نداء الإيمان | التاريخ(هجرى - ميلادى ) | مواقيت الصلاة واتجاه القبلة | موجز الصحافة | إلى كل المسلمات | قرأت لك
صحافة الإدمان للقضية الواحدة

غسان الإمام

عندما أصدر مصطفى أمين في عام 1944 صحيفة «أخبار اليوم» الأسبوعية، كان هدفه الوحيد تحطيم زعامة مصطفى النحاس الوفدية. وبدأ الكاتب فورا في خدمة غرضه، فكتب سلسلة مقالات وتحقيقات تحت عنوان «لماذا ساءت العلاقات بين القصر والوفد؟».
غير أن مصطفى أمين كان من الذكاء الصحافي بحيث لم يكرس الصحيفة الناجحة لهذا الغرض السياسي الواحد. فقد كتب هو وشقيقه في مواضيع وقضايا مختلفة، وضم إلى صحيفته صحافيين محترفين وكتابا لامعين من أمثال المازني وتوفيق الحكيم... لم يكونوا ملتزمين بالإمساك بحزب الوفد وزعيمه الكبير ومحاصرته في كل زواية وتعليق بالنقد والهجوم اللاذع.
كان مصطفى أمين في الأربعينات المخبر الصحافي الأول في مصر، وكان كاتبها الساخر الأول. مع ذلك، لم ينجح هو و«أخبار اليوم» في تحطيم زعامة النحاس الشعبية. فقد عاد الوفد إلى الحكم في نهاية الأربعينات، إثر انتخابات نيابية حرة فاز فيها بأغلبية كبيرة.
صحافة الإدمان لقضية واحدة تضيِّق الشاشة التي تطل منها الصحيفة والكاتب على الرأي العام، لا سيما إذا كان الكاتب المدمن يعمل لحساب جهة أو مؤسسة تدعمه وتموله. نعم، نجحت «أخبار اليوم» صحافيا وحرفيا بفضل كتابها الكبار وموهبة مصطفى أمين الفذة ومبادراته الجريئة التي لا تبارى.
لكن انكباب قلم مصطفى وريشة رسامه محمد عبد المنعم رخَّا على الإساءة المستمرة لشخصية وسمعة النحاس، أساء أيضا وكثيرا لمصطفى أمين كصحافي وسياسي. وعندما أدرك خطأه انسحب من عالم السياسة، فلم يرشح نفسه مرة أخرى للنيابة، وجمد نشاطه في حزب «الهيئة السعدية»، فالصحافة زوجة شديدة الغيرة، لا تقبل ان تشاركها السياسة في زوجها الصحافي والكاتب المحترف.
السياسي يملك الحق والحرية، في الالتزام بقضية واحدة قد يكرس لها حياته السياسية كلها. السياسة ممارسة لموقف ورأي بصرف النظر عن انتهازية الممارسة أحيانا، وربما السياسة أيضا التزام مؤمن بمبدأ ثابت أو عقيدة أو آيديولوجيا.
بيد ان الصحافة شيء آخر. الصحافة جملة اهتمامات سياسية واقتصادية وثقافية مختلفة ومتغيرة. كلما تحرر الصحافي والكاتب والمعلق من الارتباط بالمال السياسي والطبقة السياسية والمالية، وكلما حافظ على استقلاليته عن مراكز القوى الخفية، وفي مقدمتها أجهزة المؤسسة المخابراتية، كانت ثقة الرأي العام بموضوعيته كبيرة، وكانت خدمته للمؤسسة الصحافية التي يعمل فيها أكبر وأكثر فائدة لها وثقة بها.
في حياتنا العربية السياسية، أستطيع أنا وأنت، عزيزي القارئ، أن نقدم أمثلة كثيرة على ساسة وزعماء فقدوا حياتهم أو مسيرتهم السياسية نتيجة لخدمتهم قضية واحدة. وأستطيع أن أقدم أمثلة كثيرة على صحافيين وكتاب محترفين فقدوا حياتهم عندما أخطأوا وأمسكوا بتلابيب قضية واحدة، وأدمنوا خدمة غرض سياسي واحد لا يغادرونه.
في الخمسينات اللبنانية، قتل الصحافي نسيب المتني عندما أدمن الهجوم على الرئيس كميل شيمعون. كان شيمعون رئيسا سيئا في نظر معظم الطبقة السياسية، لكن شجاعة المتني أساءت الى حرفته عندما جعل شيمعون هدفا يوميا له ولصحيفته.
كان كامل مروة موهبة صحافية فذة. كانت صحيفته «الحياة» اللبنانية ذات اهتمامات عربية، بحكم معرفته الواسعة، ومقرؤة في المشرق العربي. لكن عندما أدمن التركيز على مهاجمة عبد الناصر، فقد موضوعية قلمه الناقد وافتتاحيته العلقلانية المختصرة. ووصل غضب الشارع الناصري الملتهب في الستينات الى اغتياله في مكتبه. أساءت الجريمة لسمعة عبد الناصر. فقد ضاقت شعبيته بصحافي لا يملك سوى قلمه، وإن كان قد سخره لخدمة غرض واحد.
