mozilla/4.5 (compatible; httrack 3.0x; windows 98) المكتبة الإسلامية - الإتقان في علوم القرآن - الإتقان في علوم القرآن
 
  الإتقان في علوم القرآن  
   الإتقان في علوم القرآن   
   ( 25 من 30 )  
  السابق   الآيات القرآنية   الفهرس   التالي  
  
 

 النوع الخامس والستون في العلوم المستنبطة من القرآن

قال تعالى ما فرطنا في الكتاب من

شيء وقال نزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وقال صلى الله عليه وسلم ستكون فتن قيل‏:‏ وما المخرج منها قال‏:‏ كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم أخرجه الترمذي وغيره‏.‏

وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود قال‏:‏ من أراد العم فعليه بالقرآن فإن فيه خبر الأولين والآخرين‏.‏

قال البيهقي‏:‏ يعني أصول العم‏.‏وأخرج البيهقي عن الحسن قال‏:‏ أنزل الله مائة وأربعة كتب وأودع علومها أربعة منها التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم الثلاثة الفرقان‏.‏

وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه‏:‏ جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة وجميع السنة شرح للقرآن‏.‏

وقال أيضًا‏:‏ جميع ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهومما فهمه من القرآن‏.‏

قلت‏:‏ ويؤيد هذا قوله صلى الله عليه وسلم إني لا أحل إلا ما أحل الله ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في الأم‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقة في كتاب الله‏.‏وقال ابن مسعود‏:‏ إذا حدثتكم بحديث أنبؤكم بتصديقه من كتاب الله تعالى‏.‏

أخرجهما ابن أبي حاتم‏.‏

وقال الشافعي أيضًا‏:‏ ليست تنزل بأحد في الدين نازلة إلا في كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها‏.‏

فإن قيل‏:‏ من الأحكام ما يثبت ابتداء بالسنة‏.‏قلنا‏:‏ ذلك مأخوذ من كتاب الله في الحقيقة لأن كتاب الله أوجب علينا أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وفرض علينا الأخذ بقوله‏.‏

وقال الشافعي مرة بمكة‏:‏ سلوني عما شئتم أخبركم عنه في كتاب الله فقيل له‏:‏ ما تقول في المحرم يقتل الزبور فقال بسم الله الرحمن الرحيم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏.‏

وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر‏.‏

وحدثنا سفيان عن مسعر بن كدام عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المحرم الزنبور‏.‏

وأخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ لعن الله الواشمات والمتوشمات والممتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى فبلغ ذلك امرأة من بني أسد فقالت له‏:‏ إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال‏:‏ ومالي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهوفي كتاب الله فقالت‏:‏ لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه كما تقول قال‏:‏ لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما قرأت وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا قالت‏:‏ بلى قال‏:‏ فإنه قد نهى عنه‏.‏

وحكى ابن سراقة في كتاب الإعجاز عن أبي بكر بن مجاهد أنه قال يومًا‏:‏ ما من شيء في العالم إلا وهوفي كتاب الله فقيل له‏:‏ فأين ذكر الخيانات فيه فقال‏:‏ في قوله ‏{‏ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتًا غير مسكونة فيها متاع لكم فهي الخيانات‏.‏

وقال ابن برهان‏:‏ ما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما من شيء فهوفي القرآن أوفيه أصله قرب أوبعد ففهمه من فهمه وعمه عنه من عمه وكذا كل ما حكم به أوقضى به وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ومقدار فهمه‏.‏

وقال غيره‏:‏ ما من شيء إلا يمكن استخراجه من القرآن لمن فهمه الله حتى أن بعضهم استنبط عمر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثًا وستين سنة من قوله في سورة المنافقين ولن يؤخر الله نفسًا إذا جاء أجلها فإنها رأس ثلاث وستين سورة وعقبها التغابن ليظهر التغابن في فقده‏.‏

وقال ابن أبي الفضل المرسي في تفسيره‏:‏ جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علمًا حقيقة إلا المتكلم بها ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه وتعالى ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم مثل الخلفاء الأربعة وابن مسعود وابن عباس حتى قال‏:‏ لوضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى ثم ورث عنهم التابعون بإحسان ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن حمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه فنوعوا علومه وقامت كل طائفة بفن من فنونه فاعتنى قوم بضبط لغاته وتحرير كلماته ومعرفة مخارج حروفه وعددها وعدد كلماته وآياته وسوره وأحزابه وأنصافه وأرباعه وعدد سجداته والتعليم عند كل عشر آيات إللاى غير ذلك من حصر الكلمات المتشابهة والآيات المتماثلة من غير تعرض لمعانيه ولا تدبر لما أودع فيه فسموا القراء واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال والحروف العاملة وغيرها وأوسعوا الكلام في الأسماء وتوابعها وضروب الأفعال واللازم والمتعدي ورسوم خط الكلمات وجميع ما يتعلق به حتى أن بعضهم أعرب مشكله وبعضهم أعربه كلمة كلمة واعتنى المفسرون بألفاظه فوجدوا منه لفظًا يدل على معنى واحد ولفظًا يدل على معنيين ولفظًا يدل على أكثر فأجروا الأول على حكمه وأوضحوا معنى الخفي منه وخاضوا في ترجيح أحد محتملات ذي المعنيين والمعاني وأعمل كل منهم فكره وقال بما اقتضاه نظره واعتنى الأصوليون بما فيه من الأدلة العقلية والشواهد الأصلية والنظرية مثل قوله تعالى ‏{‏لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فاستنبطوا منه أدلة على وحدانية الله ووجوده وبقائه وقدمه وقدرته وعلمه وتنزيهه عما لا يليق به وسموا هذا العلم بأصول الدين‏.‏

وتأملت طائفة منهم معاني خطابه فرأت منها ما يقتضي العموم ومنها ما يقتضي الخصوص إلى غير ذلك فاستنبطوا منه أحكام اللغة من الحقيقة والمجاز وتكلموا في التخصيص والإخبار والنص والظاهر والمجمل والمحكم والمتشابه والأمر والنهي والنسخ إلى غير ذلك من أنواع الأقيسة واستصحاب الحال والاستقراء وسموا هذا الفن أصول الفقه‏.‏

وأحكمت طائفة صحيح النظر وصادق النظر فيما فيه من الحلال والحرام وسائر الأحكام فأسسوا أصوله وفرعوا فروعه وبسطوا القول في ذلك بسطًا حسنًا وسموه بعلم الفروع وبالفقه أيضًا‏.‏

وتلمحت طائف ما فيه من قصص القرون السالفة والأمم الخالية ونقلوا أخبرهم ودونوا آثارهم ووقائعهم حتى ذكروا بدء الدنيا وأول الأشياء وسمعوا ذلك بالتاريخ والقصص‏.‏

