mozilla/4.5 (compatible; httrack 3.0x; windows 98) المكتبة الإسلامية - الإتقان في علوم القرآن - الإتقان في علوم القرآن
 
  الإتقان في علوم القرآن  
   الإتقان في علوم القرآن   
   ( 21 من 30 )  
  السابق   الآيات القرآنية   الفهرس   التالي  
  
 

 النوع الثالث والخمسون في تشبيهه واستعاراته

التشبيه نوع من اشرف أنواع البلاغة وأعلاها‏.‏

قال المبرد في الكامل‏:‏ لوقال قائل هوأكثر كلام العرب لم يبعد‏.‏

وقد أفرد تشبيهات القرآن بالتصنيف أبو القاسم بن البندار البغدادي في كتاب سماه الجمان وعرفه جماعة منهم السكاكي بأنه الدلالة على مشاركة أوامر لأمر في معنى‏.‏

وقال ابن أبي الأصبع‏:‏ هوإخراج الأغمض إلى الأظهر‏.‏

وقال غيره‏:‏ هوإلحاق شيء بذي وصف في وصفه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هوأن تثبت للمشبعه حكمًا من أحكام المشبه به والغرض منه تأنيس النفس بإخراجها من خفي إلى جلي وإدنائه البعيد من القريب ليفيد بيانًا‏.‏

وقيل‏:‏ الكشف عن المعنى المقصود مع الاختصار وأدواته حروف وأسماء وأفعال فالحروف‏:‏ الكاف نحو كرماد وكأن نحو كأنه رؤوس الشياطين والأسماء مثل وشبه ونحوهما مما يشتق من المماثلة والمشابهة قاله الطيبي‏.‏

ولا تستعمل مثل إلا في حال أوصفة لها شأن وفيها غرابة نحو مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر‏.‏

والأفعال نحو‏.‏

يحسبه الظمآن ماء يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى قال في التخليص تبعًا للسكاكي‏:‏ وربما يذكر فعل ينبئ عن التشبيه فيؤتى في التشبيه القريب بنحو‏:‏ علمت زيدًا أسدًا الدال على التحقيق‏.‏

وفي البعيد بنحو‏:‏ حسبت زيدًا أسدًا الدال على الظن وعدم التحقيق وخالف جماعة منهم الطيبي فقالوا‏:‏ في كون هذه الأفعال تنبئ عن التشبيه نوع خفاء والأظهر أن الفعل ينبئ عن حال التشبيه في القرب والبعد وأن الأداة محذوفة مقدرة لعدم استقامة المعنى بدونه‏.‏

ذكر أقسامه ينقسم التشبيه باعتبارات‏:‏ الأول باعتبار طرفيه إلى أربعة أقسام لأنهما إما حسيان أوعقليان أوالمشبه به حسي والمشبه عقلي أوعكسه‏.‏

مثال الأول والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم‏.‏

كأنهم أعجاز نخل منقعر ومثال الثاني ‏{‏ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة‏}‏ كذا مثل في البرهان وكأنه ظن أن التشبيه واقع في القسوة وهوغير ظاهر بل هوواقع بين القلوب والحجارة فهومن الأول‏.‏

ومثال الثالث مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح ومثال الرابع‏:‏ لم يقع في القرآن بل منعه الإمام أصلًا لأن العقل مستفاد من الحس فالمحسوس أصل للمعقول وبشبيهه به يستلزم جعل الأصل فرعًا والفرع أصلًا وهوغير جائز وقد اختلف في قوله تعالى هن لباس لكم وأنتم لباس لهن الثاني‏:‏ ينقسم باعتبار وجهه إلى مفرد ومركب والمركب أن ينتزع وجه الشبه من أمور مجموع بعضها إلى بعض كقوله ‏{‏كمثل الحمار يحمل أسفارًا‏}‏ فالتشبيه مركب من أحوال الحمار وهوحرمان الانتفاع بأبلغ نافع مع تحمل التعب في استصحابه وقوله ‏{‏إنما مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء إلى قوله ‏{‏كأن لم تغن بالأمس‏}‏ فإن فيه عشر جمل وقع التركيب من مجموعها بحيث لوسقط منها شيء اختل التشبيه إذ التشبيه حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها واغترار الناس بها بحال ماء نزل من السماء وأنبت أنواع العشب وزين بزخرفها وجه الأرض كالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة حتى إذا طمع أهلها فيها وظنوا أنها مسلمة من الجوائح أتاها بأس الله فجأة فكأنها لم تكن بالأمس‏.‏وقال بعضهم‏:‏ وجه تشبيه الدنيا بالماء أمران‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الماء إذا أخذت منه فوق حاجتك تضررت وإن أخذت قدر الحاجة انتفعت به فكذلك الدنيا‏.‏

والثاني‏:‏ أن الماء إذا طبقت عليه كفك لتحفظه لم يحصل فيه شيء فكذلك الدنيا‏.‏

وقوله ‏{‏مثل نوره كمشكاة فيها مصباح‏}‏ الآية فشبه نوره الذي يلقيه في قلب المؤمن بمصباح اجتمعت فيه أسباب الإضاءة إما بوضعه في مشكاة وهي الطاقة التي لا تنفذ وكونها لا تنفذ لتكون أجمع للبصر‏.‏

وقد جعل فيها مصباح في داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في صفائها ودهن المصباح من أصفى الأذهان وأقواها وقودًا لأنه من زيت شجرة في وسط السراج لا شرقية ولا غربية ولا تصيبها الشمس في أحد طرفي النهار بل تصيبها الشمس أعدل إصابة‏.‏

وهذا مثل ضربه للمؤمن‏.‏

ثم ضرب للكافر مثلين‏:‏ أحدهما كسراب بقيعة والآخر كظلمات في بحر لجي الخ‏.‏

وهوأيضًا تشبيه تركيب‏.‏

الثالث ينقسم باعتبار آخر إلى أقسام‏.‏

أحدها‏:‏ تشبيه ما تقع عليه الحاسة بما لا تقع اعتمادًا على معرفة النقيض والضد فإن إدراكهما أبلغ من إدراك الحاسة كقوله ‏{‏طلعها كأنه رؤوس الشياطين‏}‏ شبه بما لا يشك أنه منكر قبيح لما حصل في نفوس الناس من بشاعة صور الشياطين وإن لم ترها عيانًا‏.‏الثاني‏:‏ عكسه وهوتشبيه ما لا تقع عليه الحاسة بما تقع عليه كقوله ‏{‏والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة‏}‏ الآية‏.‏

أخرج ما لا يجس وهوالإيمان إلى ما يحس وهوالسراب والمعنى الجامع بطلان التوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة‏.‏

الثالث‏:‏ إخراج ما لم تجر العادة به إلى ما جرت كقوله تعالى ‏{‏وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظله‏}‏ والجامع بينهما الارتفاع في الصورة‏.‏

الرابع‏:‏ إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها كقوله ‏{‏وجنة عرضها كعرض السماء والأرض‏}‏ والجامع العظم وفائدته التشويق إلى الجنة بحسن الصفة وإفراط السعة‏.‏

الخامس‏:‏ إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ماله قوة فيها كقوله تعالى ‏{‏وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام‏}‏ والجامع فيهما العظم والفائدة إبانة القدرة على تسخير الأجسام العظام في ألطف ما يكون من الماء وما في ذلك من انتفاع الخلق بحمل الأثقال وقطعها الأقطار البعيدة في المسافة القريبة وما يلازم ذلك من تسخير الرياح للإنسان فتضمن الكلام بناء عظيمًا من الفخر وتعداد النعم على هذه الأوجه الخمسة تجري تشبيهات القرآن‏.‏

السادس‏:‏ ينقسم باعتبار آخر إلى مؤكد وهوما حذفت فيه الأداة نحو ‏{‏وهي تمر مر السحاب‏}‏ أي مثل مر السحاب ‏{‏وأزواجه أمهاتهم‏}‏‏.‏

وجنة عرضها السموات والأرض ومرسل وهوما لم تحذف كالآيات السابقة والمحذوفة الأداة أبلغ لأنه نزل فيه الثاني منزلة الأول تجوزا‏.‏

قاعدة الأصل دخول أداة التشبيه على المشبه به وقد تدخل على المشبه إما لقصد المبالغة فتقلب التشبيه وتجعل المشبه هو الأصل نحو ‏{‏قالوا إنما البيع مثل الربا‏}‏ كأن الأصل أن يقولوا‏:‏ إنما الربا مثل البيع لأن الكلام في الربا لا في البيع فعدلوا عن ذلك وجعلوا الربا أصلًا ملحقًا به البيع في الجواز وأنه الخليق بالحل ومنه قوله تعالى أفمن لا يخلق فإن الظاهر العكس لأن الخطاب لعبدة الأوثان الذين سموها آلهة تشبيهًا بالله سبحانه وتعالى فجعلوا غير الخالق مثل الخالق فخولف في خطابهم لأنهم بالغوا في عبادتهم وغلوحتى صارت عندهم أصلًا في العبادة فجاء الرد على وفق ذلك‏.‏

وإما لوضوح الحال نحو وليس الذكر كالأنثى فإن الأصل وليس الأنثى كالذكر وإنما عدل عن الأصل لأن المعنى‏:‏ وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت‏.‏وقيل لمراعاة الفواصل لأن قبله إني وضعتها أنثى‏.‏

وقد تدخل على غيرهما اعتمادًا على فهم المخاطب نحو ‏{‏كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم‏}‏ الآية المراد كونوا أنصار الله خالصين في الانقياد كشأن مخاطبي عيسى إذ قالوا‏.‏

قاعدة القاعدة في المدح تشبيه الأدنى بالأعلى وفي الذم تشبيه الأعلى بالأدنى لأن الذم مقام الأدنى والأعلى طارئ عليه فيقال في المدح الحصى كالياقوت وفي الذم ياقوت كالزجاج وكذا في السلب ومنه يا نساء النبي لستن كأحد من النساء أي في النزول لا في العلو أم نجعل المتقين كالفجار أي في سوء الحال‏:‏ أي لا نجعلهم كذلك‏.‏

نعم أورد على ذلك مثل نوره كمشكاة فإنه شبه في الأعلى بالأدنى لا في مقام السلب‏.‏

وأجيب بأنه للتقريب إلى أذهان المخاطبين إذ لا أعلى من نوره فيشبه به‏.‏

فائدة قال ابن أبي الأصبع‏:‏ لم يقع في القرآن تشبيه شيئين بشيئين ولا أكثر من ذلك إنما وقع فيه تشبيه واحد بواحد‏.‏فصل زوج المجاز بالتشبيه فتولد بينهما الاستعارة فهي مجاز علاقته المشابهة أويقال في تعريفها‏:‏ اللفظ المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي والأصح أنها مجاز لغوي لأنها موضوعة للمشبه به لا للمشبه ولا الأعم منهما فأسد في قولك‏:‏ رأيت أسدا يرمي موضوع للسبع لا للشجاع‏.‏

ولا لمعنى أعم منهما كالحيوان الجريء مثلًا ليكون إطلاقه عليهما حقيقة كإطلاق الحيوان عليهما‏.‏

وقيل مجاز عقلي بمعنى أن التصرف فيها في أمر عقلي لا لغوي لأنها لا تطلق على المشبه إلا بعد إدعاء دخوله في جنس المشبه به فكان استعمالها فيما وضعت له فيكون حقيقة لغوية ليس فيها غير نقل الاسم وحده وليس نقل الاسم المجرد استعارة لأنه لا بلاغة فيه بدليل الأعلام المنقولة فلم يبق إلا أن يكون مجازًا عقليًا‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ حقيقة الاستعارة أن تستعار الكلمة من شيء معروف بها إلى شيء لم يعرف بها وحكمة ذلك إظهار الخفي وإيضاح الظاهر الذي ليس بجلي أوحصول المبالغة أوالمجموع‏.‏

مثال إظهار الخفي ‏{‏وإنه في أم الكتاب‏}‏ فإن حقيقته‏:‏ وأنه في أصل الكتاب فاستعير لفظ الأم للأصل لأن الأولاد تنشأ من الأم كإنشاء الفروع من الأصول وحكمة ذلك تمثيل ما ليس بمرئي حتى يصير مرئيًا فينتقل السامع من حد السماع إلى حد العيان وذلك أبلغ في البيان‏.‏

ومثال إيضاح ما ليس بجلي ليصير جليًا ‏{‏واخفض لهما جناح الذل‏}‏ فإن المراد أمر الولد بالذل لوالديه رحمة فاستعير للذل أولًا جانب ثم للجانب جناحًا وتقديره الاستعارة القريبة‏:‏ واخفض لهما جانب الذل‏:‏ أي اخفض جانبك ذلًا وحكمة الاستعارة في هذا جعل ما ليس بمرئي مرئيًا لأجل حسن البيان ولما كان المراد خفض جانب الولد للوالدين بحيث لا يبقي الولد من الذل لهما والاستكانة ممكنًا احتيج في الاستعارة إلى ما هوأبلغ من الأولى فاستعير لفظ الجناح لما فيه من المعاني التي لا تحصل من خفض الجانب لأن من يميل جانبه إلى جهة السفل أدنى ميل الصدق عليه أنه خفض جانبه والمراد خفض بلصق الجند بالأرض ولا يحصل ذلك إلا بذكر الجناح كالطائر‏.‏

ومثال المبالغة ‏{‏وفجرنا الأرض عيونًا‏}‏ وحقيقته‏:‏ وفجرنا عيون الأرض ولوعبر بذلك لم يكن فيه من المبالغة ما في الأول المشعر بأن الأرض كلها صارت عيونًا‏.‏

فرع أركان الاستعارة ثلاثة‏:‏ مستعار وهولفظ المشبه به‏.‏

ومستعار منه وهومعنى لفظ المشبه‏.‏

ومستعار له وهوالعني الجامع‏.‏

وأقسامها كثيرة باعتبارات‏.‏

فتنقسم باعتبار الأركان الثلاثة إلى خمسة أقسام‏.‏

أحدها‏:‏ استعارة محسوس لمحسوس بوجه محسوس نحو ‏{‏واشتعل الرأس شيبًا‏}‏ فالمستعار منه هو النار والمستعار له الشيب والوجه هو الانبساط ومشابهة ضوء النار لبياض الشيء وكل ذلك محسوس وهوأبلغ مما لوز قيل اشتعل شيب الرأس لإفادته عموم الشيب لجميع الرأس ومثله وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض أصل الموج حركة الماء فاستعمل في تركتهم على سبيل الاستعارة والجامع سرعة الاضطراب وتتابعه في الكثرة ‏{‏والصبح إذا تنفس‏}‏ استعير خروج النفس شيئًا فشيئًا لخروج النور من المشرق عند انشقاق الفجر قليلًا قليلًا بجامع التتابع على طريق التدريج وكل ذلك محسوس‏.‏

الثاني‏:‏ استعارة محسوس لمحسوس بوجه عقلي‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ وهي ألطف من الأولى نحو ‏{‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار‏}‏ فالمستعار منه السلخ الذي هوكشط الجلد عن الشاة والمستعار له كشف الضوء عن مكان الليل وهما حسيان والجامع ما يعقل من ترتب أمر على آخر وحصوله عقب حصوله كترتب ظهور اللحم على الكشط وظهور الظلمة على كشف الضوء عن مكان الليل والترتب أمر عقلي ومثله فجعلناها حصيدًا أصل الحصيد النبات والجامع الهلاك وهوأمر عقلي‏.‏

الثالث‏:‏ استعارة معقول لمعقول بوجه عقلي‏.‏

وقال ابن أبي الأصبع‏:‏ وهي ألطف الاستعارات نحو ‏{‏من بعثنا من مرقدنا‏}‏ المستعار منه الرقاد‏:‏ أي النوم والمستعار له الموت والجامع عدم ظهور الفعل والكل عقلي ومثله ‏{‏ولما سكت عن موسى الغضب‏}‏ المستعار السكوت والمستعار منه الساكت والمستعار له الغضب‏.‏

الرابع‏:‏ استعارة محسوس بوجه عقلي أيضًا نحو ‏{‏مستهم البأساء والضراء‏}‏ استعير المس وهوحقيقة في الأجسام وهومحسوس لمقاساة الشدة والجامع اللحوق وهما عقليان بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فالقذف والدمغ مستعاران وهما محسوسان والحق والباطل مستعار لهما وهما معقولان ‏{‏ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس‏}‏ استعير الحبل المحسوس للعهد وهومعقول ‏{‏فاصدع بما تؤمر‏}‏ استعير الصدع وهوكسر الزجاجة وهومحسوس للتبليغ وهومعقول والجامع التأثير وهوأبلغ من بلغ وإن كان بمعناه لأن تأثير الصدع أبلغ من تأثير التبليغ فقد لا يؤثر التبليغ والصدع يؤثر جزمًا واخفض لهما جناح الذل فكأنه قيل‏:‏ ستعمل الذل الذي يرفعك عند الله‏.‏وكذا قوله ‏{‏يخوضون في آياتنا‏}‏ ‏{‏فنبذوه وراء ظهورهم‏}‏ ‏{‏أفمن أسس بنيانه على تقوى‏}‏ ‏{‏ويبغونها عوجًا‏}‏{‏لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏{‏فجعلناه هباء منثورا‏}‏ ‏{‏في كل واد يهيمون‏}‏ ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏}‏ كلها من استعارة المحسوس للمعقول والجامع عقلي‏.‏

