د. عبد الوهاب المسيري تناولنا في المقالات السابقة ما سميته الخاصية الجيولوجية التراكمية، فأشرنا إلى أن اليهود منذ بداية التاريخ وقعوا تحت تأثير تشكيلات حضارية مختلفة (مصرية- أشورية/ بابلية- يونانية- رومانية- مسيحية غربية- إسلامية) وقد تأثرت العقيدة اليهودية بهذه التشكيلات قبل وبعد مرحلة تدوين العهد القديم. وقد استوعبت العقيدة اليهودية عناصر مختلفة من هذه التشكيلات. ولنأخذ على سبيل المثال أثر الحضارة المصرية القديمة على العقيدة اليهودية. أثّر نظام الكهنوت المصري في نظام الكهنوت اليهودي، وكذلك في هندسة الهيكل التي تشبه هندسة المعابد المصرية، كما أثّر التراث المصري في بعض مظاهر العبادة الإسرائيلية والعبادة القربانية (المرتبطة بالهيكل) مثل تابوت العهد وقدس الأقداس وغيرها. ويبدو أن عبادة عجل أبيس في مصر الفرعونية تركت أثرها على العبرانيين القدامى، ومن هنا كانت عبادة العجل الذهبي (أثناء مرحلة التيه). وقد بعثت عبادة العجول الذهبية بعد انقسام مملكة داود وسليمان عليهما السلام (التورايين) على يد يربعام (ملك المملكة الشمالية) الذي يقال إنه تعلم عبادة العجل حينما جاء إلى مصر. ولم يقتصر الأثر المصري على هذا الجانب الوثني، بل سنجد أن الحضارة المصرية بنزعتها التوحيدية والأخلاقية تركت هي الأخرى أثراً عميقاً على العقيدة اليهودية. فقد ترك الفكر التوحيدي المصري القديم، وعبادة "إخناتون" التوحيدية، أثراً واضحاً وعميقاً في العبرانيين، وفي رؤيتهم للإله بشكل عام. كما أن بعض الأوجه الإيجابية للرؤية الأخلاقية العبرانية تعود إلى الحضارة المصرية التي أكدت فكرة الثواب والعقاب. كما أخذ العبرانيون شعيرة الختان، وفكرة تحريم أكل لحم الخنزير، ومبدأ النجاسة، من المصريين القدامى، أي أنه يمكن القول إن كلا من الجوانب الوثنية والتوحيدية في الحضارة المصرية القديمة تركت أثرها على العقيدة اليهودية، مما يعمق من الخاصية الجيولوجية. وقد تأثر العبرانيون كذلك بحضارة الكنعانيين في كثير من المجالات، فبعض صفات "يهوه" هي من صفات "بعل" إله الكنعانيين. وبعض التحريمات (مثل طبخ الجدي في لبن أمه) هي عادات كنعانية قديمة. وكـثير من الأعيـاد اليهـودية، مثل عيد الفصح وعيد الأسابيع وعيد المظال، ذات أصل كنعاني. ويُلاحَظ على أسفار موسى الخمسة أن كثيراً من نصوصها يتشـابه مع أسـاطير سـومرية وبابلية، وتشـريعات بابلية قديمة. كما تأثر اليهود بكثير من الشعائر والعقائد البابلية، مثل السبت، وتغطية الرأس أثناء الصلاة، وفكرة يوم الحساب، والتقويم. ولم يتوقف تأثر اليهودية بالديانات والحضارات الأخرى مع العودة من بابل، فقد ظل هذا النمط سائداً إذ تأثر اليهود بالتراث الفارسي والفكر الهيليني والإسلامي والمسيحي. كانت العقيدة اليهودية تستوعب هذه العناصر من الحضارات والعقائد الأخرى قبل تدوين العهد القديم (أو التوراة) وبعده، وقد تمت عملية التدوين بعد آلاف السنين من التاريخ المفترض لحادثة الخروج من مصر (1200 ق.