في عام 1980، قتل صحافي كبير وسياسي كبير. فقد سليم اللوزي وصلاح البيطار حياتهما عندما أدمنا الهجوم على نظام سياسي معين. لم أعرف في حياتي الصحافية صحافيا بشجاعة سليم اللوزي. وصلت جرأته الى مس طائفة النظام «التي لا تمس»، ثم ركب الطائرة من لندن الى بيروت لتشييع والدته، فكان أن لحق بها بعد أيام قليلة. لم يدرك سليم أن مقتل شقيقه مصطفى في طرابلس قبل فترة كان رسالة تحذير موجهة إليه شخصيا. ظهرت جثة سليم مرمية في الاحراش، وقد سُلخ الجلد واللحم بوحشية عن عظام يده وأصابعه التي يمسك بها القلم.
أما صلاح البيطار فقد أصبح هدف النظام عندما كرس صحيفته الأسبوعية «الإحياء العربي» التي أصدرها في باريس لقضية واحدة هي نقد النظام ولا شيء غير النظام، فدخل في مرمى الهدف القاتل عندما أصبح أيضا مرشحا بديلا لنظام يمر في مأزق كبير مع المعارضة النقابية والليبرالية والاخوانية المسلحة.
أعبر الآن فوق الأسلاك الشائكة في محاولتي الوقوف عند جريمة اغتيال سمير قصير البشعة. أبدأ بطرح سؤال محير: لماذا يكرس صحافي ورجل علاقات عامة ناجح حياته ونشاطه وقلمه من أجل خدمة غرض سياسي واحد لا غير، عندما أدمن الهجوم بلا هوادة على سورية؟!
أترك الجواب للقارئ من خلال الوقوف معه عند المحطات الرئيسية لقطار سمير. لقد ولد أصلا في الخمسينات في لبنان، لأم سورية وأب أرثوذكسي فلسطيني مهاجر من يافا. حماسة الفتى لفلسطينيته لفتت إليه اهتمام عرفات الشخصي، فجنده في «فتح» متغاضيا عن ميوله اليسارية.
برز سمير قصير في دراسته وصولا الى نيله الدكتوراه في التاريخ والعلوم السياسية من السوربون. غير أن رفاقه في الدراسة يقولون لي انه كان غامضا ومُحْرَجا عندما يسألونه عن انتمائه الحقيقي، هل للبنان أم لفلسطين؟ ثم وجد غطاء للمشكلة عندما عمل في مجلة فلسطينية صدرت في باريس الثمانينات بدعم من عرفات. ثم ما لبث أن وجد طريقه بنشاطه الواسع الى الأوساط الإعلامية الفرنسية.
لماذا عاد قصير فجأة الى لبنان في عام 1994، بعدما نجح أستاذاً جامعياً وصحافياً في باريس؟ هل عاد مدفوعا من عرفات «للحرتقة» على نظام الأسد؟ لقد تحالف «الختيار»، انتقاما ونكاية بالأسد، مع أطراف وزعامات في المعارضة المسيحية كان قد قاتلها في الحرب الأهلية؟
هل وجد سمير قصير من خلال هذا الاختراق العرفاتي طريقه إلى «النهار» القلعة الأرثوذكسية المعارضة لسورية، ثم الى حضن المعارضة المسيحية التي تسامحت مع فلسطينيته في حصوله على الجنسية اللبنانية.
المعارضة الإعلامية للنظام، لأي نظام، ليست عيبا، لكن مصداقية الكاتب تتراجع عند التقييم المنطقي له، عندما تتهادى جدية تحليله السياسي، وعندما ينقطع للكتابة المهووسة بنظام معين، فلا يرى فيه سوى السوءات، ولا يرجع الى التاريخ القديم والحديث للنظام لعرض السلبي والإيجابي في دوره ووجوده.
بسؤال أكثر مباشرة وإلحاحا: لحساب مَنْ هذه الكتابة السياسية المستمرة المشبعة بالحقد الواضح والاستفزاز الصارخ؟ ثم هل اقترب سمير سرا من «معارضات» سورية يعتبرها النظام السوري خطرا على أمنه في هذه المرحلة الصعبة؟ لا جواب عندي. لا اتهام ولا تشكيك بالرجل. قلت اني أترك الاستنتاج للقارئ وحده.
أخيرا، لقد نسيت منذ البداية أن أقدم اعتذاري للعواطف البريئة التي عبرت عنها الصحافة العربية في رثاء قصير وتقريظه، من دون تحليل عميق لدوافعه وغاياته. لعله نبل الانحياز ضد ميتة بشعة لا يستحقها صحافي وكاتب وضع نفسه، من دون تفسير مقنع، على مفترق طرق خطر تتقاطع عنده صراعات بين معارضات وأنظمة وأجهزة، لم يكتمل نضجها كلها للقبول بالحوار، أو حتى لمجرد التسامح مع صحافي وكاتب احتكر خطأ الحرفة والمهنة، في الإدمان على قضية واحدة.

جريدة الشرق الأوسط    15/06/2005