الخامس‏:‏ استعارة معقول لمحسوس والجامع عقلي أيضًا نحو ‏{‏إنا لما طغى الماء‏}‏ المستعار منه التكثير وهوعقلي والمستعار له كثرة الماء وهوحسي والجامع الاستعلاء وهوعقلي أيضًا ومثله تكاد تميز من الغيظ ‏{‏وجعلنا آية النهار مبصرة‏}‏ وتنقسم باعتبار اللفظ إلى أصلية وهي ما كان اللفظ المستعار فيها اسم جنس كآية بحبل من الله من الظلمات إلى النور في كل واد ‏.‏

وتبعية وهي ما كان اللفظ فيها غير اسم جنس كالفعل والمشتقات كسائر الآيات السابقة وكالحروف نحو ‏{‏فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا‏}‏ شبه ترتب العداوة والحزن على الالتقاط بترتب علقة الغاية عليه ثم استعير في المشبه اللام الموضوعة للمشبه به‏.‏

وتنقسم باعتبار آخر إلى مرشحة ومجردة ومطلقة‏.‏

فالأولى وهي أبلغها‏:‏ أن تقترن بما يلائم المستعار منه نحو أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم ااستعير الاشتراء لاستبدال والاختبار ثم قرن بما يلائمه من الربح والتجارة‏.‏

الثانية‏:‏ أن تقرن بما يلائم المستعار له نحو ‏{‏فأذاقها الله لباس الجوع والخوف‏}‏ استعير اللباس للجوع ثم قرن بما يلائم المستعار له من الإذاقة ولوأراد الترشيح لقال فكساها لكن التجريد هنا أبلغ لما في لفظ الإذاقة من المبالغة في الألم باطنًا‏.‏

والثالثة‏:‏ لا تقرن بواحد منهما وتنقسم باعتبار آخر إلى تحقيقية وتخيلية ومكنية وتصريحية‏.‏

فلا أولى‏:‏ ما تحقق معناها حسًا نحو ‏{‏فأذاقها الله‏}‏ الآية أوعقلًا نحو ‏{‏وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا‏}‏ أي بيانًا واضحًا وحجة لامعة ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ أي الدين الحق فإن كلًا منها يتحقق عقلًا‏.‏

والثانية‏:‏ أن يضمر التشبيه في النفس فلا يصرح بشيء من أركانه سوى المشبه ويدل على ذلك التشبيه المضمر في النفس بان يثبت للمشبه أمر مختص بالمشبه به ويسمى ذلك التشبيه المضمر استارة بالكناية وكنيها عنها لأنه لم يصرح به بل دل عليه بذكر خواصه ويقابله التصريحية ويسمى إثبات ذلك الأمر المختص بالمشبه به للمشبه استعارة تخييلية لأنه قد استعير للمشبه ذلك الأمر المختص بالمشبه به وبه يكون كمال المشبه به وقوامه في وجه الشبه لتخيل أن المشبه من جنس المشبه به‏.‏

ومن أمثلة ذلك الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه شبه الميثاق بالحبل وأضمر في النفس فلم يصرح بشيء من أركان التشبيه سوى العهد المشبه ودل عليه بإثبات النقض الذي هومن خواص المشبه به وهوالحبل وكذا واشتعل الرأس شيبًا طوى ذكر المشبه به وهوالنار ودل عليه بلازمه وهوالاشتعال ‏{‏فأذاقها الله‏}‏ الآية شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر فأوقع عليه الإذاقة ختم الله على قلوبهم شبهها في أن لا تقبل الحق بالشيء الموثوق في المختوم ثم أثبت لها الختم جدارًا يريد أن ينقض شبه ميلانه للسقوط بانحراف الحي فأثب له الإرادة التي هي من خواص العقلاء‏.‏

ومن التصريحية آية مستهم البأساة ‏{‏من بعثنا من مرقدنا‏}‏ وتنقسم باعتبار آخر إلى وفاقية بأن يكون اجتماعهما في شيء ممكنًا نحو ‏{‏أو من كان ميتًا فأحييناه‏}‏ أي ضالًا فهديناه استعير الإحياء من جعل الشي حيا للهداية التي بمعنى الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب والإحياء والهداية مما يمكن اجتماعهما في شيء‏.‏

وعنادية وهي ما لا يمكن اجتماعهما كاستعارة اسم المعدوم للموجود لعدم نفعه واجتماع الوجود والعدم في شيء ممتنع‏.‏

ومن العنادية التهكمية والتمليحية وهما ما استعمل في ضد أونقيض نحو فبشرهم بعذاب أليم أي أنذرهم استعيرت البشارة وهي الإخبار بما يسر للإنذار الذي هوضده بإدخال جنسها على سبيل التهكم والاستهزاء نحو إنك لأنت الحليم الرشيد عنوا الغوي السفيه تهكمًا ذق إنك أنت العزيز الكريم وتنقسم باعتبار آخر إلى تمثيلية وهي أن يكون وجه الشبه فيها منتزعًا من متعدد نحو واعتصموا بحبل الله جميعًا شبه استظهار العبد بالله ووثوقه بحمايته والنجاة من المكاره باستمساك الواقع في مهواة بحبل وثيق مدلى من مكان مرتفع يأمن انقطاعه‏.‏

تنبيه قد تكون الاستعارة بلفظين نحوقوارير قوارير من فضة‏:‏ يعني تلك الأواني ليست من الزجاج ولا من الفضة بل في صفاء القارورة وبياض الفضة فصب عليهم ربهم سوط عذاب فائدة أنكر قوم الاستعارة بناء على إنكارهم المجاز وقوم إطلاقها في القرآن لأن فيها إيهامًا للحاجة ولأن لم يرد في ذلك إذن من الشرع وعليه القاضي عبد الوهاب المالكي‏.‏

وقال الطرطوشي‏:‏ إن أطلق المسلمون الاستعارة فيه أطلقناها وإن امتنعوا امتنعنا ويكون هذا من قبيل أن الله عالم والعلم هو العقل ثم لا نصفه به لعدم التوقيف أه‏.‏

فائدة ثانية تقدم أن التشبيه من أعلى أنواع البلاغة وأشرفها واتفق البلغاء على أن الاستعارة أبلغ منه لأنه مجاز وهوحقيقة والمجاز أبلغ فإذا الاستعارة أعلى مراتب الفصاحة وكذا الكناية أبلغ من التصريح والاستعارة أبلغ من الكناية كما قال في عروس الأفراح‏:‏ إنه الظاهر لأنها كالجامعة بين كناية واستعارة ولأنها مجاز قطعًا

وفي الكناية خلاف‏.‏

وأبلغ أنواع الاستعارة التمثيلية كما يؤخذ من الكشاف ويليها المكنية صرح به الطيبي لاشتمالها على المجاز العقلي والترشيحية أبلغ من المجردة والمطلقة والتخييلية أبلغ من التحقييقية والمراد بالأبلغية إفادة زيادة التأكيد والمبالغة في كمال التشبيه لا زيادة في المعنى لا توجد في غير ذلك‏.‏

خاتمة من المهم تحرير الفرق بين الاستعارة والتشبيه المحذوف الأداة نحوزيد أسد

قال الزمخشري في قوله تعالى صم بكم عمي فإن قلت‏:‏ هل يسمى ما في الآية استعارة قلت‏:‏ نختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيهًا بليغًا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون وإنما تطلق الاستعارة حيث يطوى ذكر المستعار له ويجعل الكلام خلوًا عنه صالحًا لأن يراد المنقول عنه والمنقول له دلالة الحال أوفحوى الكلام‏.‏

ومن ثم ترى المفلقين السحرة يتناسون التشبيه ويضربون عنه صفحًا وعلله السكاكي بأن من شرط الاستعارة إمكان حمل الكلام على الحقيقة في الظاهر وتناسي التشبيه وزيد أسد لا يمكن كونه حقيقة فلا يجوز أن يكون استعارة وتابعه صاحب الإيضاح‏.‏

قال في عروس الأفراح‏:‏ وما قالاه ممنوع وليس من شرط الاستعارة صلاحية الكلام لصرفه إلى الحقيقة في الظاهر‏.‏قال‏:‏ بل لوعكس ذلك وقيل لا بد من عدم صلاحيته لكان أقرب لأن الاستعارة مجاز لا بد له من قرينة فإن لم تكن قرينة امتنع صرفه إلى الاستعارة وصرفناه إلى حقيقته وإنما نصرفه إلى الاستعارة بقرينة إما لفظية أومعنوية نحوزيد أسد فالإخبار به عن زيد قرينة صارفة عن إرادة حقيقته قال‏:‏ والذي نختاره في نحوزيد أسد قسمان‏:‏ تارة يقصد به التشبيه فتكون أداة مقدرة‏.‏

وتارة يقصد به الاستعارة فلا تكون مقدرة ويكون الأسد مستعملًا في حقيقته‏.‏

وذكر زيد‏:‏ والإخبار عنه بما لا يصلح له حقيقة قرينة صارفة إلى الاستعارة دالة عليها فإن قامت قرينة على حذف الأداة صرنا إليه وإن لم تقم فنحن بين إضمار واستعارة والاستعارة أولى فيصار إليها‏.‏

وممن صرح بهذا الفرق عبد اللطيف البغدادي في قوانين البالغة وكذا قال حازم‏:‏ الفرق بينهما أن الاستعارة وإن كان فيها معنى التشبيه فتقدير حرف التشبيه لا يجوز فيها والتشبيه بغير حرف على خلاف ذلك لأن تقدير حرف التشبيه واجب فيه‏.‏

 النوع الرابع والخمسون في كناياته وتعريضه

هما من أنواع البلاغة وأساليب الفصاحة وقد تقدم أن الكناية أبلغ من التصريح وعرفها أهل البيان بأنها لفظ أريد به لازم معناه‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ ترك التصريح بالشيء إلى ما يساويه في اللزوم فينتقل منه إلى الملزوم وأنكر وقوعها في القرآن من أنكر المجاز فيه بناء على أنها مجاز وقد تقدم الخلاف في ذلك‏.‏وللكناية أساليب‏.‏

أحدها‏:‏ التنبيه على عظم القدرة نحو ‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة‏}‏ كناية عن آدم‏.‏

ثانيها‏:‏ ترك اللفظ إلى ما هوأجمل نحو ‏{‏إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة‏}‏ فكنى بالنعجة عن المرأة كعادة العرب في ذلك لأن ترك التصريح بذكر النساء أجمل منه ولهذا لم يذكر في القرآن امرأة باسمها على خلاف عادة الفصحاء لنكته وهوأن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملً ولا يبتذلون أسماءهن بل يكنون عن الزوجة بالفرش والعيال ونحوذلك فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر فلما قالت النصارى في مريم ما قالوا صرح الله باسمها ولم يكن تأكيدًا للعبودية التي هي صفة لها وتأكيدًا لأن عيسى لا أب له وإلا لنسب إليه‏.‏ثالثها‏:‏ أ يكون التصريح مما يستقبح ذكره ككناية الله عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والدخول والسر في قوله ‏{‏ولكن لا تواعدوهن سرًا‏}‏ والغشيان في قوله ‏{‏فلما تغشاها‏}‏ أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ المباشرة الجماع ولكن الله يكنى‏.‏

وأخرج عنه قال‏:‏ إن الله كريم يكنى ما شاء وإن الرفث هو الجماع وكنى عن طلبه بالمراودة في قوله ‏{‏وراودته التي هو في بيتها عن نفسه‏}‏ وعنه‏:‏ أوعن المعانقة باللباس في قوله ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ وبالحرث في قوله ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ وكنى عن البول ونحوه بالغائط في قوله ‏{‏أو جاء أحد منكم من الغائط‏}‏ وأصله المكان المطمئن من الأرض وكنى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها كانا يأكلان الطعام وكنى عن الاستاه بالأدبار في قوله ‏{‏يضربون وجوههم وأدبارهم أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في هذه الآية قال‏:‏ يعني استاههم ولكن الله يكنى‏.‏

وأورد على ذلك التصريح بالفرج في قوله ‏{‏والتي أحصنت فرجها‏}‏ وأجيب بأن المراد به فرج القميص والتعبير به ألطف الكنايات وأحسنها‏:‏ أي لا يعلق ثوبها فهي طاهرة الثوب كما يقال نفي الثوب وعفيف الذيل كناية عن العفة ومنه ‏{‏وثيابك فطهر‏}‏ وكيف يظن أن نفخ جبريل وقع في فرجها وإنما نفخ في جيب درعها ونظيره أيضًا ‏{‏ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن‏}‏ قلت‏:‏ وعلى هذا ففي الآية كناية عن كناية ونظيره ما تقدم من مجاز المجاز‏.‏

رابعها‏:‏ قصد البلاغة والمبالغة نحو ‏{‏أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين‏}‏ كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين الشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ولوأتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك والمراد نفي ذلك عن الملائكة‏.‏

وقوله ‏{‏بل يداه مبسوطتان‏}‏ كناية عن سعة جوده وكرمه جدًا‏.‏

خامسها‏:‏ قصد الاختصار كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ فعل نحو ‏{‏لبئس ما كانوا يفعلون‏}‏ ‏{‏فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا‏}‏ أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله‏.‏

سادسها‏:‏ التنبيه على مصيره نحو ‏{‏تبت يدا أبي لهب‏}‏ أي جهنمي مصيره إلى اللهب ‏{‏حمالة الحطب في جيدها حبل‏}‏ أي نمامة مصيرها إلى أن تكون حطبًا لجهنم في جيدها غل‏.‏

قال بدر الدين بم مالك في المصباح‏:‏ إنما يعدل عن الصرائح إلى الكناية بنكتة كالإيضاح أوبيان حال الموصوف أومقدار حاله أوالقصد إلى المدح أوالذم أوالاختصار أوالستر أوالصيانة أوالتعمية والإلغاز والتعبير عن الصعب بالسهل وعن المعنى القبيح باللفظ الحسن‏.‏

واستنبط الزمخشري نوعًا من الكناية غريبًا وهوأن تعمد إلى جملة معناها على خلاف الظاهر فتأخذ الخلاصة من غير اعتبار مفرداتها بحقيقة والمجاز فتعبر بها عن المقصود كما تقول في نحو ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ إنه كناية عن الملك فإن الاستواء على السرير لا يحصل إلا مع الملك فجعل كناية عنه وكذا قوله ‏{‏والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه‏}‏ كناية عن عظمته وجلالته من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين تذنيب من أنواع البديع التي تشبه الكناية الإرداف وهوأ يريد المتكلم معنى ولا يعبر عنه بلفظ الموضوع له ولا بدلالة الإشارة بل بلفظ يرادفه كقوله تعالى ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ والأصل‏:‏ وهلك من قضى الله هلاكه ونجا من قضى الله نجاته وعدل عن ذلك إلى لفظ الإرداف لما فيه من الإيجاز والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر آمر مطاع وقضاء من لا يرد قضاؤه والأمر يستلزم آمرًا فقضاؤه يدل على قدرة الآمر به وقهره وإن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يحضان على طاعة الأمر ولا يحصل ذلك كله في اللفظ الخاص‏.‏

وكذا قوله ‏{‏واستوت على الجودي‏}‏ حقيقة ذلك جلست فعدل عن اللفظ الخاص المعنى إلى مرادفه لما في الاستواء من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل وهذا لا يحصل من لفظ الجلوس كذ فيهن قاصرات الطرف الأصل عفيفات وعدل عنه للدلالة على أنهن مع العفة لا تطمح أعينهن إلى غير أزواجهن ولا يشتهين غيرهم ولا يؤخذ ذلك من لفظ العفة‏.‏

قال بعضهم‏:‏ والفرق بين الكناية والإرداف‏:‏ أن الكناية انتقال من لازم إلى ملزوم والإرداف من مذكور إلى متروك‏.‏

ومن أمثلته أيضًا ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى عدل في الجملة الأولى عن قوله بالسوء‏:‏ أي مع أن فيه مطابقة كالجملة الثانية إلى بما عملوا تأدبًا أن يضاف السوء إلى الله تعالى‏.‏

فصل للناس في الفرق بين الكناية والتعريض عبارات متقاربة‏.‏

فقال الزمخشري‏:‏ الكناية ذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له والتعريض أن تذكر شيئًا يدل به على شيء لم تذكره‏.‏

وقال ابن الأثير‏:‏ الكناية ما دل على معنى يجوز حمله على الحقيقة والمجاز بوصف جامع بينهما والتعريض اللفظ الدال على معنى لا من جهة الوضع الحقيقي أوالمجازي كقول من يتوقع صلة والله إني محتاج فإنه تعريض بالطلب مع أنه لم يوضع له حقيقة ولا مجازًا وإنما فهم من عرض اللفظ‏:‏ أي جانبه‏.‏وقال السبكي في كتاب الإغريض في الكناية والتعريض الكناية لفظ استعمل في معناه مرادًا منه لازم المعنى فهي بحسب استعمال اللفظ في المعنى حقيقة والتجوز في إرادة إفادة ما لم يوضع له وقد لا يراد بها المعنى بل يعبر بالملزوم عن اللازم وهي حينئذ مجاز‏.‏

ومن أمثلته قل نار جهنم أشد حرًا فإنه لم يقصد إفادة ذلك لأنه معلوم بل إفادة لازمه وهوأنهم يردونها ويجدون حرها إن لم يجاهدوا‏.‏

وأما التعريض فهولفظ استعمل في معناه للتلويح بغيره نحو ‏{‏بل فعله كبيرهم‏}‏ هذا نسب الفعل إلى كبير الأصنام المتخذة آلهة كأنه غضب أن تعبد الصغار معه تلويحًا لعابديها لأنها لا تصلح أن تكون آلهة لما يعلمون إذا نظروا بعقولهم من عجز كبيرها عن ذلك الفعل والإله لا يكون عاجزًا فهوحقيقة أبدًا‏.‏