وتنبه آخرون لما فيه من الحكم والأمثال والمواعظ التي تقلقل قلوب الرجال وتكاد تدكدك الجبال فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد والتحذير والتبشير وذكر الموت والمعاد والنشر والحشر والحساب والعقاب والجنة والنار فصولًا من المواعظ وأصولًا من الزواجر فسموا بذلك الخطباء والوعاظ‏.‏

واستنبط قوم مما فيه من أصول التعبير مثل ما ورد في قصة يوسف في البقرات السمان وفي منامي صاحبي السجن وفي رؤياه الشمس والقمر والنجوم ساجدة وسموه تعبير الرؤيا واستنبطوا تفسير كل رؤيا من الكتاب فإن عز عليهم إخراجها منه فمن السنة التي هي شارحة للكتاب فإن عسر فمن الحكم والأمثال‏.‏

ثم نظروا إلى اصطلاح العوام في مخاطباتهم وعرف عادتهم الذي أشار إليه القرآن بقوله ‏{‏وأمر بالمعروف‏}‏ وأخذ قوم مما في آية المواريث من ذكر السهام وأربابها وغير ذلك علم الفرائض واستنبطوا منها من ذكر النصف والثلث والربع والسدس والثمن حساب الفرائض ومسائل العول واستخرجوا منه أحكام الوصايا‏.‏

ونظر قوم إلى ما فيه من الآيات الدالات على الحكم الباهرة في الليل والنهار والشمس والقمر ومنازله والنجوم والبروج وغير ذلك فاستخرجوا منه علم المواقيت‏.‏

ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من جزالة اللفظ وبديع النظم وحسن السياق والمبادي والمقاطع والمخالص والتلوين في الخطاب والإطناب والإيجاز وغير ذلك واستنبطوا منه المعاني والبيان والبدي‏.‏

ونظر فيه أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معان ودقائق جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها مثل الفناء والبقاء والحضور والخوف والهيبة والإنس والوحشة والقبض والبسط وما أشبه ذلك هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه‏.‏

وقد احتوى على علوم أخرى من علوم الأوائل مثل الطب والجدل والهيئة والهندسة والجبر والمقابلة والنجامة وغير ذلك‏.‏

أما الطب فمداره على حفظ نظام الصحة واستحكام القوة وذلك إنما يكون باعتدال المزاج بتفاعل الكيفيات المتضادة وقد جمع ذلك فيآية واحدة وهي قوله تعالى وكان بين ذلك قوامًا وعرفنا فيه بما يفيد نظام الصحة بعد اختلاله وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله تعالى شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ثم زاد على طب الأجسام بطب القلوب وشفاء الصدور‏.‏

وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها ملكوت السموات والأرض وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات‏.‏

وأما الهندسة ففي قوله ‏{‏انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب‏}‏ الآية‏.‏

وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئًا كثيرًا ومناظرة إبراهيم نمروذ ومحاجته قومه أصل في ذلك عظيم‏.‏

وأما الجبر والمقابلة فقد قيل إن أوائل السور فيها ذكر مدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة وأن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة أيام الدنيا وما مضى وما بقى مضروب بعضها في بعض‏.‏

وأما النجامة ففي قوله ‏{‏أو أثارة من علم‏}‏ فقد فسره بذلك ابن عباس وفيه أصول الصنائع وأسماء الآلات التي تدعوالضرورة إليها كالخياطة في قوله ‏{‏وطفقًا يخصفان‏}‏ والحدادة ‏{‏آتوني زبر الحديد‏}‏ ‏{‏وألنا له الحديد‏}‏ الآية‏.‏

والبناء في آيات‏.‏

والنجارة ‏{‏واصنع الفلك بأعيننا‏}‏ والغزل نقضت غزلها والنسج كمثل العنكبوت اتخذت بيتًا والفلاحة ‏{‏أفرأيتم ما تحرثون‏}‏ الآيات‏.‏

والصيد في آيات‏.‏

والغوص كل بناء وغواص ‏{‏وتستخرجوا منه حلية‏}‏ والصياغة واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلًا جسدًا والزجاجة صرم ممرد من قوارير المصباح في زجاجة والفخار فأوقد لي يا هامان على الطين والملاحة ‏{‏أما السفينة‏}‏ الآية‏.‏

والكتابة علم بالقلم والخبز أحمل فوق رأسي خبزًا والطبخ بعجل حنيد والغسل والقصارة وثيابك فطهر قال الحواريون‏:‏ وهم القصارون‏.‏

والجزارة إلا ما ذكيتم والبيع والشراء في آيات‏.‏والصبغ صبغة الله جدد بيض وحمر والحجارة وتنحتون من الجبال بيوتًا والكيالة والوزن في آيات والرمي وما رميت إذ رميت وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة وفيه من أسماء الآلات وضروب المأكولات والمشروبات والمنكوحات وجميع ما وقع ويقع في الكائنات ما يحقق معنى قوله ‏{‏ما فرطنا في الكتاب من شيء‏}‏ أه كلام المرسي ملخصًا‏.‏

وقال ابن سراقة‏:‏ من بعض وجوه إعجاز القرآن ما ذكر الله فيه من أعداد الحساب والجمع والقسمة والضرب والموافقة والتأليف والمناسبة والتنصيف والمضاعفة ليعلم بذلك أهل العلم بالحساب أنه صلى الله عليه وسلم صادق في قوله وأن القرآن ليس من عنده إذ لم يكن ممن خالط الفلاسفة ولا تلقى الحساب وأهل الهندسة‏.‏

وقال الراغب‏:‏ إن الله تعالى كما جعل نبوة النبيين بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم مختتمة وشرائعهم بشريعته من وجه منتسخة ومن وجه مكملة متممة جعل كتابه المنزل عليه متضمنًا لثمرة كتبه التي أولاها أولئك كما نبه عليه بقوله ‏{‏يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة} وجعل من معجزة هذا الكتاب أنه مع قلة الحجم متضمن للمعنى الجم بحيث تقصر الألباب البشرية عن إحصائه والآلات الدنيوية عن استيفائه كما نبه عليه بقوله ‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله‏}‏ فهووإن كان لا يخلوللناظر فيه من نور ما يريه ونفع ما يوليه‏:‏ كالشمس في كبد السماء وضوؤها يغشى البلاد مشارقًا ومغاربا وأخرج أبونعيم وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قال‏:‏ قيل لموسى عليه السلام‏:‏ يا موسى إنما مثل كتاب أحمد في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته‏.‏

وقال القاضي أبو بكر بن العربي في قانون التأويل‏:‏ علوم القرآن خمسون علمًا وأربعمائة علم وسبعة آلاف علم وسبعون ألف علم على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة إذ لكل كلمة ظهر وبطن وحد ومطلع وهذا مطلق دون اعتبار تركيب وما بينها من روابط وهذا ما لا يحصى ولا يعلمه إلا الله‏.‏

