*حمد الجاسر
الكاتب: محمد حسين الأعرجي
الناشر: دار المدى للثقافة والنشر - دمشق
الصفحات: 160
سنة النشر: ط1، 1998م
لا اخفي على القارئ الكريم أنني أنفر - بكراهية واشمئزاز - من سماع هذه الكلمة: (المخابرات)، كما أشار إلى هذا الاستاذ الكريم في كلمة تقديم نسخة من مطبوعة هذا البحث التاريخي الموثق بالأدلة على عمق جذوره التاريخية الاسلامية، إذ قال: (لا اريد إيذاءه بما سردت، ولكنها الحقيقة كما تَوهَّمْتُهَا).
ولئن كنت ممن لم يُبتل - ولله الفضل، وله الحمد على هذا - بأن ينالني أثر مُمِضِّ من آثارها، فان هذا الاستاذ الجليل قد اصطلى بنارها، على جلالة قدره، وسمو منزلته بالعلم، واتصاف اسرته الكريمة بالفضل، وعلو القدر، حتى طوَّحت به الأقدار، فاضطرته للنزوح من بلاده إلى مختلف أقطار العالم، مضطربا متقلقلا بين هذا وذاك، وهاهو الآن على تلك الاخلاق الكريمة يعيش مقيما، ولا اقول مستقرا فالاستقرار لا يتم الا مع راحة البال، وصفاء النفس مما يكدرها، وفي البلاد التي خلق المرءُ من ترابها، واغتذى بلبان خيراتها، وسعد فيها بالعيش في كنف أسرته وعشيرته، واهل وطنه وأمته. وأنى لاستاذنا الجليل هذا الآن، وهو يعيش في مدينة نائية في أقصى المعمورة (بوزنان) من بلاد (بولندا) تلك المدينة التي يصدق عليها وصف أبي الطيب:
ولكن الفتى العربيَّ فيها غريبُ الوجهِ واليدِ واللسان
الا انه - والحق يقال - يعيش بين قوم للعلم عندهم منزلة تسامي - بل تسمو على - غيرها، بعمق أثرها على جميع الصلات التي تربط بين البشر من قرابة ومواطنة وغيرهما. إنها ترتبط بأقوى آصرة تؤلف بين بني البشر، هي آصرة العلم والمعرفة، المؤثرة في الافكار والعواطف، ومختلف الرغبات الانسانية.
ان هذه الدراسة الجادة التي أوحت بهذا البحث الممتع في أسلوبه، المؤثر في محتواه، ما هي بالنسبة - لاستاذنا الجليل - سوى أنه مخزون، وشكاة مقهور مظلوم، صادرة عن ضمير اكتوى بلهيب نار هذا الجهاز، فحاول التنفيس عما يحس به من حرقة وأسى، وسعير ملتهب في داخل احشائه.
ولعلي لا أذهب بعيدا حين أتوقع أن المؤلف الكريم قد عانى أشد المعاناة مما تحدث عنه، مستشفا هذا من قوله مجيبا لمن استوضح منه عن اهتمامه بهذا الجانب المظلم من تاريخنا فذكر - فيما ذكر - فقال: (لم أكن أحسب يوم فكرت أن أبحث في هذا الموضوع أن أفاجأ بكل هذا الظلام الحالك). ثم أضاف فيما أضاف: (... والا فعجيب أن لا يكون لحكامنا كلمة نافذة مسموعة في العالم، مع أنهم لو شاءوا ان يتحكموا ببعض هذا العالم لفعلوا، وان لا تكون لنا نحن المحكومين حقوق البهائم ان تضرب عن الطعام). كذا قال أتراه يشير إلى قول الشاعر الكبير فؤاد الخطيب؟.
واعجب لغوغاء ان تشبع فقد رضيت رضا السوائم أقصى همها العلف؟
ثم ان الاستاذ المؤلف عالم منصف، من أبرز صفاته ان يحاول - فيما يكتب - إظهار الحقائق كما اتضحت له، غير عابئ بمن قد يكون في إبراز بعضها بالنسبة لمن تتصل به مما لا يرتضي (يا ايها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم أو الوالدين والاقربين) النساء/135.