وقال السكاكي‏:‏ التعريض ما سيق لأجل موصوف غير مذكور‏.‏

ومنه أن يخاطب واحد ويراد غيره وسمى به لأنه أميل الكلام إلى جانب مشارًا به إلى آخر‏.‏

يقال نظر إليه بعرض وجهه‏:‏ أي جانبه‏.‏

قال الطيبي‏:‏ وذلك يفعل إما لتنويه جانب الموصوف ومنه ‏{‏ورفع بعضهم درجات‏}‏ أي محمدًا صلى الله عليه وسلم إعلاء لقدره‏:‏ أي أنه العلم الذي لا يشتبه‏.‏

وإما التلطف به واحتراز عن المخاشنة نحو ‏{‏وما لي لا أعبد الذي فطرني‏}‏ أي ومالكم لا تعبدون بدليل قوله ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ وكذا قوله ‏{‏أأتخذ من دونه آلهة‏}‏ ووجه حسنه إسماع من يقصد خطابه الحق على وجه يمنع غضبه إذ لم يصرح بنسبيته لباطل والإعانة على قبوله إذ لم يرد له إلا ما أراده لنفسه‏.‏

وإما لاستدراج الخصم إلى الإذعان والتسليم ومنه لئن أشركت ليحبطن عملك خوطب النبي صلى الله عليه وسلم وأريد غيره لاستحالة الشرك عليه شرعًا‏.‏

وإما للذم نحو ‏{‏إنما يتذكر أولوا الألباب‏}‏ فإنه تعريض لذم الكفار وإنهم في حكم البهائم الذين لا يتذكرون‏.‏

وغما للإهانة والتوبيخ نحو ‏{‏وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت‏}‏ فإن سؤالها لإهانة قاتلها وتوبيخه‏.‏

وقال السبكي‏:‏ التعريض قسمان‏:‏ قسم يراد به معناه الحقيقي ويشار به إلى المعنى الآخر المقصود كما تقدم‏.‏

وقسم لا يراد به بل يضرب مثلًا للمعنى هومقصود التعريض كقول إبراهيم بل فعله كبيرهم هذا‏.‏

 النوع الخامس والخمسون في الحصر والاختصاص

أما الحصر ويقال له القصر فهوتخصيص أمر بآخر بطريق مخصوص‏.‏

ويقال أيضًا إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه‏.‏

وينقسم إلى قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف‏.‏

وكل منهما إما حقيقي وإما مجازي‏.‏

مثال قصر الموصوف على الصفة حقيقيًا نحو‏:‏ ما زيد إلا كاتب‏:‏ أي لا صفة له غيرها وهوعزيز لا يكاد يوجد لتعذر الإحاطة بصفات الشيء حتى يمكن إثبات شيء منها ونفي ما عداها بالكلية وعلى عدم تعذرها يبعد أن تكون للذات صفة واحدة ليس لها غيرها ولذا لم يقع في التنزيل ومثاله مجازيًا ‏{‏وما محمد إلا رسول‏}‏ أي أنه مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الموت الذي هومن شأن الإله‏.‏

ومثال قصر الصفة على الموصوف حقيقيًا ‏{‏لا إله إلا الله‏}‏ ومثاله مجازيًا ‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة‏}‏ الآية لما قال الشافعي فيما تقدم نقله من أسباب النزول أن الكفار لما كانوا يحلون الميتة والدم ولحم الخنزير ‏{‏وما أهل لغير الله ‏}‏ وكانوا يحرمون كثرًا من المباحات وكانت سجيتهم تخالف وضع الشرع ونزلت الآية مسوقة بذكر شبههم في البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وكان الغرض إبانة كذبهم فكأن قال‏:‏ لا حرام إلا ما أحللتموه والغرض الرد عليهم والمضادة لا الحصر الحقيقي وقد تقدم بأبسط من هذا‏.‏

وينقسم الحصر باعتبار آخر إلى ثلاثة أقسام‏:‏ قصر إفراد وقصر قلب وقصر تعيين‏.‏

فالأول‏:‏ يخاطب به من يعتقد الشركة نحو ‏{‏إنما الله إله واحد‏}‏ خوطب به نمرود الذي اعتقد أنه هو المحيي المميت دون الله إلا أنهم هم ال يعتقد اشتراك الله والأصنام في الألوهية‏.‏

والثاني‏:‏ يخاطب به من يعتقد إثبات الحكم لغير من أثبته المتكلم له نحو ربي الذي يحيي ويميت خوطب به نمرود الذي اعتقد أنه هو المحيي المميت دون الله ألا إنهم هم السفهاء خوطب به من اعتقد من المنافقين أن المؤمنين سفهاء دونهم وأرسلناك للناس رسولًا خوطب به من يعتقد من اليهود اختصاص بعثته بالعرب‏.‏

والثالث‏:‏ يخاطب به من تساوى عنده الأمران فلم يحكم بإثبات الصفة لواحد بعينه ولا لواحد بإحدى الصفتين بعينها‏.‏

فصل طرق الحصر كثيرة‏.‏

أحدها‏:‏ النفي والاستثناء سواء كان النفي بلا أوما أوغيرهما والاستثناء بإلا أوغير نحو لا إله إلا الله ‏{‏وما من إله إلا الله‏}‏ ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ووجه إفادة الحصر أن الاستثناء المتفرغ لابد أن يتوجه النفي فيه إلى مقدر وهومستثني منه لأن الاستثناء إخراج فيحتاج إلى مخرج منه والمراد التقدير المعنوي لا الصناعي ولا بد أن يكون عامًا لأن الإخراج لا يكون إلا من عام ولابد أن يكون مناسبًا للمستثنى منه في جنسه مثل ما قام إلا زيد‏:‏ أي لا أحد وما أكلت إلا تمرًا‏:‏ أي مأكولًا ولابد أن يوافقه في صفته‏:‏ أي إعرابه وحينئذ يجب القصر إذا وجب منه شيء بإلا ضرورة فيبقى ما عداه على صفة الانتفاء وأصل استعمال هذا الطريق أن يكون المخاطب جاهلًا بالحكم وقد يخرج عن ذلك فينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب نحو وما محمد إلا رسول فإنه خطاب للصحابة وهم لم يجهلون رسالة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه نزل استعظامهم له عن الموت منزلة من يجهل رسالته لأن كل رسول فلا بد من موته فمن استعبد موته فكأنه استعبد رسالته‏.‏

الثاني إنما الجمهور على أنها لحصر فقيل بالمنطوق وقيل بالمفهوم‏.‏

وأنكر قوم إفادتها منهم أبوحيان‏.‏

واستدل مثبتوه بأمور منها قوله تعالى ‏{‏إنما حرم عليكم الميتة‏}‏ بالنصب فإن معناه‏:‏ ما حرم عليكم إلا الميتة لأنه المطابق في المعنى لقراءة الرفع فإنها للقصر لكذا قراءة النصب والأصل استواء معنى القراءتين‏.‏

ومنها ا إن للإثبات وما للنفي فلابد أن يحصل القصر لجمع بين النفي والإثبات لكن تعقب بأن ما زائدة كافة لا نافية‏.‏

ومنها‏:‏ إن إن للتأكيد وما كذلك فاجتمع تأكيدان فأفاد الحصر قاله السكاكي‏.‏وتعقب بأنه لوكان اجتماع تأكيدين يفيد الحصر لأفاده نحو‏:‏ إن زيدًا لقائم‏.‏

وأجيب بأن مراده لا يجتمع حرفًا تأكيد متواليان إلا للحصر‏.‏

ومنها قوله تعالى قال ‏{‏إنما العلم عند الله‏}‏ ‏{‏قال إنما يأتيكم به الله‏}‏ ‏{‏قل إنما علمها عند ربي‏}‏ فإنه إنما تحصل مطابقة الجواب إذا كانت إنما للحصر ليكون معناها‏:‏ لا آتيكم به إنما يأتي به الله ولا أعلمها إنما يعلمها الله وكذا قوله ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ما على المحسنين من سبيل إلى قوله ‏{‏إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء‏.‏

وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ‏{‏وإن تولوا فإنما عليك البلاغ‏}‏ لا يستقيم المعنى في هذه الآيات ونحوها إلا بالحصر وأحسن ما يستعمل إنما هومن مواقع التعريض نحو إنما يتذكر أولوا الألباب‏.‏الثالث إنما بالفتح عدها من طرق الحصر الزمخشري والبيضاوي فقالا في قوله تعالى ‏{‏قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد‏}‏ إنما القصر الحكم على شيء أولقصر الشيء على حكم نحو‏:‏ إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع الأمران في هذه الآية لأن إنما يوحي إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم بمنزلة إنما زيد قائم وفائدة اجتماعهما الدلالة على أ الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية وصرح التنوخي في الأقصى القريب بكونها للحصر فقال‏:‏ كلما أوجب أن إنما بالكسر لحصر أوجب أن إنما بالفتح للحصر لأنها فرع عنها وما ثبت للأصل ثبت للفرع ما لم يثبت مانع منه والأصل عدمه‏.‏ورد أبوحيان على الزمخشري ما زعمه بأنه يلزمه انحصار الوحي في الوحدانية‏.‏

وأجيب بأنه حصر مجازي باعتبار المقام‏.‏

الرابع‏:‏ العطف بلا أوبل ذكره أهل البيان ولم يحكوا فيه خلافًا نازع فيه الشيخ بهاء الدين في عروس الأفراح فقال‏:‏ أي قصر في العطف بلا إنما فيه نفي وإثبات فقولك زيد شاعر لا كاتب لا تعرض فيه لنفي صفة ثالثة والقصر إنما يكون بنفي جميع الصفات غير المثبت حقيقة أومجازًا وليس هوخاصًا بنفي الصفة التي يعتقدها المخاطب وأما العطف ببل فأبعد منه لأنه لا يستمر فيها النفي والإثبات‏.‏

الخامس‏:‏ تقديم المعمول نحو ‏{‏إياك نعبد‏}‏ ‏{‏لإلى الله تحشرون‏}‏ وخالف فيه قوم وسيأتي بسط الكلام فيه قريبًا‏.‏

السادس‏:‏ ضمير الفصل نحو ‏{‏فالله هو الولي‏}‏ أي لا غيره ‏{‏وأولئك هم المفلحون‏}‏ إن هذا لهوقصص الحق إن شأنئك هو الأبتر وممن ذكر أنه للحصر البيانيون في بحث المسند إليه واستدل له السهيلي بأنه أتى به في كل موضع ادعى فيه نسبة ذلك المعنى إلى غير الله ولم يؤت به حيث لم يدع وذلك في قوله ‏{‏وأنه هو أضحك وأبكى إلى آخر الآيات فلم يؤت به في وأنه خلق الزوجين وإن عليه النشأة وأنه أهلك لأن ذلك لم يدع لغير الله وأتى به في الباقي لادعائه لغيره‏.‏

قال في عروس الأفراح‏:‏ وقد استنبطت دلالته على الحصر من قوله ‏{‏فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم لأنه لولم يكن للحصر لما حسن لأن الله لم يزل رقيبًا عليهم وإنما الذي حصل بتوفيته أنه لم يبق لهم رقيب غير الله تعالى ومن قوله ‏{‏لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون فإنه ذكر لتبيين عدم الاستواء وذلك لا يحسن إلا بأن يكون الضمير للاختصاص‏.‏

السابع‏:‏ تقديم المسند إليه على ما قاله الشيخ عبد القاهر‏:‏ قد يقدم المسند إليه ليفيد تخصيصه بالخبر الفعلي والحاصل على رأيه أن له أحوالًا‏.‏أحدها‏:‏ أن يكون المسند إليه معرفة والمسند مثبتًا فيأتي للتخصيص نحو‏:‏ أنا قمت وأنا سعيت في حاجتك فإن قصد به قصر الإفراد أكد بنحووحدي أوقصر القلب أكد بنحولا غيري ومنه في القرآن ‏{‏بل أنتم بهديتكم تفرحون‏}‏ فإن ما قبله من قوله ‏{‏أتمدونني بمال ولفظ بل المشعر بالإضراب يقضي بأن المراد‏:‏ بل أنتم لا غيركم على أن المقصود نفي فرحه هوبالهدية لا إثبات الفرح لهم بهديتهم قاله في عروس الأفراح‏.‏قال‏:‏ وكذا قوله ‏{‏لا تعلمهم نحن نعلمهم‏}‏ أي لا يعلمهم إلا نحن‏.‏

وقد يأتي للتقوية والتأكيد دون التخصيص‏.‏

قال الشيخ بهاء الدين‏:‏ ولا يتميز ذلك إلا بما يقتضيه الحال وسياق الكلام‏.‏

ثانيها‏:‏ أن يكون المسند منفيًا نحو‏:‏ أنت لا تكذب فإنه أبلغ في نفي الكذب من لا تكذب ومن لا تكذب أنت‏.‏

وقد يفيد التخصيص ومنه فهم لا يتساءلون‏.‏

ثالثها‏:‏ أن يكون المسند إليه نكرة مثبتًا نحو‏:‏ رجل جاءني فيفيد التخصيص إما بالجنس‏:‏ أي ل امرأة أوالوحدة‏:‏ أي لا رجلان‏.‏

رابعها‏:‏ أن يلي المسند إليه حرف النفي فيفيده نحو‏:‏ ما أنا قلت هذا‏:‏ أي لم أقله مع أ غيري قاله ومنه وما أنت علينا بعزيز‏:‏ أي العزيز علينا رهطك لا أنت ولذا قال أرهطي أعز عليكم من الله هذا حاصل رأى الشيخ عبد القاهر ووافقه السكاكي وزاد شروطًا وتفاصيل بسطناها في شرح ألفية المعاني‏.‏

الثامن‏:‏ تقديم المسند ذكر ابن الأثير وابن النفيس وغيرهما أن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد الاختصاص ورده صاحب الفلك الدائر بأنه لم يقل به أحد وهوممنوع فقد صرح السكاكي وغيره بأن تقديم ما رتبته التأخير يفيده ومثلوه بنحو‏:‏ تميمي أنا

التاسع‏:‏ ذكر المسند إليه ذكر السكاكي أنه قد يذكر ليفيد التخصيص وتعقبه صاحب الإيضاح وصرح الزمخشري بأنه أفاد الاختصاص في قوله ‏{‏الله يبسط الرزق في سورة الرعد وفي قوله ‏{‏الله نزل أحسن الحديث‏}‏ وفي قوله ‏{‏والله يقول الحق وهو يهدي السبيل‏}‏ ويحتمل أنه أراد أن تقديمه أفاده فيكون من أمثلة الطريق السابع‏.‏

العاشر‏:‏ تعريف الجزأين ذكر الإمام فخر الدين في نهاية الإيجاز أنه يفيد الحصر حقيقة أومبالغة نحو‏:‏ المنطلق زيد ومنه في القرآن فيما ذكر الزملكاني في أسرار التنزيل الحمد لله قال إنه يفيد الحصر كما في إياك نعبد أي الحمد لله لا لغيره‏.‏

الحادي عشر‏:‏ نحو‏:‏ جاء زيد نفسه نقل بعض شراح التلخيص عن بعضهم أنه يفيد الحصر‏.‏

الثاني عشر‏:‏ نحو‏:‏ إن زيدًا لقائم نقله المذكور أيضًا‏.‏

الثالث عشر‏:‏ نحو‏:‏ قائم في جواب زيد إما قائم أوقاعد ذكره الطيبي في شرح البيان‏.‏

الرابع عشر‏:‏ قلب بعض حروف الكلمة فإنه يفيد الحصر على ما نقله في الكشاف في قوله ‏{‏والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها‏}‏ قال‏:‏ القلب للاختصاص بالنسبة إلى لفظ الطاغوت لأن وزنه على قول فعلوت من الطغيان كملكوت ورحموت قلب بتقديم اللام على العين فوزنه فلعوت ففيه مبالغات التسمية وبالمصدر والبناء بناء مبالغة والقلب وهولاختصاص إذ لا يطلق على غير الشيطان‏.‏

تنبيه كان أهل البيان يطبقون على أن تقديم المعمول يفيد الحصر سواء كان مفعولًا أوظرفًا أومجرورًا ولهذا قيل في ‏{‏إياك نعبد وإياك نستعين‏}‏ معناه‏:‏ نحصل بالعبادة والاستعانة وفي ‏{‏لإلى الله تحشرون‏}‏ معناه‏:‏ إليه لا إلى غيره وفي لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا أخرت الصلة في الشهادة الأولى وقدمت في الثانية لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم وفي الثاني إثبات اختصاصهم بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم وخالف في ذلك ابن الحاجب فقال في شرح المفصل‏:‏ الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم واستدل على ذلك بقوله ‏{‏فاعبد الله مخلصًا له الدين‏}‏ ثم قال بل الله فاعبد ورد هذا الاستدلال بأن مخلصًا له الدين أغنى عن أداة الحصر في الآية الأولى ولولم يكن فما المانع من ذكر المحصور في محل بغير صيغة الحصر كما قال تعالى واعبدوا ربكم وقال أمر أن لا تعبدوا إلا إياه بل قوله ‏{‏بل الله فاعبد من أقوى أدلة الاختصاص فإن قبلها ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ فلولم يكن لاختصاص وكان معناها أعبد الله لما جعل الإضراب الذي هومعنى بل‏.‏

واعترض أبوحيان على مدعي الاختصاص بنحو أفغير الله تأمروني أعبد وأجيب بأنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة‏.‏

ورد صاحب الفلك الدائر والاختصاص بقوله كلا هدينا ونوحًا هدينا من قبل وهوأقوى ما رد به‏.‏