قال‏:‏ وأم علوم القرآن ثلاثة‏:‏ توحيد وتذكير وأحكام‏.‏

فالتوحيد يدخل فيه معرفة المخلوقات ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله‏.‏

والتذكير منه الوعد والوعيد والجنة والنار وتصفية الظاهر والباطن‏.‏والأحكام منها التكاليف كلها وتبيين المنافع والمضار والأمر والنهي والندب ولذلك كانت الفاتحة أم القرآن لأن فيها الأقسام الثلاثة وسورة الإخلاص ثلثه لاشتمالها على أحد الأقسام الثلاثة وهوالتوحيد‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء‏:‏ التوحيد والأخبار والديانات ولهذا كانت سورة الإخلاص ثلثه لأنها تشمل التوحيد كله‏.‏

وقال علي بن عيسى‏:‏ القرآن يشتمل على ثلاثين شيئًا‏:‏ الإعلام والتشبيه والأمر والنهي والوعد والوعيد ووصف الجنة والنار وتعليم الإقرار باسم الله وبصفاته وأفعاله وتعليم الاعتراف بأنعامه والاحتجاج على المخالفين والرد على الملحدين والبيان عن الرغبة والرهبة والخير والشر والحسن والقبيح ونعت الحكمة وفضل المعرفة ومدح الأبرار وذم الفجار والتسليم والتحسين والتوكيد والتقريع والبيان عن ذم الأخلاق وشرف الآداب‏.‏

وقال شيدلة‏:‏ وعلى التحقيق أن تلك الثلاثة التي قالها ابن جرير تشمل هذه كلها بل أضعافها فإن القرآن لا يستدرك ولا تحصى عجائبه‏.‏

وأنا أقول‏:‏ قد اشتمل كتاب الله العزيز على كل شيء أما أنواع العلوم فليس منها باب ولا مسئلة هي أصل إلا وفي القرآن ما يدل عليها وفيه عجائب المخلوقات وملكوت السموات والأرض وما في الأفق الأعلى وتحت الثرى وبدء الخلق وأسماء مشاهير الرسل والملائكة وعيون أخبار الأمم السالفة كقصة آدم مع إبليس في إخراجه من الجنة وفي الولد الذي سماه عبد الحارث ورفع إدريس وإغراق قوم نوح وقصة عاد الأولى والثانية وثمود والناقة وقوم يونس وقوم شعيب والأولين والآخرين وقوم لوط وقوم تبع وأصحاب الرس وقصة إبراهيم في مجادلته قومه ومناظرته نمروذ ووضعه ابنه إسماعيل مع أمه بمكة وبنائه البيت وقصة الذبيح وقصة يوسف وما أبسطها وقصة موسى في ولادته وإلقائه في اليم وقتل القبطي ومسيره إلى مدين وتزوجه بنت شعيب وكلامه تعالى بجانب الطور ومجيئه إلى فرعون وخروجه وإغراق عدوه وقصة العجل والقوم الذين خرج بهم وأخذتهم الصعقة وقصة القتيل وذبح البقرة وقصته مع الخضر وقصته في قتال الجبارين وقصة القوم الذين ساروا في سرب من الأرض إلى الصين وقصة طالوت وداود مع جالوت وفتنته وقصة سليمان وخبره مع ملكة سبأ وفتنته وقصة القوم الذين خرجوا فرارًا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم وقصة ذي القرنين ومسيره إلى مغرب الشمس ومطلعها وبنائه السد وقصة أيوب وذي الكفل وإلياس وقصة مريم وولادتها عيسى وإرسالها ورفعه وقصة زكريا وابنه يحيى وقصة أصحاب الكهف وقصة أصحاب الرقيم وقصة بخت نصر وقصة الرجلين اللذين لأحدهما الجنة وقصة أصحاب الجنة وقصة مؤمن آل يس وقصة أصحاب الفيل وفيه من شأن النبي صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم به وبشارة عيسى وبثه وهجرته‏.‏

ومن غزواته سرية ابن الخضرمي في البقرة وغزوة بدر في سورة الأنفال وأحد في آل عمران وبدر الصغرى فيها والخندق في الأحزاب والحديبية في الفتح والنضير في الشحر وحنين وتبوك في براءة وحجة الوداع في المائدة ونكاحه زينب بنت جحش وتحريم سريته وتظاهر أزواجه عليه وقصة الإفك وقصة الإسراء وانشقاق القمر وسحر اليهود إياه وفيه بدء خلق الإنسان إلى موته وكيفية الموت وقبض الروح وما يفعل بها بعد وصعودها إلى السماء وفتح الباب للمؤمنة وإلقاء الكافرة وعذاب القبر والسؤال فيه ومقر الأرواح وأشراط الساعة الكبرى وهي نزول عيسى وخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة والدخان ورفع القرآن والخسف وطلوع الشمس من مغربها وغلق باب التوبة‏.‏

وأحوال البعث من النفخات الثلاث‏:‏ نفخة الفزع ونفخة الصعق ونفخة القيام والحشر والنشر وأهوال الموقف وشدة حر الشمس وظل العرش والميزان والحوض والصراط والحساب لقوم ونجاة آخرين منه وشهادة الأعضاء وإيتاء الكتب بالإيمان والشمائل وخلف الظهر والشفاعة والمقام المحمود والجنة وأبوابها وما فيها من الأنهار والأشجار والثمار والحلى والأواني والدرجات ورؤيته تعالى والنار وأبوابها وما فيها من الأودية وأواع العقاب وألوان العذاب والزقوم والحميم وفيه جميع أسمائه تعالى الحسنى كما ورد في حديث ومن أسمائه مطلقًا ألف اسم ومن أسماء النبي صلى الله عليه وسلم جملة وفيه شعب الإيمان البضع والسبعون وشرائع الإسلام الثلاثمائة وخمسة عشر وفيه أنواع الكبائر وكثير من الصغائر وفيه تصديق كل حديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك مما يحتاج شرحه إلى مجلدات‏.‏

وقد أفرد الناس كتبًا فيما تضمنه القرآن من الأحكام كالقاضي إسماعيل وأبي بكر بن العلاء وأبي بكر الرازي والكيالهراسي وأبي بكر ابن العربي وعبد المنعم بن الفرس وابن خويز منداد وأفرد آخرون كتبًا فيما تضمنه من علم الباطن وأفرد ابن برجان كتابًا فيما تضمنه من معاضدة الأحاديث وقد ألفت كتابًا سميته الإكليل في استنباط التنزيل ذكرت فيه كل ما استنبط منه من مسئلة فقهية أوأصلية أواعتقادية وبعضًا مما سوى ذلك كثير الفائدة جم العائدة

 فصل

قال الغزال وغيره‏:‏ آيات الأحكام خمسمائة آية‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ مائة وخمسون‏.‏

قيل ولعل مرادهم المصرح به فإن آيات القصص والأمثل وغيرها يستنبط منها كثير من الأحكام‏.‏

وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في كتاب الإمام في أدلة الأحكام‏:‏ معظم آي القرآن لا تخلوعن أحكام مشتملة على آداب حسنة وأخلاق جميلة ثم من الآيات ما صرح فيه بالأحكام ومنها ما يؤخذ بطريق الاستنباط إما بلا ضم إلى آية أخرى كاستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله ‏{‏وامرأته حمالة الحطب‏}‏ وصحة صوم الحنب من قوله ‏{‏فالآن باشروهن إلى قوله ‏{‏حتى يتبين لكم الخيط‏}‏ الآية‏.‏

وإما به كاستنباط أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله ‏{‏وحمله وفصاله في عامين قال‏:‏ ويستدل على الأحكام تارة بالصيغة وهوظاهر وتارة بالأخبار مثل أحل لكم حرمت عليكم الميتة كتب عليكم الصيام وتارة بما رتب عليها في العاجل أوالآجل من خير أوشر أونفع أوضر وقد نوع الشارع في ذلك أنواعًا كثيرة ترغيبًا وترهيبًا وتقريبًا إلى أفهامهم فكل فعل عظمه الشرع أومدحه فاعله لأجله أوأحبه أوأحب فاعله أورضي به أورضي عن فاعله أووصفه بالاستقامة أوالبركة أوالطيب أوأقسم به أوبفاعله كالأقسام بالشفع والوتر وبخيل المجاهدين وبالنفس اللوامة أونصبه سببًا لذكره لعبده أولمحبته أولثواب عاجل أوآجل أولشكره له أولهدايته إياه أولإرضاء فاعله أولمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته أولقبوله أولنصرة فاعله أوبشارته أووصف فاعله بالطيب أووصف الفعل بكونه أونفي الحزن والخوف عن فاعله أووعده بالأمن أونصب سببًا لولايته أوأخبر عن دعاء الرسول بحصوله أووصفه بكونه قربة أوبصفة مدح كالحياة والنور والشفاء فهودليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب وكل فعل طلب الشارع تركه أوذمه أوذم فاعله أوعتب عليه أومقت فاعله أولعنه أونفى محبته أومحبة فاعله أوالرضى به أوعن فاعله أوشبه فاعله بالبهائم أوبالشياطين أوجعله مانعًا من الهدى أومن القبول أووصفه بسوء أوكراهة أواستعاذ الأنبياء منه أوأبغضوه أوجعل سببًا لنفي الفلاح أولعذاب عاجل أوآجل أولذم أولوم أوضلالة أومعصية أووصف أوبخبث أورجس أونجس أوبكونه فسقًا أوإثمًا أوسببًا لإثم أورجس أوغضب أولعن أوغضب أوزوال نعمة أوحلول نقمة أوحد من الحدود أوقسوة أوخزي أوارتهان نفس أولعداوة الله ومحاربته أولاستهزائه أوسخريته أوجعله الله سببًا لنسيانه فاعله أووصفه نفسه بالصبر عليه أوبالحلم أوبالصفح عنه أودعا إلى التوبة منه أووصف فاعله بخبث أواحتقار أونسبه إلى عمل الشيطان أوتزيينه أوتولى الشيطان لفاعله أووصفه ذم ككونه ظلمًا أوبغيًا أوعدوانًا أوإثمًا أومرضًا أوتبرأ الأنبياء منه أومن فاعله أوشكوا إلى الله من فاعله أوجاهدوا فاعله بالعداوة أونهوا عن الأسى والحزن عليه أونصب سببًا لخيبة فاعله عاجلًا أوآجلًا أورتب عليه حرمان الجنة وما فيها أووصف فاعله بأنه عدوالله أوبأن الله عدوه أوأعلم فاعله بحرب من الله ورسوله أوحمل فاعله إثم غيره أوقيل فيه لا ينبغي هذا أولا تكون أوامره بالتقوى عند السؤال عنه أوأمر بفعل مضاده أوبهجر فاعله أوتلا عن فاعلوه في الآخرة أوتبرأ بعضهم من بعض أودعا بعضهم على بعض أووصف فاعله بالضلالة وأنه ليس من الله في شيء أوليس من الرسول وأصحابه أوجعل اجتنابه سببًا لفالح أوجعله سببًا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين أوقيل هل أنت منته أونهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله أورتب عليه إبعادًا أوطردًا أولفظة قتل من فعله أوقاتله الله أوأخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه ولا يصلح عمله ولا يهدي كيده أولا يفلح أوقيض له الشيطان أوجعل سببًا لإزاغة قلب فاعله أوصرفه عن آيات الله وسؤاله عن علة الفعل فهودليل على المنع من الفعل ودلالته على التحريم أظهر من دلالته على مجرد الكراهة وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة ومن الإذن فيه والعفوعنه ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع ومن السكوت عن التحريم ومن الإنكار على من حرم الشيء من الإخبار بأنه خلق أوجعل لنا والإخبار عن فعل من قبلنا غير ذام لهم عليه فإن اقترن بإخباره مدح دل على مشروعيته وجوبًا أواستحبابًا أه كلام الشيخ عز الدين وقال غيره‏:‏ قد يستنبط من السكوت وقد استدل جماعة على أن القرآن غير مخلوق بأن اله ذكر الإنسان في ثمانية عشر موضعًا وقال إنه مخلوق وذكر القرآن في أربعة وخمسين موضعًا ولم يقل أنه مخلوق ولما جمع بينهما غاير فقال الرحمن علم القرآن خلق الإنسان‏.‏

 النوع السادس والستون في أمثال القرآن

أفرده بالتصنيف الإمام الحسن الماوردي من كبار أصحابنا قال تعالى ولقد ضربنا لناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون وقال تعالى ‏{‏وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون‏}‏‏.‏

وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن القرآن نزل على خمسة أوجه‏:‏ حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فاعلموا بالحلال واجتنبوا الحرام واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال قال الماوردي‏:‏ من أعظم علم القرآن علم أمثاله والناس في غفلة عنه لاشتغالهم بالأمثال وإغفالهم الممثلات والمثل بلا ممثل كالفرس بلا لجام والناقة بلا زمام‏.‏

وقال غيره‏:‏ قد عده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن فقال‏:‏ ثم معرفة ما ضرب فيه من الأمثال الدوال على طاعته المبينة لاجتناب ناهيه‏.‏

وقال الشيخ عز الدين‏:‏ إنما ضرب الله الأمثال في القرآن تذكيرًا ووعظًا فما اشتمل منها على تفاوت ثواب أوعلى إحباط عمل أوعلى مدح أوذم أونحوه فإنه يدل على الأحكام‏.‏