م)، وتمت على فترات متباعدة، ولذا فهو يحوى تصورات مختلفة متناقضة. كما أنه حتى بعد التدوين، لم يتم تحديد أصول الدين اليهودي، مما ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لدخول عقائد غير متجانسة على العقيدة اليهودية. ومما ساعد على تعميق الخاصية الجيولوجية أن التلمود (ويشار إليه أيضاً بأنه الشريعة الشفوية، وهي شروح الحاخامات للتوراة) اكتسب مركزية وشرعية تفوق مركزية وشرعية التوراة ذاتها. وقد كتب التلمود على مدار ألف عام وهو يضم اجتهادات مختلفة لعشرات الحاخامات الذين عاشوا في أماكن وأزمنة مختلفة. ولكن لعل العنصر الأساس الذي أدى إلى ظهور الخاصية الجيولوجية في تصوري هو عدم وجود سلطة مركزية دينية أو مدنية تبلور المفاهيم والعقائد الدينية اليهودية وتحدد المعايير التي يمكن عن طريقها تعريف ما هو الحلال وما هو الحرام، وما يتفق مع جوهر الدين وما يختلف عنه. وقد ظهرت سلطة مركزية عبرانية ثم يهودية لفترة قصيرة بعد تكوين مملكة داود وسليمان (التورايين). ولم تُعمّر هذه السلطة المركزية طويلاً إذ تأسَّس مركز آخر في بيت إيل بعد انقسام المملكة إلى مملكتين. وقد ازداد بعد ذلك تعدُّد المراكز والتبعثر مع انتشار الجماعات اليهودية في العالم، حين ظهر مركز ديني قوي في بابل (يتحدث الآرامية) وآخر في مصر لا يعرف العبرية ويتحدث اليونانية. وقد تم كل هذا قبل تبلور اليهودية بل قبل الانتهاء من تدوين وتقنين العهد القديم. ولذا يمكننا القول إنه إذا كان في الإسلام والمسيحية انقسامات وتنوعات، فإنه ظل دائماً هناك موقف أصولي أو مركز أرثوذكسي يحدِّد المؤمن والمهرطق أو الكافر. أما في اليهودية، فمع غياب هذا المركز، كان المهرطقون يستمرون في تجديفهم ويسمونه "يهودية". وقد ظلت اليهودية بتركيبتها الجيولوجية التراكمية إلى أن جاء العصر الحديث، ولم تكن مهيأة على الإطلاق، خاصة وأن الحاخامات (المتمثلة سلطتهم في الفتاوى والتلمود) كانوا - كما أسلفنا- قد أسبغوا على أنفسهم قدسية تفوق قدسية التوراة. وقد تكلست اليهودية على أيديهم، فتمادوا في إصدار التحريمات حتى أن أحد المفكرين اليهود في نهاية القرن الثامن عشر قال: إنه كان عليه أن يختار إما أن يكون يهودياً أو يكون إنساناً. ومما زاد الطين بلة إعلان الدولة الصهيونية، فقد تدفق بعض أعضاء الجماعات اليهودية عليها من كل أرجاء العالم، وكانوا يضمون في صفوفهم خليطاً غير متجانس، فكان هناك "السفارد" و"الأشكناز". كما ضمت صفوفهم أعضاء الجماعات الهامشية مثل يهود إثيوبيا (الفلاشاه) ويهود بني إسرائيل من الهند، وهؤلاء كانوا قد طوروا عقيدتهم اليهودية بعيداً عن اليهودية الحاخامية، فيهود إثيوبيا تأثروا بالمسيحية الإثيوبية، بينما تأثر يهود بنى إسرائيل بـ"الهندوكية". كما كانت أعداد كبيرة من المهاجرين من اليهود الغربيين الذين تمت علمنتهم تماماً. كل هذا أدى إلى تفجر التناقضات في التجمع الصهيوني نظراً لوجود هذه المجموعات غير المتجانسة التي تختلف عقائدها اليهودية أحياناً بشكل جوهري، وتزعم كل واحدة منها أنها "يهودية". فكان هناك التناقض بين اليهود المتدينين واليهود العلمانيين والملحدين، والتناقضات داخل المعسكر الديني ذاته بين اليهود "الأرثوذكس" مع بعضهم بعضاً، وبين اليهود "الأرثوذكس" ككل من جهة، ومن جهة أخرى اليهود الإصلاحيين والمحافظين والتجديديين. وهناك كذلك التناقض بين "السفارد" و"الأشكناز"، أي يمكننا القول إن التركيب الجيولوجي التراكمي أفصح عن نفسه على مستوى الحياة اليومية في الدولة الصهيونية. وقد تبلور كل هذا في ظاهرة أن الدولة الصهيونية قد أخفقت في تعريف اليهودي، وهي إشكالية تهز الدولة الصهيونية من جذورها من آونة لأخرى، إذ يطرح هذا السؤال نفسه على التجمع الصهيوني من آونة لأخرى من هو اليهودي؟ وهو سؤال بلا إجابة حتى الآن. والله أعلم.
|