وأجيب بأنه لا يدعي فيه اللزوم بل الغلبة وقد يخرج الشيء عن الغالب‏.‏

قال الشيخ بهاء الدين‏:‏ وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة وهي ‏{‏أغير الله تدعون إن كنتم صادقين‏}‏ ‏{‏بل إياه تدعون‏}‏ فإن التقديم في الأول قطعًا ليس للاختصاص وفي إياه قطعًا للاختصاص‏.‏

وقال والده الشيخ تقي الدين في كتاب الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص ومن الناس من ينكر ذلك ويقول‏:‏ إنما يفيد الاهتمام وقد قال سيبويه في كتابه‏:‏ وهم يقدمون ما هم به‏:‏ أعني والبيانيون على إفادته الاختصاص ويفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر وليس كذلك وإنما الاختصاص شيء والحصر شيء آخر والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظة الحصر وإنما عبروا بالاختصاص‏.‏

والفرق بينهما أن الحصر نفي غير المذكور وإثبات المذكور والاختصاص قصد الخاص من جهة خصوصه وبيان ذلك أن الاختصاص افتعال من الخصوص والخصوص مركب من شيئين‏:‏ أحدهما عام مشترك بين شيئين أوأشياء‏.‏

والثاني معنى منضم إليه يفصله عن غيره كضرب زيد فإنه أخص من مطلق الضرب‏.‏

فإذا قلت‏:‏ ضربت زيدًا أخبرت بضرب عام وقع منك لي شخص خاص فصار ذلك الضرب الخبر به خاصًا لما انضم إليه منك ومن زيد وهذه المعاني الثلاثة‏:‏ أعني مطلق الضرب وكونه واقعًا منك وكونه واقعًا على زيد قد يكون قصد المتكلم لها ثلاثتها على السواء وقد يترجح قصده لبعضها على بعض ويعرف ذلك بما ابتدأ به كلامه فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به وأنه هو الأرجح في غرض المتكلم‏.‏

فإذا قلت زيدًا ضربت علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود ولا شك في أن كل مركب من خاص وعام له جهتان فقد يقصد من جهة عمومه وقد يقصد من جهة خصوصه‏.‏

والثاني هو الاختصاص وأنه هو الأهم عند المتكلم وهوالذي قصد إفادته السامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفي ففي الحصر معنى زائد عليه وهونفي ما عدا المذكور وإنما جاء في هذا إياك نعبد للعلم بأن قائليه لا يعبدون غير الله تعالى ولذا لم يطرد في بقية الآيات فإن قوله ‏{‏أفغير دين الله يبغون‏}‏ لوجعل في معنى ما يبغون إلا غير دين الله وهمزة الإنكار داخلة عليه لزم أن يكون المنكر الحصر لا مجرد غيهم غير دين الله وليس المراد وكذلك ‏{‏آلهة دون الله تريدون‏}‏ المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر وقد قال الزمخشري في ‏{‏وبالآخرة هم يوقنون‏}‏ في تقديم الآخرة وبناء يوقنون على هم تعريض بأهل الكتاب وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته وإن قولهم ليس بصادر عن إيقان وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن‏.‏

وقد اعترض عليه بعضهم فقال‏:‏ تقديم الآخرة أفاد إن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة لا بغيرها وهذا الاعتراض من قائله مبني على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر وليس كذلك‏.‏

ثم قال المعترض‏:‏ وتقديم هم أفاد أن هذا القصر مختص بهم فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانًا بغيرها حيث قالوا لن تمسنا النار وهذا منه أيضًا استمرار على ما في ذهنه من الحصر‏:‏ أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها وها فهم عجيب ألجأه إليه فهمه الحقير وهوممنوع وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام‏:‏ أحدها بما وإلا كقولك‏:‏ ما قام إلا زيد صريح في نفي القيام عن غير زيد ويقتضي إثبات لزيد قيل بالمنطوق وقيل بالمفهوم وهوالصحيح لكنه أقوى المفاهيم لأن إلا موضوعة للاستثناء وهوالإخراج فدلالتها على الإخراج بالمنطوق لا بالمفهوم ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هوعين القيام بل قد يستلزمه فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم والتبس على بعض الناس لذلك فقال بالمنطوق‏.‏

والثاني الحصر بإنما وهوقريب من الأول فيما نحن فيه وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر فكأنه يفيد إثبات قيام زيد إذا قلت إنا قام زيد بالمنطوق ونفيه عن غيره بالمفهوم‏.‏

الثالث‏:‏ الحصر الذي قد يفيده التقديم وليس هوعلى تقدير تسليمه مثل الحصرين الأولين بل هوفي قوة جملتين‏:‏ إحداهما ما صدر به الحكم نفيًا كان أوإثباتًا وهوالمنطرق والأخرى ما فهم من التقديم والحصر يقتضي نفي المنطوق فقط دون ما دل عليه من المفهوم لأن المفهوم لا مفهوم له فإذا قلت أنا لا أكرم إلا إياك أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره ولا يلزم أنك لا تكرمه وقد قال تعالى ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ أفاد أن العفيف قد ينكح غير الزانية وهوساكت عن نكاح الزانية فقال سبحانه وتعالى بعده ‏{‏والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك‏}‏ بيانًا لما سكت عنه في الأول فلوقال بالآخرة يوقنون أفاد بمنطوقه إيقانهم بها ومفهومه عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها وليس ذلك مقصودًا بالذات والمقصود بالذات قوة إيمانهم بالآخرة حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض فهوحصر مجازي وهودون قولنا يوقنون بالآخرة لا بغيرها فالضبط هذا وإياك أن تجعل تقديره‏:‏ لا يوقنون إلا بالآخرة‏.‏

إذا عرفت هذا فتقديم هم أفاد أن غيرهم ليس كذلك فلوجعلنا التقدير‏:‏ لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي فيتسلط المفهوم عليه فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها كما زعم المعترض ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة ولا شك أن هذا ليس بمراد بل المراد إفهام أن غيرهم لا يوقن بالآخرة فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة ليتسلط المفهوم عليه وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر لأن الحصر لم يدل عليه بجملة واحدة مثل ما وإلا ومثل إنما وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق وليس أحدهما متقيدًا بالآخر حتى تقول إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور بل أفاد نفي الإيقان مطلقًا عن غيرهم وهذا كله على تقدير تسليم الحصر ونحن نمنع ذلك ونقول‏:‏ إنه اختصاص وإن بينهما فرقًا أه كلام السبكي‏.‏

 النوع السادس والخمسون في الإيجاز والإطناب

اعلم أنهما من أعظم أنواع البلاغة حتى نقل صاحب سر الفصاحة عن بعضهم أنه قال‏:‏ اللغة هي الإيجاز والإطناب‏.‏

قال صاحب الكشاف‏:‏ كما أنه يجب على البليغ في مظان الإجمال أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع أنشد الجاحظ‏:‏ يرمون بالخطب الطوال وتارة وحي المال حظ خيفة الرقباء واختلف هل بين الإيجاز والإطناب واسطة وهي المساواة أولا وهي داخلة في قسم الإيجاز‏.‏فالسكاكي وجماعة على الأول لكنهم جعلوا المساواة غير محمودة ولا مذمومة لأنهم فسروها بالمتعارف من كلام أوساط الناس الذين ليسوا في رتبة البلاغة وفسروا الإيجاز بأداء المقصود بأقل من عبارة المتعارف والإطناب أداؤه بأكثر منها لكون المقام خليقًا بالبسط‏.‏

وابن الأثير وجماعة على الثاني فقالوا‏:‏ الإيجاز التعبير عن المراد بلفظ غير زائد والإطناب بلفظ أزيد‏.‏

وقال القزويني‏:‏ الأقرب أن يقال‏:‏ إن المنقول من طرق التعبير عن المراد تأدية أصله إما بلفظ مساوللأصل المراد أوناقص عنه واف أوزائد عليه لفائدة‏.‏

والأول المساواة والثاني الإيجاز والثالث الإطناب‏.‏واحترز بواف عن الإخلال وبقولنا لفائدة عن الحشووالتطويل فعنده ثبوت المساواة واسطة وأنها من قسم المقبول‏.‏

فإن قلت‏:‏ عدم ذكرك المساواة في الترجمة لماذا هل هولرجحان نفيها أوعدم قبولها أولأمر غير ذلك قلت‏:‏ لهما ولأمر ثالث وهوا المساواة لا تكاد توجد خصوصًا في القرآن وقد مثل لها في التلخيص بقوله تعالى ‏{‏ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله‏}‏ وفي الإيضاح بقوله ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا‏}‏ وتعقب بأن في الآية الثانية حذف موصوف الذين وفي الأولى إطناب بلفظ السيء لأن المكر لا يكون إلا سيئًا وإيجاز بالحذف إن كان الاستثناء غير مفرغ‏:‏ أي بأحد وبالقصر في الاستثناء وبكونها حادثة على كف الأذى عن جميع الناس محذرة عن جميع ما يؤدي إليه وبأن تقديرها يضر بصاحبه مضرة بليغة فأخرج الكلام مخرج الاستعارة التبعية الواقعة على سبيل التمثيل لأن يحيق بمعنى يحيط فلا يستعمل إلا في الأجسام‏.‏

تنبيه الإيجاز والاختصار بمعنى واحد كما يؤخذ من المفتاح وصرح به الطيبي‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الاختصار خاص بحذف الجمل فقط بخلاف الإيجاز‏.‏

قال الشيخ بهاء الدين‏:‏ وليس بشيء‏.‏

والإطناب قيل بمعنى الإسهاب والحق أنه أخص منه فإن الإسهاب التطويل لفائدة أولا لفائدة ذكره التنوخي وغيره‏.‏

فصل الإيجاز قسمان‏:‏ إيجاز قصر وإيجاز حذف‏.‏

فالأول هو الوجيز بلفظه‏.‏

قال الشيخ بهاء الدين‏:‏ الكلام القليل إن كان بعضًا من كلام أطول منه فهوأجاز حذف وإن كان كلامًا يعطي معنى أطول منه فهوإيجاز قصر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إيجاز القصر هوتكثير المعنى بتقليل اللفظ‏.‏

وقال آخر‏:‏ هوأن يكون اللفظ بالنسبة إلى المعنى أقل من القدر المعهود عادة وسبب حسنه أنه يدل على التمكن في الفصاحة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم أوتيت جوامع الكلم وقال الطيبي في التبيان‏:‏ الإيجاز الخالي من الحذف ثلاثة أقسام أحدها‏:‏ إيجاز القصر وهوأن تقصر اللفظ على معناه كقوله ‏{‏إنه من سليمان‏}‏ إلى قوله ‏{‏وائتوني مسلمين‏}‏ جمع في أحرف العنوان والكتاب والحاجة‏.‏

وقيل في وصف بليغ‏:‏ كانت ألفاظه قوالب معناه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا رأي من يدخل المساواة في الإيجاز‏.‏

الثاني‏:‏ إيجاز التقدير وهوأن يقدر معنى زائد على المنطوق ويسمى بالتضييق أيضًا وبه سماه بدر الدين بن مالك في المصباح لأنه نقص من كلام ما صار لفظه أضيق من قدر معناه نحو فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف أي خطاياه غفرت فهي له لا عليه هدى للمتقين أي الضالين الصائرين بعد الضلال إلى التقوى‏.‏

الثالث‏:‏ الإيجاز الجامع وهوأن يحتوي اللفظ على معان متعددة نحو ‏{‏إن الله يأمر بالعدل والإحسان‏}‏ الآية فإن العدل هو الصراط المستقيم المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط المومى به إلى جميع الواجبات في الاعتقاد والأخلاق والعبودية‏.‏

والإحسان هو الإخلاص في واجبات العبودية لتفسيره في الحديث بقوله أن تعبد الله كأنك تراه أي تعبده مخلصًا في نيتك وواقفًا في الخضوع آخذا أهبة الحذر إلى ما لا يحصى ‏{‏وإيتاء ذي القربى‏}‏ هو الزيادة على الواجب من النوافل هذا في الأوامر وأما النواهي فبالفحشاء الإشارة إلى القوة الشهوانية وبالمنكر إلى الإفراط الحاصل من آثار الغضبية أوكل محرم شرعًا وبالبغي إلى الاستعلاء الفائض عن الوهمية‏.‏

قلت‏:‏ ولهذا قال ابن مسعود‏:‏ ما في القرآن آية أجمع للخير والشر من هذه الآية أخرجه في المستدرك‏.‏

وروى البيهقي في شعب الإيمان عن الحسن أنه قرأها يومًا ثم وقف فقال‏:‏ إن الله جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة فوالله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئًا إلا جمعه ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئًا إلا جمعه‏.‏

وروى أيضًا عن ابن شهاب في معنى حديث الشيخين بعثت بجوامع الكلم قال‏:‏ بلغني أن جوامع الكلم أن الله يجمع له الأمور الكثيرة التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين ونحوذلك ومن ذلك قوله تعالى ‏{‏خذ العفو‏}‏ الآية فإنها جامعة لمكارم الأخلاق لأن في أخذ العفوالتساهل والتسامح في الحقوق واللين والرفق في الدعاء إلى الدين وفي الأمر بالمعروف كف الأذى وغض البصر وما شاكلهما من المحرمات وفي الإعراض بالصبر والحلم والتؤدة‏.‏

ومن بديع الإيجاز قوله تعالى ‏{‏قل هو الله أحد‏}‏ إلى آخرها فإنه نهاية التنزيه وقد تضمنت الرد على نحوأربعين فرقة كما أفرد ذلك بالتصنيف بهاء الدين بن شداد‏.‏

وقوله ‏{‏أخرج منها ماءها ومرعاها‏}‏ دل بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتًا ومتاعًا للأنام من العشب والشجر والحب والثمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح لأن النار من العيدان والملح من الماء‏.‏

وقوله ‏{‏لا يصدعون عنها ولا ينزفون‏}‏ جمع فيه جميع عيوب الخمر من الصداع وعدم العقل وذهاب المال ونفاذ الشراب‏.‏

وقوله ‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك‏}‏ الآية أمر فيها ونهى وأخبر ونادى ونعت وسمى وأهلك وأبقى وأسعد وأشقى وقص من الأنباء ما لوشرح ما ندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام وقد أفردت بلاغة هذه الآية بالتأليف‏.‏

وفي العجائب للكرماني‏:‏ أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية بعد أن فتشوا جميع كلام العرب والعجم فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها وحسن نظمها وجودة معانيها في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال

وقوله تعالى ‏{‏يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم‏}‏ الآية جمع في هذه اللفظة أحد عشر جنسًا من الكلام‏:‏ نادت وكنت ونبهت وسمعت وأمرت وقصت وحذرت وخصت وعمت وأشارت وعذرت‏.‏

فالنداء يا والكناية‏:‏ أيّ والتنبيه ها والتسمية النمل والأمر ادخلوا والقصص مساكنكم والتحذير لا يحطمنكم والتخصيص سليمان والتعميم جنوده والإشارة وهم والعذر لا يشعرون فأدت خمس حقوق‏:‏ حق الله وحق رسوله وحقها وحق رعيتها وحق جنود سليمان‏.‏

وقوله ‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد‏}‏ الآية جمع فيها أصول الكلام‏:‏ النداء والعموم والخصوص والأمر والإباحة والنهي والخبر‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ جمع الله الحكمة في شطر آية كلوا واشربوا ولا تسرفوا وقوله تعالى ‏{‏وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه‏}‏ الآية قال ابن العربي‏:‏ هي من أعظم آي في القرآن فصاحة إذ فيها أمران ونهيان وخبران وبشارتان‏.‏

وقوله ‏{‏فاصدع بما تؤمر قال ابن أبي الأصبع‏:‏ المعنى صرح بجميع ما أوحى إليك وبلغ كل ما أمرت ببيانه وإن شق بعض ذلك على بعض القلوب فانصدعت والمشابة بينهما فيما يؤثره التصريح في القلوب فيظهر أثر ذلك على ظاهر الوجوه من القبض والانبساط ويلوح عليها من علامات الإنكار والاستبشار كما يظهر على ظاهر الزجاجة المصدوعة فانظر إلى جليل هذه الاستعارة وعظم إيجازها وما انطوت عليه من المعاني الكثيرة‏.‏

وقد حكى أن بعض الأعراب لما سمع هذه الآية سجد وقال‏:‏ سجدت لفصاحة هذا الكلام أه‏.‏

وقوله تعالى وفيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين قال بعضهم‏:‏ جمع بهاتين اللفظتين ما لواجتمع الخلق كلهم على وصف ما فيها على التفصيل لم يخرجوا عنه

وقوله تعالى ‏{‏ولكم في القصاص حياة‏}‏ فإن معناه كثير ولفظه قليل لأن معناه أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعيًا إلى أن لا يقدم على القتل فارتفع بالقتل الذي هو القصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض وكان ارتفاع القتل حياة لهم‏.‏

وقد فضلت هذه الجملة على أوجز ما كان عند العرب في هذا المعنى وهوقولهم‏:‏ القتل أنفى للقتل بعشرين وجهًا أوأكثر‏.‏

وقد أشار ابن الأثير إلى إنكار هذا التفضيل وقال‏:‏ لا تشبيه بين كلام الخالق وكلام المخلوق وإنما العلماء يقدحون أذهانهم فيما يظهر لهم من ذلك‏.‏

الأول‏:‏ أن ما يناظره من كلامهم وهوقولهم القصاص حياة أقل حروفًا فإن حروفه عشرة وحروف القتل أنفى للقتل أربعة عشر‏.‏