وقال غيره‏:‏ ضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة‏:‏ التذكير والوعظ والحث والزجر والاعتبار والتقرير وتقريب المراد للعقل وتصويره بصورة المحسوس فإن الأمثال تصور المعاني بصورة الأشخاص لأنها أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس ومن ثم كان الغرض من المثل تشبيه الخفي والغائب بالمشاهد وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان بتفاوت الأجر وعلى المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أوتحقيره وعلى تحقيق أمر أوإبطاله قال تعالى وضربنا لكم الأمثال فامتن علينا بذلك لما تضمنه من الفوائد‏.‏

قال الزركشي في البرهان‏:‏ ون حكمته تعليم البيان وهون خصائص هذه الشريعة‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني وإدناء المتوهم من الشاهد فإن كان الممثل له عظيمًا كان الممثل به مثله وإن كان حقيرًا كان الممثل به كذلك‏.‏وقال الأصبهاني‏:‏ لضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء النظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خفيات الدقائق ورفع الأستار عن الحقائق تريك المتخيل في صورة المتحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كأنه مشاهد‏.‏

وفي ضرب الأمثال تنكيت للخصم الشديد الخصومة وقمع لضرورة الجامع الأبي فإنه يؤثر في القلوب ما لا يؤثر وصف الشيء في نفسه ولذلك أكثر الله تعالى في كتابه في سائر كتبه الأمثال ومن سور الإنجيل سور تسمى سورة الأمثال وفشت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء‏.‏

فصل أمثال القرآن قسمان‏:‏ ظاهر مصرح به وكامن لا ذكر للمثل فيه‏.‏

فمن أمثلة الأول قوله تعالى ‏{‏مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا‏}‏ الآيات ضرب فيها للمنافقين مثلين‏:‏ مثلا بالنار ومثلًا بالمطر‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه وتركهم في ظلمات يقول في عذاب أوكصيب هو المطر ضرب مثله في القرآن فيه ظلمات يقول ابتلاء ورعد وبرق تخويف يكاد البرق يخطف أبصارهم يقول‏:‏ يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين كلما أضاء لهم مشوا فيه يقول كلما أصاب المنافقون في الإسلام عزًا اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا فأبوا ليرجعوا إلى الكفر كقوله ‏{‏ومن الناس من يعبد الله على حرف‏}‏ الآية‏.‏

ومنها قوله تعالى ‏{‏أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها‏}‏ الآية‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم من طريق على عن ابن عباس قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها فأما الزبد فيذهب جفاء‏.‏

وهوالشك وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وهواليقين كما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار كذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك‏.‏

وأخرج عن عطاء قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر‏.‏

وأخرج عن قتادة قال‏:‏ هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد يقول‏:‏ كما اضمحل هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته كذلك يضمحل الباطل عن أهله وكما مكث هذا الماء في الأرض فأمرعت وربت بركته وأخرجت نباتها وكذلك الذهب والفضة حين أدخل النار فأذهب خبثه كذلك يبقى الحق لأهله وكما اضمحل خبث هذا الذهب والفضة حين أدخل في النار كذلك يضمحل الباطل عن أهله ومنها قوله تعالى ‏{‏والبلد الطيب‏}‏ الآية‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال‏:‏ هذا مثل ضربه الله للمؤمن يقول هوطيب وعمله طيب كما أن البلد الطيب ثمرها طيب‏.‏

والذي خبث ضرب مثلًا للكافر كالبلد السبخة المالحة والكافر هو الخبيث وعمله خبيث ومنها قوله تعالى ‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة‏}‏ الآية‏.‏

وأخرج البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ قال عمر بن الخطاب يومًا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيمن ترون هذه الآية نزلت أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب قالوا‏:‏ الله أعلم فغضب عمر فقال‏:‏ قولوا نعلم أولا نعلم فقال ابن عباس‏:‏ في نفسي منها شيء فقال‏:‏ يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك قال ابن عباس‏:‏ ضربت مثلًا لعمل قال عمر‏:‏ أي عمل قال ابن عباس‏:‏ لرجل غني عمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله‏.‏

وأما الكامنة فقال الماوردي‏:‏ سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سألت الحسن بن الفصل فقلت‏:‏ إنك تخرج أمثال العرب والعجم من القرآن فهل تجد في كتاب الله‏:‏ خير الأمور أوساطها قال‏:‏ نعم في أرعة مواضع قوله تعالى لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك وقوله تعالى ‏{‏والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا‏}‏ وكان بين ذلك قوامًا وقوله تعالى ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلًا‏}‏ قلت‏:‏ فهل تجد في كتاب الله من جهل شيئًا عاداه قال‏:‏ نعم في موضعين ‏{‏بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه‏}‏ و ‏{‏وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم‏}‏ قلت‏:‏ فهل تجدفي كتاب الله‏:‏ احذر شر نم أحسنت إليه قال‏:‏ نعم ‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله‏}‏ قلت‏:‏ فهل تجد في كتاب الله‏:‏ ليس الخبر كالعيان قال في قوله تعالى أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قلت فهل تجد‏:‏ في الحركات البركات قال‏:‏ في قوله تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كبيرًا وسعة قلت‏:‏ فهل تجد‏:‏ كما تدين تدان قال فيقوله تعالى من يعمل سوءًا يجز به قلت‏:‏ فهل تجد فيه قولهم‏:‏ حين تقلي تدري قال وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلًا قلت‏:‏ فهل تجد فيه‏:‏ لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين قال هل آمنكم عليه إلا كما آمنتكم على أخيه من قبل قلت‏:‏ فهل تجد فيه‏:‏ من أعان ظالمًا سلط عليه قال كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير قلت‏:‏ فهل تجد فيه قولهم‏:‏ لا تلد الحية إلا حيية قال‏:‏ قال تعالى ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا قلت‏:‏ فهل تجد فيه‏:‏ للحيطان آذان قال‏:‏ وفيكم سماعون لهم قلت‏:‏ فهل تجد فيه‏:‏ الجاهل مروزق والعالم محروم قال ‏{‏من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدًا‏}‏ قلت‏:‏ فهل تجد فيه‏:‏ الحلال لا يأتيك إلا قوتًا والحرام لا يأتيك إلا جزافًا قال ‏{‏إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم‏}‏‏.‏