وما عرضه - في الموضوع - مما يضاف إلى الحضارة الاسلامية، ويعني بهذه الاضافة الامة المسلمة، التي تأثرت بحضارات من يجاورها من أمم العالم، من يونان واغريق، ورومان وفرس وغيرهم، وما كل ما أتت به الحضارة - اياً كان مصدرها - بحسن ولا مقبول، ولا كل ما اضيف إلى الامة المسلمة يعد من الاخلاق الاسلامية النبيلة، وحسب المرء مُسمى المسلمين في هذا العصر.
لندع هذا الامر، ولنسر في استقراء ذلك الجهد الذي بذله المؤلف من خلال دراسته الشاملة للموضوع، لقد تحدث عن كتابين حديث المتأثر بما فيهما، المستفيد مما حوياه من معلومات، رجع اليهما واستفاد منهما، هما كتاب "نظم الاستخبارات عند العرب والمسلمين" لعارف عبد الغني، و "موسوعة الاستخبارات والامن" لعلي دعموش العاملي، وأوفى الكلام عن الكتابين، ثم اوضح ما ينبغي ايضاحه عن سر اهتمامه بهذا الموضوع دون سواه، وهو جانب مظلم من تاريخ الامة، فأوضح ان من شأن الظلمة ان تلفت النظر في مهرجان الضوء نفسه، وان الامة تتفيأ ظلال غابة ذلها المعاصر، فلا بد من ان تعرف كيف نبتت جذور هذه الغابة المظلمة وان جانبا من حضارتنا لم يكتب فيه المتخصصون، فاستهواه ليكون فيه، كما استهواه قبله موضوع يتعلق بـ (المسرح) و (التمثيل) لم يكتب عنهما، فكتب "فن التمثيل عند العرب وهو في الكتابين هاوٍ غير محترف.
انه عالم يتصف بميزات يندر ان يتصف بها كثير من العلماء، ولو قلت: ممن ليس من قطرنا العزيز (العراق) - لما بالغت - إنها روح استسهال الصعاب، والاستخفاف بما يحل بهم من كوارث مهما عظمت، ومقابلتها بعدم الاكتراث، وارخاء الرأس بعد بذل الوسع في مصادمتها حتى تمر وذلك ما عبر عنه فيما كتب كمقدمة لتحقيق كتاب "الثقلاء" لابن المرزبان، مؤلف كتاب "تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" وأبرز تلك الميزات ما استشهد به من قول شيخ القراء في عصره ابن مجاهد المتوفى سنة 324هـ حين وصف أحدهم فقال: (فيه ظرف البغاددة مع الدين والخير.
وللاستشراف للمعنى الواسع لكلمة (الظرف) لعلي لا أعدو الحقيقة حين أستشف ذلك مما عرف عن (البغداديين) من نظرتهم إلى الحياة نظرة تتميز بتقبلها على علاتها بروح مشبعة بالاستخفاف، وعدم الخنوع لبلاوائها وشدتها، فهي متقلبة متغيرة:
لكل حالٍ مدة وتنقضي ما غلب الايام الا من رضي
ولماذا إثقال النفس - مع ما اعتراها وارهقها من جراء ما اصابها لماذا الاضافة عليها ارهاقها بالهموم والافكار مما يزيد الشقاء شقاءً والالم تبريحاً وشدة؟! أليس من الخير لها النأي بها ما أمكن عن هذا الجو، والخروج بها إلى جو رحيب بالآمال، وذلك بإضفاء أكثف الحجب على المساوئ والمنغصات، وابعادها عن الاحاسيس ما أمكن، وإحلال بواعث المرح والسرور، والرضا بالواقع، ان لم يكن اختيارا فليكن اضطرارا، ترقبا لما يعقبه من تغير لا بد منه:
دع المقادير تجري في أزمتها ولا تبيتن الا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها يُغير الله من حال إلى حال
ولعل أبا الطيب لم يذهب بعيدا عن هذا المعنى حين قال:
واذا لم يكن من الموت بدّ فمن العجز ان تموت جبانا
انني لا استبعد ان لم يعن بقوله هذا القاء النفس بالتهلكة، لتذهب فريسة للتهور وخطل الرأي، وأنما أراد النأي بقدر المستطاع عن كل ما يجر اليه العجز، من استسلام وخنوع وضعف، وذلك بتقليب الرأي على مختلف وجوهه فهو (قبل شجاعة الشجعان) وسيفضي - ولا شك - إلى ما يفتح مجال الآمال الرحيبة لتصريف الامور نحو ما هو أنجع وأنفع، وسيتضح ان خيرها واولاها في تلك الحالة ما يتحلى به (الظرفاء) من إشباع النفس بالرضا ومتطلباته، من دواعي الطمأنينة لتبقى قوية، لا تخنع ولا تخضع ولا تذل لاية كارثة، وان عظمت وجلت، وانما تقابلها بنفس صلبة ثابتة لا تلين صفاتها، ولا تتركها حرضا، ولقى مطروحا مستذلا مستهانا:
وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا اتضعضع
واراني نأى بي الاسترسال عن الحديث عما خصص هذا الكتاب للبحث فيه، مما قصدت فمررت على ما مهد به عنه مرورا سريعا، فيحسن استعراض مباحثه بايجاز
يقع الكتاب - بعد مقدمته - في سبعة فصول وخاتمة.