الثاني‏:‏ أن نفي القتل لا يستلزم الحياة والآية ناصة على ثبوت التي هي الغرض المطلوب منه‏.‏

الثالث‏:‏ أن تنكير حياة يفيد تعظيمًا فيدل على أن في القصاص حياة متطاولة كقوله تعالى ‏{‏ولتجدنهم أحرص الناس على حياة‏}‏ ولا كذلك المثل فإن اللام فيها للجنس ولذا فسروا الحياة فيها بالبقاء‏.‏

الرابع‏:‏ أ الآية فيها مطردة بخلاف المثل فإنه ليس كل قتل أنفى للقتل بل قد يكون أدعى له وهوالقتل ظلمًا وإنما ينفيه قتل خاص وهوالقصاص ففيه حياة أبدًا‏.‏

الخامس‏:‏ أن الآية خالية من تكرار لفظ القتل الواقع في المثل والخالي من التكرار أفضل من المشتمل عليه وإن لم يكن مخلًا بالفصاحة‏.‏

السادس‏:‏ أن الآية مستغنية عن تقدير محذوف بخلاف قولهم فإن فيه حذف من التي بعد أفعل التفضيل وما بعدها وحذف قصاصًا مع القتل الأول وظلمًا مع القتل الثاني والتقدير‏:‏ القتل قصاصًا أنفى للقتل ظلمًا من تركه‏.‏

السابع‏:‏ أن في الآية طباقًا لأن القصاص يشعر بضد الحياة بخلاف المثل‏.‏

الثامن‏:‏ أن الآية اشتملت على فن بديع وهوجعل أحد الضدين الذي هو الفناء والموت محلًا ومكانًا لضده الذي هو الحياة واستقرار الحياة في الموت مبالغة عظيمة ذكره في الكشاف وعبر عنه صاحب الإيضاح بأنه جعل القصاص كالمنبع للحياة والمعدن لها بإدخال في عليه‏.‏

التاسع‏:‏ أن في المثل توالي أسباب كثيرة خفيفة وهوالسكون بعد الحركة وذلك مستكره فإن اللفظ المنطوق به إذا توالت حركاته تمكن اللسان من النطق به وظهرت بذلك فصاحته بخلاف ما إذا تعقب كل حركة سكون فالحركات تنقطع بالسكنات نظيره إذا تحركت الدابة أدنى حركة فحبست ثم تحركت فحبست لا تطيق إطلاقها ولا تتمكن من حركتها على ما تختاره فهي كالمقيدة‏.‏

العاشر‏:‏ أن المثل كالتناقض من حيث الظاهر لأن الشيء لا ينفي نفسه‏.‏

الحادي عشر‏:‏ سلامة الآية من تكرير قلقلة القاف الموجب للضغط والشدة وبعدها عن غنة النون‏.‏

الثاني عشر‏:‏ اشتمالها على حروف متلائمة لما فيها من الخروج من القاف إلى الصاد إذا القاف من حروف الاستعلاء والصاد من حروف الاستعلاء والإطباق بخلاف الخروج من القاف إلى التاء التي هي حرف منخفض فهوغير ملائم للقاف وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أحسن من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد ما دون طرف اللسان وأقصى الحلق‏.‏

الثالث عشر‏:‏ في النطق بالصاد والحاء والتاء حسن الصوت ولا كذلك تكرير القاف والتاء‏.‏

الرابع عشر‏:‏ سلامتها من لفظ القتل المشعر بالوحشة بخلاف لفظ الحياة فإن الطباع أقبل له من لفظ القتل‏.‏الخامس عشر‏:‏ أن لفظ القصاص مشعر بالمساواة فهومنبئ عن العدل بخلاف مطلق القتل‏.‏

السادس عشر‏:‏ الآية مبنية على الإثبات والمثل على النفي والإثبات أشرف لأنه أول والنفي ثان عنه‏.‏

السابع عشر‏:‏ أن المثل لا يكاد يفهم إلا بعد فهم أن القصاص هو الحياة‏.‏

وقوله ‏{‏في القصاص حياة مفهوم من أول وهلة‏.‏

الثامن عشر‏:‏ أن في المثل بناء أفعل التفضيل من فعل متعد والآية سالمة منه‏.‏

التاسع عشر أن أفعل في الغالب يقتضي الاشتراك فيكون ترك القصاص نافيًا للقتل ولكن القصاص أكثر نفيًا وليس الأمر كذلك والآية سالمة من ذلك‏.‏

العشرون‏:‏ إن الآية رادعة عن القتل والجرح معًا لشمول القصاص لهما والحياة أيضًا في قصاص الأعضاء لأن قطع العضوينقص أوينغص مصلحة الحياة وقد يسري إلى النفس فيزيلها ولا كذلك المثل في أول الآية ولكم وفيها لطيفة وهي بيان العناية بالمؤمنين على الخصوص وأنهم المراد حياتهم لا غيرهم لتخصيصهم بالمعنى مع وجود فيمن سواهم‏.‏

تنبيهات‏.‏

الأول ذكر قدامة من أنواع البديع الإشارة وفسرها بالإتيان بكلام قليل ذي معان جمة‏.‏

وهذا هوإيجاز القصر بعينه لكن فرق بينهما ابن أبي الأصبع بأن الإيجاز دلالته مطابقة ودلالة الإشارة إما تضمن أوالتزام فعلم منه أن المراد بها ما تقدم في مبحث المنطوق‏.‏

الثاني‏:‏ ذكر القاضي أبو بكر في إعجاز القرآن أن من الإيجاز نوعًا يسمى التضمين وهوحصول معنى في لفظ من غير ذكر له باسم هي عبارة عنه‏.‏

قال‏:‏ وهونوعان‏.‏

أحدهما‏:‏ ما يفهم من البينة كقوله معلوم فإنه يوجب أنه لا بد من عالم‏.‏

والثاني‏:‏ من معنى العبارة كبسم الله الرحمن الرحيم فإنه تضمن تعليم الاستفتاح في الأمور باسمه هلى جهة التعظيم لله تعالى والتبرك باسمه‏.‏

الثالث‏:‏ ذكر ابن الأثير وصاحب عروس الأفراح وغيرهما من أنواع إيجاز القصر باب الحصر سواء كان بإلا أوبإنما أوغيرها من أدواته لأن الملة فيها نابت مناب جملتين وباب العطف لأن حرفه وضع للإعناء عن إعادة العامل وباب النائب عن الفاعل لأنه دل على الفاعل بإعطائه حكمه وعلى المفعول بوسعه وباب الضمير لأنه وضع الاستغناء به عن الظاهر اختصارًا ولذا لا يعدل إلى المنفصل مع إمكان المتصل وباب علمت أنك قائم لأنه محتمل لاسم واحد سد مسد لمفعولين من غير حذف ومنها باب التنازع إذا لم نقدر على رأي الفراء ومنها طرح المفعول اقتصارًا على جعل المتعدي كاللازم وسيأتي تحريره ومنها جمع أدوات الاستفهام والشرط فإن كم مالك يغني عن قولك أهوعشرون أم ثلاثون وهكذا إلى ما لا يتناهى ومنها الألفاظ اللازمة للعموم كأحد ومنها لفظ التثنية والجمع فإنه يغني عن تكرير المفرد وأقيم الحرف فيهما مقامه اختصارًا‏.‏ومما يصلح أن يعد من أنواعه المسمى بالاتساع من أنواع البديع وهوأن يأتي بكلام يتسع فيه التأويل بحسب ما يحتمله ألفاظه من المعاني كفواتح السور وذكرها بن أبي الأصبع‏.‏

القسم الثاني من قسمي الإيجاز‏:‏ إيجاز الحذف وفيه فوائد ذكر أسبابه‏:‏ منها مجرد الاختصار والاحتراز عن العبث لظهوره‏.‏

ومنها التنبيه على أن الزمان يتقاصر عن الإتيان بالمحذوف وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم وهذه هي فائدة باب التحذير والإغراء وقد اجتمعتا في قوله تعالى ناقة الله وسقياها فناقة الله تحذير بتقدير ذروا وسقياها إغراء بتقدير ألزموا‏.‏

ومنها التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام‏.‏

قال حازم في منهاج البلغاء‏:‏ إنما يحسن الحذف لقوة الدلالة عليه أويقصد به تعديد أشياء فيكون في تعدادها طول وسآمة فيحذف ويكتفى بدلالة الحال وتترك النفس تجول في الأشياء المكتفى بالحال عن ذكرها‏.‏

قال‏:‏ ولهذا القصد يؤثر في المواضع التي يراد بها التعجب والتهويل على النفوس ومنه قوله في وصف أهل الجنة ‏{‏حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها‏}‏ فحذف الجواب إذا كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى فجعل الحذف دليلًا على صدق الكلام عن وصف ما يشاهدونه وتركت النفوس تقدر ما شاءته ولا تبلغ مع ذلك كنه ما هنالك وكذا قوله ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار‏}‏ أي لرأيت أمرًا فظيعًا لا تكاد تحيط به العبارة‏.‏

ومنها‏:‏ التخفيف لكثرة دورانه في الكلام كما في حذف حرف النداء نحو ‏{‏يوسف أعرض‏}‏ ونزن ولم يكن والجمع السالم ونمه قراءة ‏{‏والمقيمي الصلاة‏}‏ وياء ‏{‏والليل إذا يسر‏}‏ وسأل المورج السدوسي الأخفش عن هذه الآية فقال‏:‏ عادة العرب أنها إذا عدلت بالشيء عن معناه نقصت حروفه والليل لما كان لا يسري وإنما يسري فيه نقص منه حرف كما قال تعالى ‏{‏وما كانت أمك بغيًا‏}‏ الأصل بغية فلما حول فاعل عن نقص منه حرف‏.‏

ومنها‏:‏ كونه لا يصلح إلا له نحو ‏{‏عالم الغيب والشهادة‏}‏ ‏{‏فعال لما يريد‏}‏ ومنها‏:‏ شهرته حتى يكون ذكره وعدمه سواء‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ هونوع من دلالة الحال التي لسانها أنطق من لسان المقال وحمل عليه قراءة حمزة تساءلون به والأرحام لأن هذا مكان شهر بتكرر الجار فقامت الشهرة مقام الذكر‏.‏

ومنها‏:‏ صيانته عن ذكره تشريفًا كقوله تعالى ‏{‏قال فرعون وما رب العالمين قال رب السموات‏}‏ الآيات حذف فيها المبتدأ في ثلاثة مواضع قبل ذكر الرب‏:‏ أي هورب والله ربكم و الله رب المشرق لأن موسى استعظم حال فرعون وإقدامه على السؤال فأضمر اسم الله تعظيمًا وتفخيمًا ومثله في عروس الأفراح بقوله تعالى رب أرني أنظر إليك أي ذاتك‏.‏

ومنها‏:‏ صيانة اللسان عنه تحقيرًا له نحو صم بكم أي هم أوالمنافقون‏.‏

ومنها‏:‏ قصد العموم نحو وإياك نستعين أي على العبادة وعلى أمورنا كلها والله يدعوإلى دار السلام أي كل واحد‏.‏

ومنها‏:‏ رعاية الفاصلة نحو ‏{‏ما ودعك ربك وما قلى‏}‏ أي وما قلاك‏.‏

ومنها‏:‏ قصد البيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة نحو ‏{‏فلو شاء لهداكم‏}‏ أي فلوشاء هدايتكم فإنه إذا سمع السامع فلوشاء تعلقت نفسه بما شاء أنبهم عليه لا يدري ما هو فلما ذكر الجواب استبان بعد ذلك وأكثر ما يقع ذلك بعد أداة شرط لأن مفعول المشيئة مذكور في جوابها وقد يكون مع غيرها استدلالًا بغير الجواب نحو ‏{‏ولا يحيطون بشيء من عمله إلا بما شاء‏}‏ وقد ذكر أهل البيان أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكر إلا إذا كان غريبًا أوعظيمًا نحو ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم‏}‏ ‏{‏لو أردنا أن نتخذ لهوًا‏}‏ وإنما أطرد أوكثر حذف مفعول المشيئة دون سائر الأفعال لأنه يلزم من وجود المشيئة وجود المشاء فالمشيئة المستلزمة لمضمون الجواب لا يمكن أن تكون إلا مشيئة الجواب ولذلك كانت الإرادة مثلها في أطرد حذف مفعولها ذكره الزملكاني والتنوخي في الأقصى القريب‏.‏

قالوا‏:‏ وإذا حذف بعد لوفهوالمذكور في جوابها أبدًا‏.‏

وأورد في عروس الأفراح ‏{‏وقالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة‏}‏ فإن المعنى‏:‏ لوشاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة لأن المعنى معين على ذلك‏.‏

فائدة قال الشيخ عبد القاهر‏:‏ ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها إلا وحذفه أحسن من ذكره وسمي ابن جني الحذف شجاعة العربية لأنه يشجع على الكلام‏.‏

قاعدة في حذف المفعول اختصارًا واقتصارًا‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ جرت عادة النحويين أن يقولوا بحذف المفعول اختصارًا واقتصارًا‏.‏

ويريدون بالاختصار الحذف لدليل ويريدون بالاقتصار الحذف لغير دليل ويمثلونه بنحو كلوا واشربوا أي أوقعوا هذين الفعلين والتحقيق ا يقال‏:‏ يعني كما قال أهل البيان‏:‏ تارة يتعلق الغرض بالإعلام بمجرد وقوع الفعل من غير تعيين من أوقعه ومن أوقع عليه فيجاء بمصدره مسندًا إلى فعل كون عام فيقال حصل حريق أونهب وتارة يتعلق بالإعلام بمجرد إيقاع الفعل للفاعل فيقتصر عليهما ولا يذكر المفعول ولا ينوي إذ المنوي كالثابت ولا يسمى محذوفًا لأن الفعل ينزل لهذا القصد منزلة مالا مفعول له ومنه ‏{‏ربي الذي يحيي ويميت‏}‏ ‏{‏هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون‏}‏ ‏{‏كلوا واشربوا ولا تسرفوا‏}‏ ‏{‏وإذا رأيت ثم‏}‏ إذ المعنى‏:‏ ربي الذي يفعل الإحياء والإماتة وهل يستوي من يتصف بالعلم ومن ينتفي عنه العلم وأوقعوا الأكل والشرب وذروا الإسراف ز إذا حصلت منك رؤية ومنه ‏{‏ولما ورد ماء مدين‏}‏ الآية ألا ترى أن عليه الصلاة والسلام رحمهما إذ كانتا على صفة الذيان وقومهما على السقي لا لكون مذودهما غنمًا وسقيهم إبلًا وكذلك المقصود من لا نسقي السقي لا المسقي ومن لم يتأمل قدر يسقون إبلهم وتذودان غنمهما ولا نسقي غنمًا وتارة يتصد إسناد الفعل إلى فاعله وتعليقه بمفعوله فيذكران نحو ‏{‏لا تأكلوا الربا‏}‏ ‏{‏ولا تقربوا الزنا‏}‏ وهذا النوع الذي إذا لم يذكر محذوفه قيل محذوف وقد يكون اللفظ ما يستدعيه فيحصل الجزم بوجوب تقديره نحو ‏{‏أهذا الذي بعث الله رسولًا‏}‏ ‏{‏وكل وعد الله الحسنى‏}‏ وقد يشتبه الحال في الحذف وعدمه نحو ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ قد يتوهم أن معناه نادوا فلا حذف أوسموا فالحذف واقع‏.‏

ذكر شروطه‏:‏ هي ثمانية‏.‏

أحدها‏:‏ وجود دليل إما حالي نحو ‏{‏قالوا سلامًا‏}‏ أي سلمنا سلامًا أومقالي نحو ‏{‏وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا‏}‏ أي أنزل خيرًا قال سلام قوم منكرون أي سلام عليكم أنتم قوم منكرون‏.‏

ومن الأدلة العقل حيث يستحيل صحة الكلام عقلا إلا بتقدير محذوف ثم تارة يدل على أصل الحذف من غير دلالة على تعيينه بل يستفاد التعيين من دليل آخر نحو حرمت عليكم الميتة فإن العقل يدل على أنها ليست المحرمة لأن التحريم لا يضاف إلى الإجرام وإنما هووالحل يضافان إلى الأفعال فعلم العقل حذف شيء‏.‏

وأما تعيينه وهوالتناول فمستفاد من الشرع وهوقوله صلى الله عليه وسلم إنما حرم أكلها لأن العقل لا يدرك محل الحل ولا الحرمة‏.‏

وأما قول صاحب التلخيص أنه من باب دلالة العقل أيضًا فتابع به السكاكي من غير تأمل أنه مبني على أصول المعتزلة‏.‏

وتارة يدل العقل أيضًا على التعيين نحو وجاء ربك أي أمره بمعنى عذابه لأن العقل دل على استحالة مجيء الباري لأنه من سمات الحادث وعلى أن الجاني أمره أوفوا بالعقود ‏{‏وأوفوا بعهد الله‏}‏ أي بمقتضى العقود وبمقتضى عهد الله لأن العقد والعهد قولان قد دخلا في الوجود وانقضيا فلا يتصور فيهما وفاء ولا نقض وإنما الوفاء والنقض بمقتضاهما وما ترتب عليهما من أحكامهما وتارة تدل على التعيين العادة نحو ‏{‏فذلكن الذي لمتنني فيه‏}‏ دل العقل على الحذف لأن يوسف لا يصح ظرفًا للوم ثم يحتمل أن يقدر لمتنني في حبه لقوله ‏{‏قد شغفها حبًا‏}‏ وفي مراودتهما لقوله ‏{‏تراود فتاها‏}‏ والعادة دلت على الثاني لأن الحب المفرط لا يلام صاحبه عليه عادة لأنه ليس اختياريًا بخلاف المراودة للقدرة على دفعها‏.‏