فائدة عقد عفربن شمس الخلافة في كتاب الآداب بابًا في ألفاظ من القرآن جارية مجرى المثل وهذا هو النوع البديعي المسمى بإرسال المثل وأورد من ذلك قوله تعالى ‏{‏ليس لها من دون الله كاشفة‏}‏ ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏}‏ الآن حصحص الحق وضرب لنا مثلًا ونسي خلقه ذلك بما قدمت يداك قضى الأمر الذي فيه تستفتيان ‏{‏أليس الصبح بقريب‏}‏ وحيل بينهم وبين ما يشتهون لكل نبأ مستقر ‏{‏ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله‏}‏ قل كل يعمل على شاكلته ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم‏}‏ ‏{‏كل نفس بما كسبت رهينة‏}‏ ‏{‏ما على الرسول إلا البلاغ‏}‏ ‏{‏ما على المحسنين من سبيل‏}‏ ‏{‏هل جزاء الإحسان إلا الإحسان‏}‏ ‏{‏كم من فئة قليلة غلب فئة كثيرة‏}‏ ‏{‏الآن وقد عصيت قبل‏}‏ ‏{‏تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى‏}‏ ‏{‏ولا ينبئك مثل خبير‏}‏ ‏{‏كل حزب بما لديهم فرحون‏}‏ ‏{‏ولوعلم الله فيهم خيرًا لأسمعهم‏}‏ ‏{‏وقليل من عبادي الشكور‏}‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها‏}‏ ‏{‏لا يستوي الخبيث والطيب‏}‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر‏}‏ ‏{‏ضعف الطالب والمطلوب‏}‏ ‏{‏لمثل هذا فليعمل العاملون‏}‏ ‏{‏وقليل ما هم‏}‏ ‏{‏فاعتبروا يا أولي الأبصار‏}‏ في ألفاظ أخر‏.‏

 النوع السابع والستون في أقسام القرآن

أفرده ابن القيم بالتصنيف في مجلد سماه التبيان والقصد بالقسم تحقيق الخير وتوكيده حتى جعلوا مثل ‏{‏والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ قسمًا وإن كان فيه إخبار بشهادة لأنه لما جاء توكيدًا للخبر سمى قسمًا‏.‏

وقد قيل ما معنى القسم منه تعالى فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن مصدق بمجرد الإخبار من غير قسم وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده‏.‏

وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب ون عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرًا‏.‏

وأجاب أبو القاسم القشيري بان الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين‏:‏ إما بالشهادة وإما بالقسم فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجة فقال ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم‏}‏ وقال ‏{‏قل إي وربي إنه لحق‏}‏ وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله ‏{‏وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق‏}‏ صرخ وقال‏:‏ من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين ولا يكون القسم إلا باسم معظم وقد أقسم الله تعالى بنفسه في القرآن في سبعة مواضع‏:‏ الآية المذكورة بقوله ‏{‏قل أي وربي قل بلى وربي لتبعثن فوربك لنحشرهم والشياطين فوربك لنسئلنهم أجمعين فال وربك لا يؤمنون فال أقسم برب المشارق والمغارب والباقي كله قسم بمخلوقاته كقوله تعالى ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ والصافات والشمس ‏{‏والليل والضحى‏}‏ ‏{‏فلا أقسم بالخنس‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله قلنا‏:‏ أجيب عنه بأوجه‏.‏

أحدها‏:‏ إنه على حذف مضاف‏:‏ أي ورب التين ورب الشمس وكذا الباقي‏.‏

الثاني‏:‏ أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفونه الثالث‏:‏ أن الأقسام إنما تكون بما يعظمه بما يعظمه المقسم أويجله وهوفوقه والله تعالى ليس شيء فوقه فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته لأنها تدل على بارئ وصانع‏.‏

وقال ابن أبي الإصبع في أسرار الفواتح‏:‏ القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال‏:‏ إن الله يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله‏.‏

وقال العلماء‏:‏ أقسم الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم في قوله لعمرك لتعرف الناس عظمته عند الله ومكانته لديه‏.‏

أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ ما خلق الله وما ذرأ ولا برأ نفسًا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره قال لعمرك إنهم في سكرتهم يعمهون وقال أبو القاسم القشيري‏:‏ القسم بالشيء لا يخرج عن وجهين‏:‏ إما لفضيلة أولمنفعة‏.‏

فالفضيلة كقوله ‏{‏وطور سينين وهذا البلد الأمين‏}‏ والمنفعة نحو ‏{‏والتين والزيتون‏}‏ وقال غيره‏:‏ أقسم الله تعالى بثلاثة أشياء‏:‏ بذاته كالآيات السابقة وبفعله نحو ‏{‏والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها‏}‏ وبمفعوله نحو ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏{‏والطور وكتاب مسطور‏}‏ والقسم إما ظاهر كالآيات السابقة وإما مضمر وهوقسمان دلت عليه اللام نحو لتبلون في أموالكم وقسم دل عليه المعنى نحو ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ وتقديره‏:‏ والله‏.‏

وقال أبوعلي الفارسي‏:‏ الألفاظ الجارية مجرى القسم ضربان أحدهما‏:‏ وما تكون كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم فلا تجاب بجوابه كقوله ‏{‏وقد أتخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ورفعنا فوقكم الطور خذوا فيحلفون له كما يحلفون لكم فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسمًا وأن يكون حالًا لخلوه من الجواب‏.‏

والثاني‏:‏ ما يتلقى بجواب القسم كقوله ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس‏}‏{‏وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن‏}‏ وقال غيره‏:‏ أكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو فإذا ذكرت الباء أتى بالفعل كقوله ‏{‏يحلفون بالله ولا تجد الباء مع حذف الفعل ومن ثم كان خطأ من جعل قسما بالله إن الشرك لظلم بما عهد عندك بحق ‏{‏إن كنت قلته فقد علمته‏}‏ وقال ابن القيم‏:‏ اعلم أن الله سبحانه وتعالى يقسم بأمور على أمور وإنما يقسم بنفسه المقدسة الموصوفة بصفاته أوبآياته المستلزمة لذاته وصفاته وأقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته فالقسم إما على جملة خبرية وهوالغالب كقوله ‏{‏فورب السماء والأرض إنه لحق وإما على جملة طلبية كقوله ‏{‏فوربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعلمون مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر وقد يراد به تحقيق القسم فالمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه فلا بد أن يكون مما يحسن فيه وذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها فأما الأمور المشهورة الظاهرة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها وما أقسم عليه الرب فهومن آياته فيجوز أن يكون مقسمًا به ولا ينعكس وهوسبحانه وتعالى بذكر جواب القسم تارة وهوالغالب ويحذفه أخرى كما يحذف جواب لوكثير للعلم به‏.‏

والقسم لما كان يكثر في الكلام اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفي بالباء ثم عوض من الباء الواوفي الأسماء الظاهرة والتاء في أسم الله تعالى كقوله ‏{‏وتالله لأكيدن أصنامكم‏}‏ قال‏:‏ ثم هوسبحانه وتعالى يقسم على أصول الإيمان التي تجب على الخلق معرفتها وتارة يقسم على التوحيد وتارة يقسم على أن القرآن حق وتارة على أ الرسول حق وتارة على الجزاء والوعد والوعيد وتارة يقسم على حال الإنسان فالأولى كقوله ‏{‏والصافات صفا‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن إلهكم لواحد‏}‏ والثاني كوله ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم‏}‏ والثالث‏:‏ كقوله ‏{‏يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين‏}‏ ‏{‏والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى‏}‏ الآيات‏.‏