ففي المقدمة أوضح المؤلف الحوافز لجمع ما يمر به اثناء قراءته الواسعة في كتاب الادب والتاريخ، وكتب سياسات الملوك وسواها، بعد ان اتضح له عدم افراده بحديث فاصل من القدماء وعلل هذا بان سرّية عمله هي التي حجبت حقائقه عن ان تكون موضع تأليف - أو هكذا توقع - مع ان من يقرأ التاريخ الاسلامي ومصادر الادب لا يعدم ان يجد اشارات متناثرة متفرقة، تومئ إلى هذا الجهاز ولا تصفه، وتشير اليه ولا تقترب منه، مما يثير فضول الباحث لعله يستنطق هذه الايماءات، ويجمع تلك الاشارات لرسم صورة عنه وان لم تكن ان كاملة الوضوح، مما اثار به رغبة لجمع ما يمر به اثناء قراءاته مؤملا ان يجد فيما جمع ما يمكن ان يقدم للناس، وشد من عزيمته في هذا الشأن كتابان - تقدم الحديث عنهما - ثم وصف ما توقع ان يثار حول ما جمع من مسائل، وذكر منه جوانب أوضحها، واعتذر عن عدم الاستقصاء لانه لا يملك - اثناء التأليف - ما ينفعه من مصادر، ذكر من بينها كتاب "التاج في اخلاق الملوك" المنسوب للجاحظ، وبدائع السلك في طبائع الملك" لابن الازرق، و "لطف التدبير" ولم يذكر اسم مؤلفه، واين عنه هذه وامثالها، وهو يعيش في اقصى العالم، محروما من كل وسائل العلم والاستزادة منه، مما يتعلق بما اتمه له من تأليف، واضاف الى ذلك السبب انه لم يرد لنفسه ان يبدو بصفة المؤرخ بقدر ما اراد ان يرسم صورة لذلك (الجهاز) ولم يفته - في عرض اهم مصادره - ان يخص طائفتين من المسلمين (الشيعة) ومن سموا ب (الخوارج) وما توقع في مؤلفات الطائفتين، وقد انتابه - وهو يختم المقدمة - هاجس (الظرف البغدادي) مما توقع ان يكون جزاؤه من بعض من سينهي قراءة ما كتب ان يتذكر المثل: "ومن شابه اباه ما ظلم" متمنيا ان يضاف اليه: (هذا الذي شابه اباه فما ظلم قد ظلمنا نحن، اذ جعل من حضارتنا العريقة ذكريات منبوذين في صقيع المنافي)!!
واذن فلعل في عرض مباحث الكتاب بايجاز ما يستهوي القارئ لرغبة قراءتها - ففي طرافة الموضوع، وبطريقة عرض نصوصه، وبأسلوب مؤلفه الرائع الواضح حقا ما يغني عن التفصيل.
الفصل الاول: البدايات الاولى (13-32)
الفصل الثاني: تنظيم الجهاز ورجاله (33-56)
الفصل الثالث: وظائف الجهاز ومهماته (57-80)
الفصل الرابع: المعارضة وتفادي الجهاز (81-104)
الفصل الخامس: الجهاز ومرافق الدولة (105-128)
الفصل السادس: أساليب التعذيب والقتل والسجون (139-150)
الخاتمة: (151-154)
المصادر (155-159)