وتارة يدل على التصريح به في موضع آخر وهوأقواها نحو ‏{‏هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله‏}‏ أي أمره بدليل ‏{‏أو يأتي أمر ربك‏}‏{‏وجنة عرضها السموات‏}‏ أي كعرض بدليل التصريح به في آية الحديد ‏{‏رسول من الله‏}‏ أي من عند الله وبدليل ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معه ومن الأدلة على أصل الحذف العادة بأن يكون العقل غير مانع من إجراء اللفظ على ظاهره من غير حذف نحو نعلم قتالًا لا تبعناكم أي مكان قتال والمراد مكانًا صالحًا للقتال وإنما كان كذلك لأنهم كانوا أخير الناس بالقتال ويتعيرون بأن يتفوهوا بأنهم لا يعرفونه فالعادة تمنع أن يريدوا لونعلم حقيقة القتال‏:‏ فلذلك قدره مجاهد مكان قتال ويدل عليه أنهم أشاروا على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج من المدينة ومنها الشروع في الفعل نحوبسم الله فيقدر ما جعلت التسمية مبدأ له فإن كانت عند الشروع في القراءة قدرت اقرأ أوالأكل قدرت آكل وعلى هذا أهل البيان قاطبة خلاف لقول النحاة‏:‏ إنه يقدر ابتدأت أوابتدائي كائن بسم الله ويدل على صحة الأول التصريح به في قوله ‏{‏وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها‏}‏ وفي حديث باسمك ربي وضعت جنبي‏.‏ومنها‏:‏ الصناعة النحوية كقولهم في لا أقسم لأن فعل الحال لا يقسم عليه وفي تالله تفتؤ التقدير‏:‏ لا تفتؤ لأنه لوكان الجواب مثبتًا دخلت اللام والنون كقوله ‏{‏وتالله لأكيدن‏}‏ وقد توجب صناعة التقدير وإن كان المعنى غير متوقف عليه كقولهم في لا إله إلا الله‏:‏ إن الخبر محذوف‏:‏ أي موجود وقد أنكره الإمام فخر الدين وقال‏:‏ هذا كلام لا يحتاج إلى تقدير وتقدير النحاة فاسد لأن نفي الحقيقة مطلقة أعم من نفيها مقيدة فإنها إذا انتفت مطلقة كان ذلك دليلًا على سلب الماهية مع القيد وإذا انتفت مقيدة بقيد مخصوص لم يلزم نفيها مع قيد آخر‏.‏

ورد بأن تقديرهم موجود ويستلزم نفي كل إله غير الله قطعًا فإن العدم لا كلام فيه فهوفي الحقيقة نفي للحقيقة مطلقة لا مقيدة ثم لا بد من تقدير خبر لاستحالة مبتدأ بلا خبر ظاهر أومقدر وإنما يقدر النحوي ليعطي القواعد حقها وإن كان المعنى مفهومًا‏.‏

تنبيه قال ابن هشام‏:‏ إنما يشترط الدليل فيما إذا كان المحذوف الجملة بأسرها أوأحد ركنيها أويفيا معنى فيها هي مبنية عليه نحو ‏{‏تالله تفتؤ‏}‏ أما الفلة فلا يشترط لحذفها وجدان دليل بل يشترط أن لا يكون في حذفها ضرر معنوي أوصناعي‏.‏

قال‏:‏ ويشترط في الدليل اللفظي أن يكون طبق المحذوف‏.‏

ورد قول القراء في ‏{‏أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين‏}‏ أن التقدير‏:‏ بل ليحسبنا قادرين لأن الحسبان المذكور بمعنى الظن والقدر بمعنى العلم لأن التردد في الإعادة كفر فلا يكون مؤمورًا به‏.‏

قال‏:‏ والصواب فيها قول سيبويه‏:‏ إن قادرين حال‏:‏ أي بل نجمعها قادرين إذ فعل الجمع أقرب من فعل الحسبان ولأن بلا لإيجاب المنفى وهوفيها فعل الجمع‏.‏

الشرط الثاني‏:‏ أن لا يكون المحذوف كجزأ ومن ثم لم يحذف الفاعل ولا نائبه ولا اسم كان وأخواتها‏.‏

قال ابن هشام‏:‏ وأما قول بن عطية في بئس مثل القوم‏:‏ إن تقدير بئس المثل مثل القول فإن أراد تفسير الإعراب وأن الفاعل لفظ المثل محذوفًا فمردود وإن أراد تفسير المعنى وأن في بئس ضمير المثل مستترًا فسهل‏.‏

الثالث‏:‏ أن لا يكون مؤكدًا لأن الحذف مناف للتأكيد إذا الحذف مبني على الاختصار والتأكيد مبني على الطول ومن ثم رد الفارسي على الزجاج في قوله في إن هذان لساحران أن التقدير‏:‏ إن هذان لهما ساحران فقال‏:‏ الحذف والتوكيد باللام متنافيان وأما حذف الشيء لدليل وتوكيده فلا تنافي بينهما لأن المحذوف لدليل كالثابت‏.‏

الرابع‏:‏ أن لا يؤدي حذفه إلى اختصار المختصر ومن ثم لم يحذف اسم الفعل لأنه اختصار للفعل‏.‏

الخامس‏:‏ أن لا يكون عاملًا ضعيفًا فلا يحذف الجار والناصب للفعل والجازم إلا في مواضع قويت فيها الدلالة وكثر فيها استعمال تلك العوامل‏.‏

السادس‏:‏ أن لا يكون المحذوف عوضًا عن شيء ومن ثم قال ابن مالك‏:‏ إ حرف النداء ليس عوضًا عن ادعوا لإجازة العرب حذفه ولذا أيضًا لم تحذف التاء من إقامة واستقامة وأما وأقام الصلاة فلا يقاس عليه ولا خبر كان لأنه عوض أوكالعوض من مصدرها‏.‏

السابع‏:‏ أن لا يؤدي حذفه إلى تهيئة العامل القوي ومن ثم لم يقس على قراءة وكلا وعد الله الحسني‏.‏

فائدة اعتبر الأخفش في الحذف التدريج حيث أمكن ولهذا قال في قوله تعالى واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس شيئًا أن الأصل لا تجزي فيه فحذف حرف الجر فصار تجزيه ثم حذف الضمير فصار تجزي وهذه ملاطفة في الصناعة ومذهب سيبويه أنهما حذفا معًا‏.‏

قال ابن جني‏:‏ وقول الأخفش أوفق في النفس وآنس من أن يحذف الحرفان معًا في وقت واحد‏.‏

قاعدة الأصل أن يقدر الشيء في مكانه الأصلي لئلا يخالف الأصل من وجهين‏:‏ الحذف ووضع الشيء في غير محله فيقدر المفسر في نحو‏:‏ زيدًا رأيته مقدمًا عليه وجوز البيانيون تقديره مؤخرًا عنه لإفادة الاختصاص كما قاله النحاة إذا منع منه مانع نحو وأما ثمود فهديناه إذا لا يلي أما فعل‏.‏قاعدة ينبغي تقليل المقدر مهما أمكن لتقل مخالفة الأصل ومن ثم ضعف قول الفارسي في واللائي لم يحضن أن التقدير‏:‏ فعدتهن ثلاثة أشهر والأولى أن يقدر كذلك‏.‏

قال الشيخ عز الدين‏:‏ ولا يقدر من المحذوفات إلا أشدها موافقة للغرض وأفصحها لأن العرب لا يقدرون إلا مالوا لفظوا به لكان أحسن وأنسب لذلك الكلام كما يفعلون ذلك في الملفوظ به نحو ‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس‏}‏ قدر أبوعلي جعل الله نصب الكعبة وقدر غيره حرمة الكعبة وهوأولى لأن تقدير الحرمة في الهدى والقلائد والشهر الحرام لا شك في فصاحته وتقدير النصب فيها بعيد من الفصاحة‏.‏

قال‏:‏ ومهما تردد المحذوف بين الحسن والأحسن وجب تقدير الأحسن لأن الله وصف كتابه بأنه أحسن الحديث فليكن محذوفه أحسن المحذوفات كما أن ملفوظه أحسن الملفوظات‏.‏

قال‏:‏ ومتى تردد بين أن يكون مجملًا أومبينًا فتقدير المبين أحسن ونحو وداود وسليمان إذا يحكمان في الحرث لك أن تقدر في أمر الحرث وفي تضمين الحرث وهوأولى لتعينه والأمر مجمل لتردده بين أنواع‏.‏

قاعدة إذا دار الأمر بين كون المحذوف فعلًا والباقي فاعلًا وكونه مبتدأ والباقي خبرًا فالثاني أولى لأن المبتدأ عين الخبر وحينئذ فالمحذوف عين الثابت فيكون حذفًا كلا حذف فأما الفعل فإنه غير الفاعل اللهم إلا أن يعتضد الأول برواية أخرى في ذلك الموضع أوبموضع آخر يشبهه فالأول كقراءة يسبح له فيها بفتح الباء كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله بفتح الحاء فإن التقدير‏:‏ يسبحه رجال ويوحيه الله ولا يقدران مبتدأن بحذف خبرهما لثبوت فاعلية الاسمين في رواية من بني الفعل للفاعل‏.‏

والثاني نحو ‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله‏}‏ فتقدير خلقهم الله أولى من الله خلقهم لمجيء ‏{‏خلقهن العزيز العليم‏}‏‏.‏

قاعدة إذا دار الأمر بين كون المحذوف أولًا أوثانيًا فكونه ثانيًا أولى ومن ثم رجح أن المحذوف في نحو أتحاجوني نون الوقاية لا نون الرفع وفي نارًا تلظي التاء الثانية لا تاء المضارعة وفي والله ورسوله أحق أن يرضوه أن المحذوف خبر الثاني لا الأول وفي نحو الحج أشهر أن المحذوف مضاف للثاني‏:‏ أي حج أشهر لا الأول‏:‏ أي أشهر الحج وقد يجب كونه من الأول نحو إن الله وملائكته يصلون على النبي في قراءة من رفع ملائكته لاختصاص الخبر بالثاني لوروده بصيغة الجمع وقد يجب كونه من الثاني نحو ‏{‏إن الله بريء من المشركين ورسوله‏}‏ أي بريء أيضًا لتقدم الخبر على الثاني‏.‏

فصل الحذف على أنواع‏.‏

أحدها‏:‏ ما يسمى بالاقتطاع وهوحذف بعض حروف الكلمة وأنكر ابن الأثير ورود هذا النوع في القرآن ورد بأن بعضهم جعل منه فواتح السور على القول بأن كل حرف منها من اسم من أسمائه كما تقدم وادعى بعضهم أن الباء في ‏{‏وامسحوا برؤوسكم‏}‏ أولكلمة بعض ثم حذف الباقي ومنه قراءة بعضه ونادوا يا مال بالترخيم ولما سمعها بعض السلف قال‏:‏ ‏{‏ما أغنى أهل النار‏}‏ عن الترخيم‏.‏

وأجاب بعضهم بأنهم لشدة ما هم فيه عجزوا عن إتمام الكلمة ويدخل في هذا النوع حذف همزة إنا في قوله ‏{‏لكنا هو الله ربي‏}‏ إذا الأصل لكن أنا حذفت همزة أنا تخفيفًا وأدغمت النون في النون ومثله ما قرئ ويمسك السماء أن تقع على الأرض بما أنزل إليك فمن تعجل في يومين فلثم عليه إنه لحدي الكبر‏.‏

النوع الثاني‏:‏ ما يسمى بالاتفاق وهوأن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفي بأحدهما عن الآخر لنكتة ويختص غالبًا بالارتباط العطفي كقوله ‏{‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏ أي والبرد وخص الحر بالذكر لأن الخطاب للعرب وبالدهم حارة والوقاية عندهم من الحر أهم لأنه أشد عندهم من البرد‏.‏

وقيل لأن البرد تقدم ذكر الامتنان بوقايته صريحًا في قوله ‏{‏ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها وفي قوله ‏{‏وجعل لكم من الجبال أكنانًا‏}‏ وفي قوله تعالى ‏{‏والأنعام خلقها لكم فيها دفء‏}‏ ومن أمثلته هذا النوع بيدك الخير أي والشر وإنما خص الخير بالذكر لأنه مطلوب العباد ومرغوبه أولأنه أكثر وجودًا في العالم أولأن إضافة الشر إلى الله تعالى ليس من باب الآداب كما قال صلى الله عليه وسلم والشر ليس إليك ومنها وله ما سكن في الليل والنهار أووما تحرى وخص السكون بالذكر لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد ولأن كل متحرك يصير إلى السكون‏.‏

ومنها ‏{‏والذين يؤمنون بالغيب‏}‏ أي والشهادة لأن الإيمان بكل منهما واجب وآثر الغيب لأنه أمدح ولأنه يستلزم الإيمان بالشهادة من غير عكس‏.‏

ومنها ورب المشارق أي والمغارب‏.‏

ومنها ‏{‏هدى للمتقين‏}‏ أي وللكافرين قاله ابن الأنباري ويؤيده في قوله ‏{‏هدى للناس‏.‏

ومنها ‏{‏إن امرؤ هلك ليس له ولد‏}‏ أي ولا والد بدليل أنه أوجب للأخت النصف وإنما يكون ذلك مع فقد الأب لأنه يسقطها‏.‏

النوع الثالث‏:‏ ما يسمى بالاحتباك وهومن ألطف الأنواع وأبدعها وقل من تنبه له أونبه عليه من أهل فن البلاغة ولم أره إلا في شرح بديعية الأعمى لرفيقه الأندلسي وذكره الزركشي في البرهان ولم يسمه هذا الاسم بل سماه الحذف المقابلي وأفرده في التصنيف من أهل العصر العلامة برهان الدين البقاعي‏.‏

قال الأندلسي في شرح البديعية‏:‏ من أنواع البديع الاحتباك وهونوع عزيز وهوأ يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول كقوله تعالى ‏{‏ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق‏}‏ الآية التقدير‏:‏ ومثل الأنبياء والكفار كمثل الذي ينعق والذي ينعق به فحذف من الأول الأنبياء لدلالة الذي ينعق عليه ومن الثاني الذي ينعق به لدلالة الذين كفروا عليه‏.‏وقوله ‏{‏وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء‏}‏ التقدير تدخل غير بيضاء وأخرجها تخرج بيضاء فحذف من الأول تدخل غير بيضاء ومن الثاني وأخرجها‏.‏

وقال الزركشي‏:‏ وهوأن يجتمع في الكلام متقابلان فيحذف من كل واحد منهما مقابله لدلالة الآخر عليه كقوله تعالى أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلى إجرامي وأنا بريء مما تجرمون التقدير‏:‏ إن افتريته فعلى إجرامي وأنتم برآء منه وعليكم إجرامكم وأنا بريء مما تجرمون‏.‏وقوله ‏{‏ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم‏}‏ فلا يعذبهم‏.‏

وقوله ‏{‏فلا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏‏.‏

{‏فإذا تطهرن فأتوهن‏}‏ أي حتى يطهرن من الدم ويتطهرن بالماء فإذا طهرن وتطهرن فأتوهن‏.‏

وقوله ‏{‏خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا‏}‏ أي عملًا صالحًا بسيء وآخر سيئًا بصالح‏.‏

قلت‏:‏ ومن لطيفه قوله ‏{‏فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة‏}‏ أي فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت‏.‏

وفي الغرائب للكرماني‏:‏ في الآية الأولى التقدير‏:‏ مثل الذين كفروا معك يا محمد كمثل الناعق مع الغنم فحذف من كل طرف ما يدل عليه الطرف الآخر وله في القرآن نظائر وهوأبلغ ما يكون من الكلام انتهى‏.‏

ومأخذ هذه التسمية من الحبك الذي معناه الشد والإحكام وتحسين أثر الصنعة في الثوب فحبك الثوب‏:‏ سد ما بين خيوطه من الفرج وشده وإحكامه بحيث يمنع عنه الخلل مع الحسن والرونق‏.‏

وبيان أخذه منه أن مواضع الحذف من الكلام شبهت بالفرج بين الخيوط فلما أدركها الناقد البصير بصوغه الماهر في نظمه وحوكه فوضع المحذوف مواضعه كان حائكًا له مانعًا من خلل يطرقه فسد بتقديره ما يحصل به الخلل مع ما أكسبه من الحسن والرونق‏.‏

النوع الرابع‏:‏ ما يسمى بالاختزال وهوما ليس واحدًا مما سبق وهوأقسام لأن المحذوف إما كلمة اسم أوفعل أوحرف أوأكثر‏.‏

أمثلة حذف الاسم‏:‏ حذف المضاف وهوكثير في القرآن جدًا حتى قال ابن جني‏:‏ في القرآن منه زهاء ألف موضع وقد سردها الشيخ عز الدين في كتابه المجاز على ترتيب السور والآيات ومنه الحج أشهر أي حج أشهرًا أوأشهر الحج ولكن البر من آمن أي ذا البر أوبر من ‏{‏حرمت عليكم أمهاتكم‏}‏ أي نكاح أمهاتكم ‏{‏لاذقناكم ضعف الحياة وضعف الممات‏}‏ أي ضعف عذاب وفي الرقاب أي وفي تحرير الرقاب‏.‏

وحذف المضاف إليه يكثر من ياء المتكلم نحو ‏{‏رب اغفر لي‏}‏ وفي الغايات نحو لله الأمر من قبل ومن بعد أي من قبل الغلب ومن بعده‏.‏