والرابع‏:‏ كقوله والذاريات إلى قوله ‏{‏إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع‏}‏ والمرسلات إلى قوله ‏{‏إنما توعدون لواقع والخامس‏:‏ كقوله ‏{‏والليل إذا يغشى‏}‏ إلى قوله ‏{‏إن سعيكم لشتى‏}‏ الآيات‏.‏

والعاديات إلى قوله ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود‏}‏{‏والعصر إن الإنسان لفي خسر‏}‏ إلخ‏.‏

والتين إلى قوله ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم‏}‏ الآيات ‏{‏لا أقسم بهذا البلد‏}‏ إلى قوله ‏{‏لقد خلقنا الإنسان في كبد‏}‏ قال‏:‏ وأكثر ما يحذف الجواب إذا كان في نفس المقسم به دلالة على المقسم عليه فإن المقصود يحصل بذكره فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز كقوله ‏{‏ص والقرآن ذي الذكر‏}‏ فإن في المقسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذوالذكر المتضمن لتذكير العباد وما يحتاجون إليه والشرف والقدر ما يدل على المقسم عليه وهوكونه حقًا من عند الله غير مفتري كما يقوله الكافرون ولهذا قال كثيرون‏:‏ إن تقدير الجواب‏:‏ إن القرآن لحق وهذا يطرد في كل ما شابه ذلك كقوله ‏{‏ق والقرآن المجيد وقوله ‏{‏لا أقسم بيوم القيامة‏}‏ فإنه يتضمن إثبات المعاد‏.‏

وقوله والفجر الآيات فإنها أزمان تتضمن أفعالًا معظمة من المناسك وشعائر الحج التي هي عبودية محضة الله تعالى وذل وخضوع لعظمته وفي ذلك تعظيم ما جاء به محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام‏.‏

قال‏:‏ ومن لطائف القسم قوله ‏{‏والضحى والليل إذا سجى‏}‏ الآيات أقسم تعالى على أنعامه على رسوله وإكرامه له وذلك متضمن لتصديقه له فهوقسم على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة فهوقسم على النبوة والمعاد وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته وتأمل مطابقة هذا القسم وهونور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل المقسم عليه وهونور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه حتى قال أعداؤه‏:‏ ودع محمد ربه فأقسم بضوء النهار بعد الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه‏.‏

 النوع الثامن والستون في جدل القرآن

أفرده بالتصنيف نجم الدين الطوفي‏.‏

قال العلماء‏:‏ قد اشتمل القرآن العظيم على جميع أنواع البراهين والأدلة وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحذير تبنى من كليات المعلومات العقلية والسمعية وإلا وكتاب الله قد نطق به لكن أورده على عادات العرب دون دقائق طرق المتكلمين لأمرين‏.‏

أحدها‏:‏ بسبب ما قاله ‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم‏}‏‏.‏

والثاني‏:‏ أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزًا فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجلى صورة ليفهم العامة من جليهم ما يقنعهم وتلزمهم الحجة وتفهم الخواص من أنبائها ما يربى على ما أدركه فهم الخطباء‏.‏

وقال ابن أبي الأصبع‏:‏ زعم الجاحظ أن المذهب الكلامي لا يوجد منه شيء في القرآن وهومشحون به وتعريفه أنه احتجاج المتكلم على ما يريد إثباته بحجة تقطع المعاند له فيه على طريقة أرباب الكلام‏.‏

ومنه نوع منطقي تستنتج منه النتائج الصحيحة من المقدمات الصادقة فإن الإسلاميين من أهل هذا العلم ذكروا أن من أول سورة الحج إلى قوله ‏{‏وإن الله يبعث من في القبور خمس نتائج تستنتج من عشر مقدمات قوله ‏{‏ذلك بأن الله هو الحق لأنه قد ثبت عندنا بالخبر المتواتر أنه تعالى أخبر بزلزلة الساعة معظمًا لها وذلك مقطوع بصحته لأنه خبر أخبر به من ثبت صدقه عمن تثبت قدرته منقول إلينا بالتواتر فهوحق ولا يخبر بالحق عما سيكون إلا الحق فالله هو الحق‏.‏

وأخبر تعالى أنه يحيي الموتى لأنه أخبر عن أهوال الساعة بما أخبر وحصول فائدة هذا الخبر موقوفة على إحياء الموتى ليشاهدوا تلك الأحوال التي يقبلها لله من أجلهم وقد ثبت أنه قادر على كل شيء قدير لأنه أخبر أنه من يتبع الشياطين ومن يجادل فيه بغير علم يذقه عذاب السعير وال يقدر على ذلك إلا من هوعلى كل شيء قدير فهوعلى كل شيء قدير‏.‏

وأخبر أن الساعة آتية لا ريب فيها لأنه أخبر بالخبر الصادق أنه خلق الإنسان من تراب إلى قوله ‏{‏لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا وضرب لذلك مثلًا بالأرض الهامدة التي ينزل عليها الماء فتهتز وتربووتنبت من كل زوج بهيج ومن خلق الإنسان على ما خبر به فأوجده بالخلق ثم أعدمه بالموت ثم يعيده بالبعث وأوجد الأرض بعد العدم فأحياها بالخلق ثم أماتها بالمحل ثم أحياها بالخصب وصدق خبره في ذلك كله بدلالة الواقع المشاهد على المتوقع الغائب حتى انقلب الخبر عيانًا صدق خبره في الإتيان بالساعة ولا يأتي بالساعة إلا من يبعث من في القبور لأنها عبارة عن مدة تقوم فيها الأموات للمجازاة فهي آتية لا ريب فيها وهوسبحانه وتعالى يبعث من في القبور‏.‏

وقال غيره‏:‏ استدل سبحانه وتعالى على المعاد الجسماني بضروب‏.‏

أحدها‏:‏ قياس الإعادة على الابتداء كما قال تعالى كما بدأكم تعودون كما بدأنا أول خلق نعيده أفعيينا بالخلق الأول‏.‏ثانيها‏:‏ قياس الإعادة على خلق السموات والأرض بطريق الأولى قال تعالى ‏{‏أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر‏}‏ الآية‏.‏

ثالثها‏:‏ قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات‏.‏

رابعها‏:‏ قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر‏.‏

وقد روى الحاكم وغيره أن أبي ابن خلف جاء بعظم ففته فقال‏:‏ أيحيي الله هذا بعد ما بلى ورم فأنزل الله قل يحييها الذي أنشأها أول مرة فاستدل سبحانه وتعالى برد النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما بعلة الحدوث‏.‏

ثم زاد في الحجاج بقوله ‏{‏الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا‏}‏ وهذه في غاية البيان في رد الشيء إلى نظيره والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليهما‏.‏

