ومجتهدون وعلماء وباحثون من سائر الأعراق من الشعوب والبلدان، فلا توجد حضارة تبدأ من الصفر، فهي تبنى على ما قد بناه السابقون ويضيف إليه اللاحقون. مثلا؛ في العلوم الطبية هائلة التطور الآن في العالم، ستجد بصمات وآثار جهد وبحث ابن سينا والرازي كما كانت بصمات وآثار جهد وبحث جالينوس وأبقراط، والبدايات الأولى لابن الهيثم في اكتشاف سرعة الضوء كانت المقدمة الضرورية التي تأسس عليها علم الاتصالات الذي تنعم به الحضارة الإنسانية الآن، والأمر نفسه على مستوى العلوم الإنسانية من اجتماع وفلسفة وآداب. لذلك فإن من يسعى لأن يؤرخ للحضارة الإنسانية في عصرنا هذا بالثورة الفرنسية واتفاقية فرساي هو مخطئ وغير أمين. وأجدني مشفقا على من يتحدثون عن صراع الحضارات؛ فبالإضافة إلى كونه طرحا يمثل أسوأ أنواع البؤس الفكري والثقافي؛ لأن أصحابه يخالفون منطق الأشياء ويجحدون التاريخ، وإذا كان هذا الطرح قد وجد من يروج له استنادا إلى ثقافة البقاء للأقوى وقصة الرجل الأبيض في أمريكا؛ فإن بني البشر جميعا يرفضونه وسيقاومونه بكل أشكال المقاومة. والإسلام كما هو إسلام شامل تلخصه ثلاث صفات أنه إنساني وحضاري وعالمي. إنساني: من حيث اعتباره الإنسان مركز الوجود على الأرض، سجدت له الملائكة، وهو مخلوق الله المختار وخليفته في الأرض، مكرم في البر والبحر. وهو إنساني أيضا من حيث اعتباره الإنسان مخلوقا متفردا "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي..." الآية، فلا هو من الملائكة الأطهار ولا هو من الشياطين الأشرار، فيه من أشواق الروح ما فيه وفيه من التراب والطين ما فيه. فكانت تعاليم هذا الإسلام وتكاليفه وأوامره ونواهيه "إنسانية الطابع" من أولها لآخرها، سواء في الاعتقاد ومكوناته الإيمانية، أو في العبادات نسكا ومنهاجا، أو في المعاملات نصا وتشريعا. فهو دين "إنساني" من حيث توافقه التام مع الإنسان عقلا ووجدانا جسدا وروحا، ومن حيث توافق الإنسان التام معه في "وضوح" الاعتقاد و"بساطة" العبادات و"واقعية" المعاملات. حضاري: من حيث إنه يعتبر "المجتمع والدولة" ضرورة حتمية لإقامة الدين؛ فالجانب الفردي في الإسلام يكاد يكون محصورا في أمور معدودة ومحدودة.. والجانب الجماعي هو الأغلب في التكليف والتطبيق، وهذا واضح في العبادات وأكثر وضوحا في المعاملات. والمجتمع والدولة هما بؤرة أي حضارة، تتكاثف حولها النظم والتشريعات والقيم والأخلاقيات ووسائل العيش والمعاملات، فيقوم الكيان الحضاري في الإسلام صلبا منيعا على الأرض موصول الصلة بالسماء. عالمي: من حيث إن نبيه صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ورسالته موجهة للعالمين، ومن حيث إنسانية تكاليفه وأوامره ونواهيه، فهي في طبيعتها تتجاوز التاريخ والجغرافيا، وتستقر مع الإنسان أينما استقر وكيفما استقر، توافقا وتطورا. قصدت مما ذكرت أن أؤكد على طبيعة هذه الدين بتمامه وكماله كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وكما نؤمن ونعتقد، ولا أجدني -في حقيقة الأمر- مستريحا لإلحاق صفات "بالإسلام" هي في واقع الأمر مكون من مكوناته وجزء من كلياته. فمصطلح "الإسلام السياسي" على شيوعه وانتشاره على ألسنة كثير من المثقفين والدارسين فيه افتئات وتجاوز على طبيعة الإسلام كدين ومنهج، وفيه إخلال في النظر إلى المشروع الإسلامي للإصلاح والنهضة -في أي مكان- ناهيك عن عدم قابليه الإسلام للتجزيء والتفكيك "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة". والمشروع الإسلامي -كما أفهمه- تربوي البعد فيتمثل في صياغة الفرد عقليا بالفكرة الواضحة، ووجدانيا بالعقيدة الراسخة، وهو أخلاقي يوجه الحياة وينيرها بالعبادة الصحيحة مع الله والتعامل السوي مع الناس. وهو سياسي يتمثل في إحياء معنى المشاركة وتعبئة الناس دوما لإصلاح أحوالهم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) واجتماعي بالعمل على الحد من الفقر والمرض والجهل، ومن خلال إحياء معنى العمل الأهلي التطوعي أفرادا ومؤسسات.. واقتصادي بالعمل على إحياء معنى المشاركة في تنمية المجتمع وقدراته وتخليصه من كل أشكال التبعية. ودعوي بشرح تعاليم الإسلام شرحا يرد عنه غلو الغالين وتفريط المفرطين، وفكري البعد لتصحيح المفاهيم الخاطئة فهما وتصورا عن الإسلام عند المسلمين وغير المسلمين على السواء. و"النموذج الإسلامي للدولة العصرية" الذي ننشده ونتمناه ونعمل له جميعا، لا بد أن يكون نابعا من إرادة شعبية عارمة، ولا بد أن يكون تدريجيا، رفيقا في الوصول إليه وتحقيقه، فهذه هي السنن والقوانين التي وضعها الخالق عز وجل لمفهوم "التغيير" و"البناء". وبجانبها لا بد أيضا من تعميق معنى "الحرية" التي يدعي البعض أنها ليست موجودة في التراث السياسي الإسلامي متناسين مقولة عمر بن الخطاب الخالدة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!"؛ فالحرية حق إنساني أصيل لا يملك بشر لبشر أن يمنعه أو يمنحه. ولا بد أيضا من تعميق معنى "المشاركة" حتى نستطيع أن نتغلب على رواسب الماضي من إقصاء وعزل للمجتمعات عن الدراية والمعرفة والمشاركة في إدارة شئون حياتهم، حتى تغدو آمال الناس في ذاتهم وإرادتهم وما يؤمنون به من قيم ومبادئ.