وفي كل وأي وبعض وجاء في غيرهن كقراءة فلا خوف عليهم بضم بلا تنوين‏:‏ أي فلا خوف شيء عليهم حذف المبتدأ يكثر في جواب الاستفهام نحو وما أدراك ماهية نار أي هي نار‏.‏وبعد فاء الجواب نحو ‏{‏من عمل صالحًا فلنفسه‏}‏ أي فعمله لنفسه ‏{‏ومن أساء فعليها‏}‏ أي فإساءته عليها‏.‏

وبعد القول نحو ‏{‏وقالوا أساطير الأولين‏}‏ قالوا أضغاث أحلام وبعدما الخبر صفة له في المعنى نحو ‏{‏التائبون العابدون‏}‏ ونحو ‏{‏صم بكم عمي‏}‏ ووقع في غير ذلك نحو ‏{‏لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل‏}‏ ‏{‏لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ‏}‏ أي هذا سورة أنزلناها أي هذه‏.‏

ووجب في النعت المقطوع إلى الرفع حذف الخبر أكلها دائم وظلها أي دائم ويحتمل الأمرين فصبر جميل أي أجمل أوفأمري صبر ‏{‏فتحرير رقبة‏}‏ أي عليه‏.‏

أوقال واجب حذف الموصوف ‏{‏وعندهم قاصرات الطرف‏}‏ أي حور قاصرات أن اعمل سابغات أي دروعًا سابغات أيها المؤمنون أي القوم المؤمنون‏.‏

حذف الصفة يأخذ كل سفينة أي صالحة بدليل أنه قرئ كذلك وأن تعييبها لا يخرجها عن كونها سفينة الآن جئت بالحق أي الواضح وإلا لكفروا بمفهوم ذلك فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا أي نافعًا‏.‏

حذف المعطوف عليه ‏{‏أن اضرب بعصاك البحر فانفلق‏}‏ أي فضرب فانفلق‏.‏

وحيث دخلت واوالعطف على لام التعليل ففي تخريجه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون تعليلًا معلله محذوف كقوله ‏{‏وليبلي المؤمنين منه بلاءً حسنًا‏}‏ فالمعنى‏:‏ وللإحسان إلى المؤمنين فعل ذلك‏.‏والثاني‏:‏ أنه معطوف على علة أخرى مضمرة لتظهر صحة العطف‏:‏ أي فعل ذلك ليذيق الكافرين بئسه وليبلي حذف المعطوف مع العاطف ‏{‏لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح‏}‏ وقاتل أي ومن أنفق بعده بيدك الخير أي والشر‏.‏

حذف المبدل منه خرج عليه ‏{‏ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب‏}‏ أي لما تصفه والكذب بدل من الهاء حذف الفاعل لا يجوز إلا في فاعل المصدر نحو لا يسأم الإنسان من دعاء الخير أي دعائه الخير وجوزه الكسائي مطلقًا لدليل وخرج عليه إذا بلغت التراقي أي الروح حتى توارت بالحجاب أي الشمس‏.‏

حذف المفعول تقدم أنه كثير في مفعول المشيئة والإرادة ويرد في غيرهما نحو إن الذين اتخذوا العجل أي إلهًا كلا سوف تعلمون أي عاقبة أمركم‏.‏حذف الحال يكثر إذا كان قولًا نحو ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام‏}‏ أي قائلين‏.‏

حذف المنادى ألا يا اسجدوا أي يا هؤلاء ليت أي يا قوم‏.‏

حذف العائد يقع على أربعة أبواب الصلة نحو أهذا الذي بعث الله رسولًا أي بعثه‏.‏

والصفة نحو ‏{‏واتقوا يومًا لا تجزي نفس عن نفس‏}‏ أي فيه‏.‏

والخبر نحو ‏{‏وكلا وعد الله الحسنى‏}‏ أي وعده‏.‏

والحال حذف مخصوص نعم إنا وجدناه صابرًا نعم العبد أي أيوب فقدرنا فنعم القادرون أي نحن ‏{‏ولنعم دار المتقين‏}‏ أي الجنة‏.‏حذف الموصول ‏{‏آمنًا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم‏}‏ أي والذي أنزل إليكم لأن الذي أنزل إلينا ليس هو الذي أنزل إلى من قبلنا ولهذا أعيدت ما في قوله ‏{‏قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم أمثلة‏.‏ حذف الفعل يطرد إذا كان مفسرًا نحو ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك‏}‏ ‏{‏إذا السماء انشقت‏}‏ ‏{‏قل لو أنتم تملكون‏}‏ ويكثر في جواب الاستفهام نحو ‏{‏وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا‏}‏ أي أنزل وأكثر منه‏.‏

حذف القول نحو ‏{‏وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا‏}‏ أي يقولان ربنا‏.‏قال أبوعلي‏:‏ حذف القول من حديث البحر قل ولا حرج ويأتي من غير ذلك نحو انتهوا خيرًا لكم أي وائتوا ‏{‏والذين تبوءوا الدار والإيمان‏}‏ أي وألفوا الإيمان أواعتقدوا ‏{‏اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ أي وليسكن زوجك ‏{‏وامرأته حمالة الحطب‏}‏ أي أذم ‏{‏والمقيمين الصلاة‏}‏ أي امدح ولكن رسول الله أي كان وأن كل لما أي يوفوا أعمالهم أمثلة حذف الحرف‏.‏

قال ابن جني في المحتسب‏:‏ أخبرنا أبوعلي قال‏:‏ قال أبو بكر حذف الحرف ليس بقياس لأن الحروف إنما دخلت الكلام لضرب من الاختصار فلوذهبت تحذفها لكنت مختصرًا لها هي أيضًا واختصار المختصر إجحاف به حذف همزة الاستفهام‏.‏

قرأ بن محيصن ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم‏}‏ وخرج عليه هذا ربي في المواضع الثلاثة وتلك نعمة تمنها أي أوتلك‏.‏

حذف الموصول الحرفي‏.‏

قال ابن مالك‏:‏ لا يجوز إلا في أن نحو ‏{‏ومن آياته يريكم البرق‏}‏ حذف الجار يطرد مع أن وأنّ نحويمنون عليك أن أسلموا بل الله يمن عليكم أن هداكم أطمع أن يغفر لي أيعدكم أنكم أي بأنكم وجاء مع غيرهما نحو قدرناه منازل أي قدرناه له ويبغونها عوجًا أي لها يخوف أولياءه أ يخوفكم بأولياءه واختار موسى قومه أي من قومه ‏{‏ولا تعزموا عقدة النكاح‏}‏ أي على عقدة النكاح حذف العاطف خرج عليه الفارسي ‏{‏ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا‏}‏ أي وقلت ‏{‏وجوه يومئذ ناعمة‏}‏ أي ووجوه عطفًا على وجوه يومئذ خاشعة حذف فاء الجواب خرج عليه الأخفش إن ترك خيرًا الوصية للوالدين حذف حرف النداء كثير ‏{‏هاأنتم أولاء‏}‏ يوسف أعرض قال رب إني وهن العظم مني فاطر السموات والأرض وفي العجائب للكرماني‏:‏ كثر حذف يا في القرآن من الرب تنزيهًا وتعظيمًا لأن في النداء طرفًا من الأمر‏.‏

حذف قد في الماضي إذ وقع حالًا نحو أوجاءوكم حصرت صدورهم أنؤمن لك واتبعك الأرذلون‏.‏حذف لا لانافية يطرد في جواب القسم إذا كان المنفي مضارعًا نحو تا لله تفتؤا وورد في غيره نحو ‏{‏وعلى الذين يطيقونه فدية‏}‏ أي لا يطيقونه وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم أي لئلا تميد‏.‏

حذف لام التوطئة وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن وإن أطعتموهم إنكم لمشركون حذف لام الأمر خرج عليه قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا أي ليقيموا‏.‏

حذف لام لقد يحسن مع طول الكلام نحو ‏{‏قد أفلح من زكاها‏}‏ حذف نون التوكيد خرج عليه قراءة ألم نشرح بالنصب‏.‏

حذف نون الجمع خرج عليه قراءة وما هم بضاري به من أحد حذف التنوين خرج عليه قراءة ‏{‏قل هو الله أحد الله الصمد‏}‏{‏ولا الليل سابق النهار‏}‏ بالنصب‏.‏

حذف حركة الإعراب والبناء خرج عليه قراءة فتوبوا إلى بارئكم ويأمركم وبعولتهن أحق بسكون الثلاثة وكذا أويعفوالذي بيده عقدة النكاح فأواري سوءة أخي ما بقي من الربا أمثلة‏.‏

حذف أكثر من كلمة حذف مضافين فإنها من تقوى القلوب أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فقبضت قبضة من أثر الرسول أي من أثر حافر فرس الرسول ‏{‏تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت‏}‏ أي كدوران عين الذي وتجعلون رزقكم أي بدل شكر رزقكم حذف ثلاثة متضايقات فكان قاب قوسين أي فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب‏.‏حذف ثلاثة 7 من اسم كان وواحد من خبرها‏.‏

حذف مفعولي باب ظن ‏{‏أين شركائي الذين كنتم تزعمون‏}‏ أي تزعمونهم شركائي‏.‏

حذف الجار مع المجرور ‏{‏خلطوا عملًا صالحًا‏}‏ أي بسيء وآخر سيئًا أي بصالح‏.‏

حذف العاطف مع المعطوف تقدم‏.‏

حذف حرف الشرط وفعله يطرد بعد الطلب نحو فاتبعوني يحببكم الله أي إن اتبعتموني ‏{‏قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة‏}‏ أي إن قلت لهم يقيموا وجعل منه الزمخشري ‏{‏فلن يخلف الله عهده‏}‏ أي إن اتخذتم عند الله عهدًا فلن يخلف الله وجعل منه أبوحيان ‏{‏فلم تقتلون أنبياء الله من قبل‏}‏ أي إن كنتم آمنتم بما أنزل إليكم فلم تقتلون‏.‏

حذف جواب الشرط فإن استطعت ا ‏{‏تبتغي نفقًا في الأرض أو سلمًا في السماء‏}‏ أي فافعل وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون أي أعرضوا بدليل ما بعده أئن ذكرتم أي تطيرتم ‏{‏ولو جئنا بمثله مددًا‏}‏ أي لنفذ ‏{‏ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم‏}‏ أي لرأيت أمرًا فظيعًا ‏{‏ولو لا فضل الله عليكم ورحمته‏}‏ ‏{‏وإن الله رءوف رحيم‏}‏ أي لعذبكم ‏{‏لولا أن ربطنا على قلبها‏}‏ أي لأبدت به ‏{‏لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم‏}‏ أي لسلطكم على أهل مكة‏.‏

حذف جملة القسم ‏{‏لأعذبنه عذابًا شديدًا‏}‏ أي والله‏.‏

حذف جوابه ‏{‏والنازعات غرقًا‏}‏ الآيات‏:‏ أي لتبعثن ‏{‏ص والقرآن ذي الذكر‏}‏ أي إنه لمعجز ‏{‏ق والقرآن المجيد‏}‏ أي ما الأمر كما زعموا‏.‏

حذف جملة مسببة عن المذكور نحو ‏{‏ليحق الحق ويبطل الباطل‏}‏ أي فعل ما فعل

حذف جمل كثيرة نحو ‏{‏فأرسلون يوسف أيها الصديق‏}‏ أي فأرسلون إلى يوسف لأستعبره الرؤيا ففعلوا فأتاه فقال له يا يوسف‏.‏

خاتمة تارة لا يقام شيء مقام المحذوف كما تقدم وتارة يقام ما يدل عليه نحو ‏{‏فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم‏}‏ فليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على توليهم وإنما التقدير‏:‏ فإن تولوا فلا لوم علي أوفلا عذر لكم لأني أبلغتكم وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك‏:‏ أي فلا تحزن واصبر ‏{‏وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين‏}‏‏:‏ أي يصيبهم مثل ما أصابهم‏.‏

فصل كما انقسم الإيجاز إلى إيجاز قصر وإيجاز حذف كذلك انقسم الأطناب إلى بسط وزيادة فالأول الإطناب بتكثير الجمل كقوله تعالى ‏{‏إن في خلق السموات والأرض‏}‏ الآية في سورة البقرة أطنب فيها أبلغ إطناب لكون الخطاب مع الثقلين وفي كل عصر وحين للعالم منهم والجاهل والموافق منهم والمنافق‏.‏

وقوله ‏{‏الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به‏}‏ فقوله ويؤمنون به إطناب لأن إيمان حملة العرش معلوم وحسنه إظهار شرف الإيمان ترغيبًا فيه ‏{‏وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة‏}‏ وليس من المشركين مزك والنكتة الحث للمؤمنين على أدائها والتحذير من المنع حيث جعل من أوصاف المشركين‏.‏

والثاني يكون بأنواع‏:‏ أحدها دخول حرف فأكثر من حروف التأكيد السابقة في نوع الأدوات وهي أن وأنّ ولام الابتداء والقسم وألا الاستفتاحية وأما وهاء التنبيه وأن وكأن في تأكيد التشبيه ولكن في تأكيد الاستدراك وليت في تأكيد التمني ولعل في تأكيد الترجي وضمير الشأن وضمير الفصل وأما في تأكيد الشرط وقد والسين وسوف والنونان في تأكيد الفعلية ولا التبرئة ولن ولما في تأكيد النفي وإنما يحسن تأكيد الكلام بها إذا كان المخاطب به منكرًا أومترددًا ويتفاوت التأكيد بحسب قوة الإنكار وضعفه كقوله تعالى حكاية عن رسل عيسى إذ كذبوا في المرة لأولى إنا إليكم مرسلون فأكد بإن وإسمية الجملة وفي المرة الثانية ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون فأكد بالقسم وإن واللام وإسمية الجملة لمبالغة المخاطبين في الإنكار حيث قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون وقد يؤكد بها والمخاطب به غير منكر لعدم جريه على مقتضى إقراره فينزل منزلة المنكر وقد يترك التأكيد وهومعه منكر لأن معه أدلة ظاهرة لوتأملها لرجع عن إنكاره ولذلك يخرج قوله ‏{‏ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون‏}‏ أكد الموت تأكيدين وإن لم ينكر لتنزيل المخاطبين لتماديهم في الغفلة تنزيل من ينكر الموت وأكد إثبات البعث تأكيدًا واحدًا وإن كان أشد نكيرًا لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرًا بأن لا ينكر فنزل المخاطبون منزلة غير المنكر حثًا لهم على النظر في أدلته الواضحة ونظيره قوله تعالى لا ريب فيه نفى عنه الريبة بلا على سبيل الاستغراق مع انه ارتاب فيه المرتابون لكن نزل منزلة العدم تعويلًا على ما يزيله من الأدلة الباهرة كما نزل الإنكار منزلة عدمه لذلك‏.‏وقال الزمخشري‏:‏ بولغ في تأكيد الموت تنبيهًا للإنسان على أن يكون الموت نصب عينيه ولا يغفل عن ترقبه فإن مآله إليه فإنه أكدت جملته ثلاث مرات لهذا المعنى لأن الإنسان في الدنيا يسعى فيها غاية السعي حتى كأنه يخلد ولم يؤكد جملة البعث إلا بأن لأنه أبرز في صورة المقطوع به الذي لا يمكن فيه نزاع ولا يقبل إنكارًا‏.‏

وقال التاج بن الفركاح‏:‏ أكد الموت ردًا على الدهرية القائلين ببقاء النوع الإنساني خلفًا عن سلف واستغنى عن تأكيد البعث هنا لتأكيده والرد على منكره في مواضع كقوله ‏{‏قل بلى وربي لتبعثن وقال غيره‏:‏ لما كان العطف يقتضي الاشتراك استغنى عن إعادة اللام لذكرها في الأول وقد يؤكد بها‏:‏ أي باللام للمستشرف الطالب الذي قدم له ما يلوح بالخبر فاستشرفت نفسه إليه نحو ولا تخاطبني في الذين ظلموا أي لا تدعني يا نوح في شأن قومك فهذا الكلام يلوح بالخبر تلويحًا ويشعر بأنه قد حق عليهم العذاب فصار المقام مقام أن يتردد المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بذلك أولا فقيل إنهم مغرقون بالتأكيد وكذا قوله ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم لما أمرهم بالتقوى وظهور ثمرتها والعقاب على تركها محله الآخرة تشوقت نفوسهم إلى وصف حال الساعة فقال إن زلزلة الساعة شيء عظيم بالتأكيد ليتقرر عليه الوجوب وكذا قوله ‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ فيه تحيير للمخاطب وتردد في أنه كيف لا يبرئ نفسه وهي برية زكية ثبتت عصمتها وعدم مواقعتها السوء فأكده بقوله ‏{‏إن النفس لأمارة بالسوء‏}‏ وقد يؤكد لقصد الترغيب نحو فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم أكد بأربع تأكيدات ترغيبًا للعباد في التوبة وقد سبق على أدوات التأكيد المذكورة ومعانيها ومواقعها في النوع الأربعين‏.‏

فائدة إذا اجتمعت إن واللام كان بمنزلة تكرير الجملة ثلاث مرات لأن إن أفادت التكرير مرتين فإذا دخلت اللام صارت ثلاثًا‏.‏

وعن الكسائي أن الام لتوكيد الخبر وإن لتوكيد الاسم وفيه تجوز لأن التوكيد للنسبة لا للاسم ولا للخبر وكذلك نون التوكيد الشديدة بمنزلة تكرير الفعل ثلاثًا والخفيفة بمنزلة تكريره مرتين‏.‏

وقال سيبويه في نحو يا أيها الألف والهاء لحقتا أيا توكيدًا فكأنك كررت يا مرتين وصار الاسم تنبيهًا هذا كلامه وتابعه الزمخشري‏.‏