خامسها‏:‏ في قوله تعالى وأقسموا بالله جهد إيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى الآيتين‏.‏

وتقريرها أ اختلاف المختلفين في الحق لا يوجب انقلاب الحق في نفسه وإنما تختلف الطرق الموصلة إليه والحق في نفسه واحد فلما ثبت أن هاهنا حقيقة موجودة لا محالة وكان لا سبيل لنا في حياتنا إلى الوقوف عليها وقوفًا يوجب الائتلاف ويرفع عنا الاختلاف إذ كان الاختلاف مركوزًا في فطرنا وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا بارتفاع هذه الحيلة ونقلها إلى صورة غيرها صح ضرورة أن لنا حياة أخرى غير هذه الحياة فيها يرتفع الخلاف والعناد وهذه هي الحالة التي وعد الله بالمصير إليها فقال ونزعنا ما في صدورهم من غل حقد فقد صار الخلاف الوجود كما ترى أوضح دليل على كون البعث الذي ينكره المنكرون كذا قرره ابن السيد‏.‏

ومن ذلك الاستدلال على أن صانع العالم واحد بدلالة التمانع المسار إليها في قوله ‏{‏وكان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا لأنه لوكان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على أحكام ولكان العجز يلحقهما أوأحدهما وذلك لأنه لوأراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته فإما أن تنفذ إرادتهما فيتناقض لا ستحالة تجزي الفعل ن فرض الاتفاق أولامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف‏.‏

وأما أن لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما أولا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه والإله ال يكون عاجزًا‏.‏

فصل من الأنواع المصطلح عليها في علم الجدل‏:‏ السبر والتقسيم‏.‏

ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى ثمانية أزواج من الضأن الآيتين فإن الكفار لما حرموا ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى رد تعالى ذلك عليهم بطريق السبر والتقسيم فقال إن الخلق لله تعالى خلق من كل زوج مما ذكر ذكرًا وأنثى فمم جاء تحريم ما ذكرتم‏:‏ أي ما علته لا يخلوإما أن يكون من جهة الذكورة أوالأنوثة أواشتمال الرحم الشامل لهما أولا يدري له علة وهوالتعبدي بأن أخذ ذلك عن الله تعالى والأخذ عن الله تعالى إما بوحي وإرسال رسول أوسماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه وهومعنى قوله ‏{‏أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا‏}‏ فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن واحد منها‏.‏

والأول يلزم عليه أن يكون جميع الذكور حرامًا‏.‏

والثاني يلزم عليه أن تكون جميع الإناث حرامًا‏.‏

والثالث يلزم عليه تحريم الصنفين معًا فبطل ما فعلوه من تحريم بعض في حالة وبعض في حالة لأن العلة على ما ذكر تقتضي إطلاق التحريم والأخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدعوه وبواسطة رسول كذلك لأنه لم يأت إليهم رسول قبل النبي صلى الله عليه وسلم وإذا بطل جميع ذلك ثبت المدعي وهوأن ما قالوه افتراء على الله وضلال‏.‏

ومنها‏:‏ القول بالموجب‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ وحقيقته رد كلام الخصم من فحوى كلامه‏.‏وقال غيره‏:‏ هوقسمان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن تقع صفة في كلام الغير كناية عن شيء أثبت له حكم فثبتها لغير ذلك الشيء كقوله تعالى ‏{‏يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة‏}‏ الآية فالأعز وقعت في كلام المنافقين كناية عن فريقهم والأذل عن فريق المؤمنين وأثبت المنافقون لفريقهم إخراج المؤمنين من المدينة فأثبت الله في الرد عليهم صفة العزة لغير فريقهم وهوالله ورسوله والمؤمنون فكأنه قبل صحيح ذلك ليخرجن الأعز منها الأذل لكن هم الأذل المخرج والله ورسوله الأعز المخرج‏.‏

والثاني‏:‏ حمل لفظ وقع من كلام الغير على خلاف مراده مما يحتمله بذكر متعلقه ولم أر من أورد له مثالًا من القرآن وقد ظفرت بآية منه وهي قوله تعالى ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هوأذن قل أذن خير لكم‏.‏

ومنها‏:‏ التسليم وهوأن يفرض المحال إما منفيًا أومشروطًا بحرف الامتناع ليكون المذكور ممتنع الوقوع لامتناع وقوع شرطه ثم يسلم وقوع ذلك تسليمًا جدليًا ويدل على عدم فائدة ذلك على تقدير وقوعه كقوله تعالى ‏{‏ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض‏}‏ المعنى‏:‏ ليس مع الله من إله ولوسلم أن معه سبحانه وتعالى إلهًا لزم من ذلك التسليم ذهاب كا إله من الاثنين بما خلق وعلوبعضهم على بعض فلا يتم في العالم أمر ولا ينفذ حكم ولا ينتظم أحواله والواقع خلاف ذلك ففرض إلهين فصاعدًا محال لما يلزم منه المحال‏.‏

ومنها‏:‏ الإسجال وهوالإتيان بألفاظ تسجل على المخاطب وقوع ما خوطب به نحو ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم فإن في ذلك إسجالًا بالإيتاء والإدخال حيث وصفا بالوعد من الله الذي لا يخلف وعده‏.‏

ومنها‏:‏ الانتقال وهوأن ينتقل المستدل إلى استدلال غير ذلك كان آخذًا فيه لكون الخصم لم يفهم وجه الدلالة من الأول كما جاء في مناظرة الخليل الجبار لما قال له ربي الذي يحيي ويميت فقال الجبار أنا أحيي وأميت ثم دعا بموجب عليه القتل فأعتقه ومن لا يجب عليه فقتله فعلم الخليل أنه لم يفهم معنى الإحياء والإماتة أوعلم ذلك وغالط بهذا الفعل فانتقل عليه السلام إلى استدلال لا يجد الجبار له وجهًا يتخلص به منه فقال إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فانقطع الجبار وبهت ولم يمكنه أن يقول أنا الآتي بها من المشرق لأن من هوأسن منه يكذبه‏.‏

ومنها‏:‏ المناقضة وهي تعليق أمر على مستحيل إشارة إلى استحالة وقوعه كقوله تعالى ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ومنها‏:‏ مجاراة الخصم ليعثر بان يسلم بعض مقدماته حيث يراد تبكيته وإلزامه كقوله تعالى ‏{‏قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم‏}‏ الآية فقولهم إن نحن إلا بشر مثلكم فيه اعتراف الرسل بكونهم مقصورين على البشرية فكأنهم سلموا انتفاء الرسالة عنهم وليس مرادًا بل هومن مجاراة الخصم ليعثر فكأنهم قالوا‏:‏ ما ادعيتم من كوننا بشرًا حق لا ننكره ولكن هذا لا ينافي أن يمن الله تعالى علينا بالرسالة‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية   الفهرس   التالي