بقلم/ الدكتور جابر قميحة أستاذ الأدب العربي بجامعة عين شمس بالقاهرة الشاعر الفلسطيني أبو الطيب "عبد الرحيم محمود" (1913- 1947م)، الذي استُشهد وهو يقاتل الصهاينة في موقعة (الشجرة).. هذا الشاعر البطل الشهيد عرفتُه شِعرًا قبل أن أعرفه شاعرًا, عرفتُه كلماتٍ قبل أن أعرفه رجلاً وإنسانًا, ففي أواخر الأربعينيات- ونحن تلاميذ صغار في المرحلة الابتدائية- كنا نتغنَّى بكلماته القوية الرنَّانة الآسرة: سأحمل روحي على راحتي وأُلقي بها في مهاوي الردى فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العِدى كنا نردد هذه الكلمات، دون أن تنسَب لقائلها، ولو نُسبت فلن يغني ذلك شيئًا؛ فما كان منَّا أحد- في هذه السن الباكرة- يعرف من هو "عبد الرحيم محمود", وما كان أساتذتنا يقفون قصيرًا أو طويلاً إلا أمام الأسماء المتوهِّجة المشهورة, من أمثال "أحمد شوقي", و"حافظ إبراهيم"، و"خليل مطران", و"إيليا أبو ماضي", و"أحمد محرم". كانت مأساة فلسطين في تلك الأيام في بداية نضجها المنكود، وولدت إسرائيل (الكيان الصهيوني) بعد مخاض اشترك فيه الاحتلال الإنجليزي، والصهيونية, والصليبية العالمية, والتقاعس العربي, وظلت أبيات "عبد الرحيم محمود" رنينًا في أذني، ذا عبق خاص, ونكهةٍ غريبةٍ, تختلف عما أجده في شعر الحماسة والوطنية، الذي كنا نحفظه في هذه المرحلة. وكان تأثير البيت الأول أقوى في نفسي من تأثير البيت الثاني؛ لأنني لم أكن مقتنعًا بمضمون شطره الثاني, وكنتُ أتحدث إلى نفسي: حياة تسر الصديق.. نعم, ولكن ممات يغيظ العًدَى كيف?! كيف.. والأعداء يسرُّهم أن يموت كل مواطن مناضل, وكل مكافح شريف؟! ثم تمر الأيام, وأكتشف المعنى الكبير الخالد في مثل هذا الممات الذي يُغيظ الأعداء ويثيرهم ويحزنهم, بل يزلزل أركانهم, ويقوِّض بنيانهم.. إنه الموت: الخالق البنَّاء.. الموت المشيَّد المُعلي, الموت الباعث الناشر, هو الموت الذي كشف "أحمد شوقي" عن مفهومه الجليل العظيم في قوله: ولا يبني الممالك كالضحايا ولا يُدني الحقوق ولا يحقُ ففي القتلى لأجيالٍ حياةٌ وفي الأسرى فدًى لهمو وعتقُ إنه مفهوم علوي يسبح في أفُق قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ (الأنعام: من الآية 95), نعم.. لا بد من موتٍ بالقوة والحق والثبات, ولو مات مثل هذا الموت لماتت مثل هذه الحياة. وبذلك استطعتُ أن أسبحَ في هذا الأُفُق بوجداني قبل أن أعيشه بعقلي، ثم أهتدي للتفسير الذي كفاني وشفاني, تفسير ذلك الموت الذي يغيظ العدى, وعرفتُ كيف تنتصر الحياة بمثل هذا الموت, وعرفتُ أن الحقيقة التاريخية التي لا تطمس تتلخص في أن الانتصارات الكبرى تعتمد على هؤلاء الذين تقدموا الصفوف وقادوا الرجال, وجادوا بالنفوس, ومضَوا في التاريخ شُعلاتٍ, وقدواتٍ تتفجَّر منها حيوات خالدات, تَبني وتُعلي ولا تموت. إنها كلمات لا تحتمل الكذب أو التكذيب, كلمات تعكسها وتجسدها- في قوة وأمانة- الانتفاضة الفلسطينية المباركة؛ ففي كل يوم تسيل دماء, ويسقط شهداء من الرجال والنساء والأطفال, وتُنسف بيوت, وتَحترق مزارع، وكل هذه التضحيات في مواجهات غير متكافئة, ومع ذلك زرعت الرعب في قلوب الصهاينة, وأطارت النوم من عيونهم, وجعلت أبناء الشعب الفلسطيني يدركون, ويؤمنون أنه لا حلَّ لقضيتهم إلا بالحجر والرشاش, ومزيدٍ من الدماء والشهداء. فليخرس المطبِّعون من أذناب الثور الأمريكي, وليخرس طلاب الدنيا والأرصدة المتضخمة من رجال السلطة الفلسطينية وأشياعهم، الذين يدعون الشعب الفلسطيني المناضل إلي السكينة والهدوء, وإلقاء السلاح ونبذ العنف؛ حرصًا علي السلام والسلامة, وحقنًا للدماء. ليخرس هؤلاء جميعًا, فلا مكان لهم في مسيرة النضال.. مسيرة الموت الشريف؛ من أجل ميلاد جديد لحياة الكرامة وكرامة الحياة.