نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
تعليمنا المحتاج إلى تعليم الأسئلة!
خالد سليمان اليحيا *
ماذا لو صدر قرار بإيقاف الدراسة في مدارسنا لمدة سنة واحدة كاملة قابلة للتمديد؟ وبناء على قرار الإيقاف يتم تحويل ميزانية وزارة التربية والتعليم لأحد معامل البحث الحيوية المتطورة من أجل إنتاج شرائح إلكترونية يتم غرسها في أدمغة طلابنا بوسائل «إنسانية» غير مؤلمة، بحيث تتميز هذه الشرائح الإلكترونية باحتوائها على كل المعلومات التي يتم حقنها في عقول أبنائنا عبر سنوات دراستهم المتطاولة، بما فيها المعلومات الخاصة بمناخ فنزويلا والمفعول لأجله.
هذا الاقتراح «المدروس» لن تقتصر فوائده على اختصار السنوات المديدة التي يقضيها الطلاب بين علب الفصول الاسمنتية، ولا على الفرحة التي ستجتاح طلابنا المساكين ودعواتهم المستمرة لكل من كان عونا في تطبيقه، ولا على المدرسين والمشتغلين بالتعليم الذين لن تفوتهم تعاملات الأسهم الصباحية بعد اليوم وسيتفرغون للمساهمات العقارية ودفع عجلة اقتصادنا بافتتاح المزيد من المطاعم والمغاسل ومحلات التصوير.. وإنما ستتجلى الفائدة الكبرى للاقتراح في التأكد من أن عملية الحشو المعرفي ستتم بطريقة آلية متأكد من سلامتها.. وأن أبناءنا سيفكرون جميعا بعقل واحد وسيكتبون جميعا بحبر واحد ولون واحد وخط واحد..
أليس هذا ـ بالضبط ـ ما نريده من مدارسنا؟
كنت دائما أتساءل عن الذي يدور في ذهن الأستاذ وهو يختم حصته الدراسية بقوله: هل هناك سؤال أو استفسار؟
أي نوع من الأسئلة ينتظر؟
هل ينتظر «عفريتا» يقول له: ماذا لو كان كلامك يا أستاذ خطأ؟ أو آخر يقفز عليه قائلا: ان الحقائق التي ذكرتها مشكوك في صحتها؟ وثالث يثرثر فيقول: يبدو يا أستاذ انك متأثر بعواطفك لدرجة جعلت نتائجك تفتقر للمنطقية؟ ويلبي الرابع طلب الاستاذ فيقول: لماذا أشعر أنك تكرر بعض الأفكار لا لشيء إلا لإيمانك الايديولوجي بها الذي لم ولن يخضع لمجهر التحليل؟
أطمئن أساتذتنا أن هذا النوع من «العفاريت» لم تخترعهم مدارسنا بعد.. وأن هذه الأسئلة لن ينطق بها أحد بالرغم من استجداء الأساتذة للأسئلة كل يوم.. ذلك أن المدرسين مشغولون بحقن تلاميذهم بحقائق ومعلومات غير قابلة للنقاش تأتي في صور حزم معرفية مركزة لا توجد فيها أي إشارة إلى احتمالية الخطأ.. ولا تحمل أي دلالة على أن هذه الأفكار هي أحكام بشرية قد يعتريها التهافت والغموض والنقص الآدمي. فالمدرس ـ أصلا ـ يعتقد بصورة يقينية، أن الحقائق قابلة للاقتناء.. وأن وسيلة الطالب الوحيدة لاجتياز الاختبار هي الإيمان أن لكل سؤال محدد هناك إجابة وحيدة هي الصحيحة!
لكن ما العيب في أن تتنامى لدى الطلاب منهجية التفكير النقدي.. وأن يتعلموا مساءلة الإجابات كما نحفظهم إجابات الأسئلة؟ فالعلم في النهاية وعبر مسيرته التاريخية ثبت أنه يعتمد على الأسئلة الصحيحة أكثر من اعتماده على الإجابات الصحيحة!
هل نريد من الطالب أن يعطينا تعريف الذرة؟ الكتاب ستكفيه مؤونة الإجابة.. لكن مثل هذه المعلومة ينبغي أن تكون بداية لأسئلة لا تنتهي.. هل رأى أحد الذرة؟ هل كان السابقون يعلمون بوجودها؟ هل اكتشفت أم اخترعت؟ لنفترض أن أحدا ينكر وجود الذرة.. ما الذي سيترتب على ذلك؟
إن كثيرا من كبسولات المعرفة التي تقدم لأبنائنا ويرغمون على تجرعها تأتي منفصلة عن حجم المعاناة البشرية التي تمخضت عن بقاء ما ينفع الناس في الأرض والقضاء على غثاء الزبد..
لذا فإن الحاجة قد تكون ماسة لنوع من التحفيز العقلي الذي يستحث الطلاب لاكتشاف كم هي عدد المرات التي استمرأ فيها البشر العيش في ظل المعلومات الخاطئة، وكيف أن هؤلاء البشر ظلوا يدافعون عن معلوماتهم تلك بحماسة دوغمائية تصل لحد العنف أحيانا.. وكم ـ وهذا الأهم ـ كان صعبا على النفوس القبول بالتغيير والتصحيح؟.. خصوصا حين يدرك الطلاب ـ مثلا ـ كيف نكص غاليليو على عقبيه وأنكر حركة الأرض وأعلن ثباتها تحت إرهاب التعذيب.. أو أن فكرة دوران الدم في العروق التي نتعامل معها كمسلمة بدهية ظلت قضية يحتدم حولها النقاش حتى منتصف القرن التاسع عشر.. أو أن بعضا من علماء الإسلام سردوا الحجج بلا نهاية في معرض تبريرهم رفض فكرة إلغاء الرق..
ربما لو فكرنا في نوعية الأسئلة كتفكيرنا بكمية الإجابات ستتلاشى الحتمية التي تغلف خطاباتنا وحواراتنا وتتحرك أسئلة العلم بدلا من وقوفها ـ كما يرغب بعض اساتذتنا ـ على حواديت تفاحة نيوتن ومغطس أرخميدس..
أما حين تتحول المعرفة إلى مجرد سلعة قابلة للاقتناء ويغيب الشعور بأنها كفاح إنساني يصارع الأوهام ويسعى نحو الفهم والتنعم بضياء الحقيقة.. فإنها ستظل متجمدة بين العصور.. وتجمد معها كل أولئك الذين لا ينظرون من خلالها للماضي ولا يستشرفون بها المستقبل.
* أكاديمي سعودي في مونتريال ـ كندا

جريدة الشرق الأوسط    28/03/2005