فائدة قوله تعالى ‏{‏ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيًا‏}‏ قال الجرجاني في نظم القرآن‏:‏ ليست اللام فيه للتأكيد فإنه منكر فكيف يحقق ما ينكر وإنما قاله حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم الصادر منه بأداء التأكيد فحكاه فنزلت الآية على ذلك‏.‏

النوع الثاني‏:‏ دخول الأحرف الزائدة قال ابن جني‏:‏ كل حرف زيد في كلام العرب فهوقائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ في كشافه القديم‏:‏ الباء في خبر ما وليس لتأكيد النفي كما أن اللام لتأكيد الإيجاب‏.‏

وسئل بعضهم عن التأكيد بالحرف وما معناه إذ إسقاطه لا يخل بالمعنى فقال‏:‏ هذا يعرفه أهل الطباع يجدون من زيادة الحرف معنى لا يجدونه بإسقاطه‏.‏

قال‏:‏ ونظيره العارف بوزن الشعر طبعًا إذا تغير عليه البيت بنقص أنكره‏.‏

وقال‏:‏ أجد نفسي على خلاف ما أجدها بإقامة الوزن فكذلك هذه الحروف تتغير نفس المطبوع بنقصانها ويجد نفسه بزيادتها على معنى بخلاف ما يجدها بنقصانه‏.‏

ثم باب الزيادة في الحروف وزيادة الأفعال قليل والأسماء أقل‏.‏

أما الحروف فيزاد منها إن وإنّ وإذ وإذا وإلى وأم والباء والفاء وفي والكاف واللام ولا وما ومن والواو وتقدمت في نوع الأدوات مشروحة‏.‏

وأما الأفعال فزيد منها كان وخرج عليه كيف نكلم من كان في المهد صبيًا وأصبح وخرج عليه فأصبحوا خاسرين وقال الرماني‏:‏ العادة أن من به علة تزاد بالليل أن يرجوالفرج عند الصباح فاستعمل أصبح لأن الخسران حصل لهم في الوقت الذي يرجون فيه الفرج فليست زائدة‏.‏

وأما الأسماء فنص أكثر النحوين على أنها لا تزاد‏.‏

ووقع في كلام المفسرين الحكم عليها بالزيادة في مواضع كلفظ مثل في قوله ‏{‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به أي بما‏.‏

النوع الثالث‏:‏ للتأكيد الصناعي وهوأربعة أقسام‏:‏ أحدها‏:‏ التوكيد المعنوي بكل وأجمع وكلا وكلتا نحو فسجد الملائكة كلهم أجمعون وفائدته رفع توهم المجاوز وعدم الشمول‏.‏

وادعى الفراء أن كلهم أفادت ذلك وأجمعون أفادت اجتماعهم على السجود وأنهم لم يسجدوا متفرقين‏.‏

ثانيها‏:‏ التأكيد اللفظي وهوتكرار اللفظ الأول إما بمرادفه نحوضيقًا حرجًا بكسر الراء غرابيب سود وجعل منه الصفار في ما إن مكناهم فيه على القول بأن كليهما للنفي وجعل منه غيره قيل ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورًا ليس وراء ها هنا ظرفًا لأن اللفظ ارجعوا ينبئ عنه بل هوا سم فعل بمعنى ارجعوا فكأنه قال‏:‏ ارجعوا ارجعوا‏.‏

وإما بلفظه ويكون في الاسم والفعل والحرف والجملة فالاسم نحو قوارير قوارير دكا دكا والفعل فمهل الكافرين أمهلهم واسم الفعل نحو هيهات هيهات لما توعدون والحرف نحو ففي الجنة خالدين فيها أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا أنكم والجملة نحو ‏{‏إن مع العسر يسرًا إن مع العسر يسرًا‏}‏ والأحسن اقتران الثانية بثم نحو ‏{‏وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين‏}‏{‏كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون‏}‏ ومن هذا النوع تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل نحو ‏{‏أسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ ‏{‏اذهب أنت وربك‏}‏ ‏{‏وإما أن نكون نحن الملقين‏}‏ ومنه تأكيد المنفصل بمثله ‏{‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏‏.‏

ثالثها‏:‏ تأكيد الفعل بمصدره وهوعرض من تكرار الفعل مرتين وفائدته رفع توهم المجاز في الفعل بخلاف التوكيد السابق فإنه لرفع توهم المجاز في السند إليه كذا فرق به ابن عصفور وغيره ومن ثم رد بعض أهل السنة على بعض المعتزلة في دعواه نفي التكليم حقيقة بقوله ‏{‏وكلم الله موسى تكليمًا‏}‏ لأن توكيد رفع المجاز في العمل ومن أمثلته ‏{‏ويسلموا تسليمًا‏}‏{‏تمور السماء مورًا وتسير الجبال سيرًا‏}‏ ‏{‏جزاؤكم جزاء موفورًا‏}‏ وليس منه ‏{‏وتظنون بالله الظنونا‏}‏ بل هوجمع ظن لاختلاف أنواعه‏.‏

وأما إلا أن يشاء ربي شيئًا فيحتمل أن يكون منه وأن يكون الشيء بمعنى الأمر والشأن والأصل في هذا النوع أن ينعت بالوصف المراد نحو ‏{‏اذكروا الله ذكرًا كثيرًا‏}‏ ‏{‏وسرحوهن سراحًا جميلًا‏}‏ وقد يضاف وصفه إليه نحو ‏{‏اتقوا الله حق تقاته‏}‏ وقد يؤكد بمصدر فعل آخر واسم عين نيابة عن المصدر نحو ‏{‏وتبتل إليه تبتيلًا‏}‏ والمصدر تبتلًا والتبتيل مصدر بتل ‏{‏أنبتكم من الأرض نباتًا‏}‏ أي إنباتًا إذ النبات اسم عين‏.‏

رابعها‏:‏ الحال المؤكدة نحو يوم أبعث أبعث حيًا ولا تعثوا في الأرض مفسدين وأرسلناك للناس رسولًا ثم توليتم إلا قليلًا منكم وأنتم معرضون وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد وليس منه ولي مدبرًا لأن التولية قد لا تكون إدبارًا بدليل قوله ‏{‏فول وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ ولا ‏{‏فتبسم ضاحكًا‏}‏ لأن التبسم قد لا يكون ضحكًا ولا ‏{‏وهو الحق مصدقًا‏}‏ لاختلاف المعينين إذ كونه حقًا في نفسه غير كونه مصدقًا لما قبله‏.‏

النوع الرابع‏:‏ التكرير وهوأبلغ من التأكيد وهومن محاسن الفصاحة خلافًا لبعض من غلط‏.‏

وله فوائد‏.‏

منها‏:‏ التقرير وقد قيل الكلام إذا تكرر تقرر وقد نبه تعالى على السبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والإنذار في القرآن بقوله ‏{‏وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرًا‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ التأكيد‏.‏

ومنها‏:‏ زيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ومنه وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع فإنه كرر فيه النداء لذلك‏.‏

ومنها‏:‏ إذا طال الكلام وخشي تناسي الأول أعيد ثانيها تطرية له وتجديدًا لعهده ومنه ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها ‏{‏ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها‏}‏ ‏{‏ولما جاءهم كتاب من عند الل‏}‏ه إلى قوله ‏{‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏}‏ ‏{‏لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب‏}‏ ‏{‏إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم‏}‏‏.‏ومنها‏:‏ التعظيم والتهويل نحو ‏{‏الحاقة ما الحاقة‏}‏ ‏{‏القارعة ما القارعة‏}‏ ‏{‏وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين‏}‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ هذا النوع أحد أقسام النوع الذي قبله فإن منها التأكيد بتكرار اللفظ فلا يحسن عده نوعًا مستقلًا‏.‏

قلت هويجامعه ويفارقه ويزيد عليه وينقص عنه فصار أصلًا برأسه فإنه قد يكون التأكيد تكرارًا كما تقدم في أمثلته وقد لا يكون تكرارًا كما تقدم أيضًا وقد يكون التكرير غير تأكيد صناعة وإن كان مفيدًا لتأكيد معنى ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكررين فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده نحو اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله وإن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على النساء العالمين فإن هذه الآيات من باب التكرير لا التأكيد اللفظي الصناعي ومنه الآيات المتقدمة في التكرير للطول ومنه ما كان لتعدد المتعلق بأن يكون المكرر ثانيًا متعلقًا بغير ما تعلق به الأول وهذا القسم يسمى بالترديد كقوله ‏{‏الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري وقع فيها الترديد أربع مرات جعل منه قوله ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان فإنها وإن تكررت نيفًا وثلاثين مرة فكل واحدة تتعلق بما قبلها ولذلك زادت على ثلاثة ولوكان الجميع عائدًا إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يزيد عليها قاله ابن عبد السلام وغيره وإن كان بعضها ليس بنعمة فمذكر النقمة للتحذير نعمة

وقد سئل‏:‏ أي نعمة في قوله ‏{‏كل من عليها فان‏}‏ فأجيب بأجوبة أحسنها‏:‏ النقل من دار الهموم إلى دار السرور وإراحة المؤمن والبار من الفاجر‏.‏

وكذا قوله ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ في سورة المرسلات لأنه تعالى ذكر قصصًا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول فكأنه قال عقب كل قصة‏:‏ ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة‏.‏

وكذا قوله في سورة الشعراء ‏{‏إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم‏}‏ كررت ثمان مرات كل مرة عقب كل قصة فالإشارة في كل واحد بذلك إلى قصة النبي المذكور قبلها وما اشتملت عليه من الآيات والعير‏.‏

وقوله ‏{‏وما كان أكثرهم مؤمنين‏}‏ إلى قومه خاصة وما كان مفهومه أن الأقل من قومه آمنوا أتى بوصف العزيز الرحيم للإشارة إلى أن العزة على من لم يؤمن والرحمة لمن آمن‏.‏

وكذا قوله في سورة القمر ‏{‏ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ كرر ليجدوا عند سماع كل نبأ منها اتعاظًا وتنبيهًا وأن كلًا من تلك الأنباء يستحق لاعتبار يختص به وأن يتنبهوا كي لا يغلبهم السرور والغفلة‏.‏قال في عروس الأفراح‏:‏ فإن قلت‏:‏ إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ‏.‏

كل أريد به غير ما أريد الآخر‏.‏

قلت‏:‏ إذا قلنا العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ولكن كرر ليكون نصًا فيما يليه وظاهرًا في غيره‏.‏

فإن قلت‏:‏ يلزم التأكيد‏.‏

قلت‏:‏ والأمر كذلك ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة لأن ذاك في التأكيد الذي هوتابع أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة فلا يمتنع أه‏.‏ويقرب من ذلك ما ذكره ابن جرير في قوله تعالى ولله ما في السموات وما في الأرض ولقد وصينا الذين إلى قوله ‏{‏وكان الله غنيًا حميدًا ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلًا قال‏:‏ فإن قيل ما وجه تكرار قوله ‏{‏ولله ما في السموات وما في الأرض في آيتين إحداهما في أثر الأخرى قلنا‏:‏ لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض وذلك لأن الخبر عنه في إحدى الآيتين ذكر حاجته إلى بارئه وغنى بارئه عنه وفي الأخرى حفظ بارئه إياه وعلمه به وبتدبيره قال‏:‏ فإن قيل‏:‏ أفلا قيل‏:‏ وكان الله غنيًا حميدًا وكفى بالله وكيلًا قيل‏:‏ ليس في الآية الأولى ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير أه‏.‏

وقال تعالى ‏{‏وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب‏}‏ قال الراغب‏:‏ الكتاب الأول ما كتبوه بأيديهم المذكور في قوله تعالى ‏{‏فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم‏}‏ والكتاب الثاني في التوراة والثالث لجنس كتب الله كلها‏:‏ أي ما هومن شيء من كتب الله وكلامه‏.‏

ومن أمثلة ما يظن تكرارًا وليس منه ‏{‏قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون‏}‏ إلى آخرها فإن ‏{‏لا أعبد ما تعبدون‏}‏ أي في المستقبل ‏{‏ولا أنتم عابدون‏}‏ أي في الحال ما أعبد في المستقبل ولا أنا عابد أي في الحال ما عبدتم في الماضي ولا أنتم عابدون أي في المستقبل ما أعبد أي في الحال‏.‏

فالحاصل أن القصد نفي عبادته لآلهتهم في الأزمنة الثلاثة وكذا ‏{‏فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم‏}‏ ثم قال ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم‏}‏ ثم قال ‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏ فإن المراد بكل واحد من هذه الأذكار غير المراد بالآخر‏.‏

فالأول الذكر في مزدلفة عند الوقوف بقزح وقوله ‏{‏واذكروه كما هداكم‏}‏ إشارة إلى تكرره ثانيًا وثالثًا ويحتمل أن يراد به طواف الإفاضة بدليل تعقيبه بقوله ‏{‏فإذا قضيتم والذكر الثالث إشارة إلى رمي جمرة العقبة والذكر الأخير لرمي أيام التشريق ومنهم تكرير حرف الإضراب في قوله ‏{‏بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر‏}‏ وقوله ‏{‏بل أدارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عموم‏}‏ ومنه قوله ‏{‏ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًا على المحسنين‏}‏ ثم قال ‏{‏وللمطلقات متاع بالمعروف حقًا على المتقين‏}‏ فكرر الثاني ليعم كل مطلقة فإن الآية الأولى في المطلقة قبل الفرض والمسيس خاصة‏.‏

وقيل لأن الأولى لا تشعر بالوجوب ولهذا لما نزلت قال بعض الصحابة إن شئت أحسنت وإن شئت فلا فنزلت الثانية‏.‏

أخرجه ابن جرير ومن ذلك تكرير الأمثال كقوله ‏{‏وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ‏وما يستوي الأحياء ولا الأموات‏}‏ وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة بالمستوقد نارًا ثم ضربه بأصحاب الصيب‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ والثاني أبلغ من الأول لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته‏.‏

قال‏:‏ ولذلك آخرهم يتدرجون في نحوهذا من الأهون إلى الأغلظ‏.‏

ومن ذلك تكرير القصص كقصة آدم وموسى ونوح وغيرهم من الأنبياء‏.‏قال بعضهم‏:‏ ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعًا من كتابه‏.‏

وقال ابن العربي في القواصم‏:‏ ذكر الله قصة نوح في خمس وعشرين آية وقصة موسى في تسعين آية‏.‏

وقد ألف البدر بن جماعة كتابًا سماه المقتنص في فوائد تكرار القصص وذكر في تكرير القصص فوائد‏.‏

منها‏:‏ أن في كل موضع زيادة شيء لم يذكر في الذي قبله أوإبدال كلمة بأخرى لنكتة وهذه عادة البلغاء‏.‏

ومنها‏:‏ أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكون ما نزل بعد صدور من تقدمهم فلولا تكرار القصص لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى آخرين وكذا سائر القصص فأراد الله اشتراك الجميع فيها فيكون فيه إفادة لقوم وزيادة تأكيد لآخرين‏.‏

ومنها‏:‏ أن في إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة ما لا يخفي من الفصاحة‏.‏

ومنها‏:‏ أنه تعالى أنزل هذا القرآن وعجز القوم عن الإتيان بمثله ثم أوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع إعلامًا بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا وبأي عبارة عبروا‏.‏ومنها‏:‏ أنه لما تحداهم قال ‏{‏فائتوا بسورة من مثله‏}‏ فلوذكرت القصة في موضع واحد واكتفى بها لقال العربي ائتون أنتم بسورة من مثله فأنزلها الله سبحانه وتعالى في تعداد السور فعالجتهم من كل وجه‏.‏

ومنها‏:‏ أن القصة الواحدة لما كررت كان في ألفاظها في كل موضع زيادة أونقصان وتقديم وتأخير وأتت على أسلوب غير أسلوب الأخرى فأفاد ذلك ظهور الأمر العجيب في إخراج المعنى الواحد في صور متباينة في النظر وجذب النفوس إلى سماعها لما جبلت عليه من حب التنقل في الأشياء المتجددة واستلذاذها بها وإظهار خاصة القرآن حيث لم يصل مع تكرير ذلك فيه هجنة في اللفظ ولا ملل عند سماعه فباين ذلك كلام المخلوقين‏.‏

وقد سئل ما الحكمة في عدم تكرير قصة يوسف وسوقها مساقًا واحدًا في موضع واحد دون غيرها من القصص وأجيب بوجه‏.‏

أحدها‏:‏ أن فيها تشبيب النسوة به وحال امرأة ونسوة افتتنوا بأبدع الناس جمالًا فناسب عدم تكرارها لما فيه من الإغضاء والستر‏.‏

وقد صحح الحاكم في مستدركه حديث النهي عن تعليم النساء سورة يوسف‏.‏

ثانيها‏:‏ أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة بخلاف غيرها من القصص فإن مآلها إلى الوبال كقصة إبليس وقوم نوح وهود وصالح وغيرهم فلما اختصت بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمت القصص‏.‏

ثالثها‏:‏ قال الأستاذ أبوإسحاق الإسفرايني‏:‏ إنما كرر الله قصص الأنبياء وساق قصة يوسف مساقًا واحدًا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ أن كان من تلقاء نفسي فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في سائر القصص‏.‏

قلت‏:‏ وظهر لي جواب رابع وهوأن سورة يوسف نزلت بسبب طلب الصحابة أن يقص عليهم كما رواه الحاكم في مستدركه فنزلت مبسوطة تامة ليحصل لهم مقصود القصص من استيعاب القصة وترويح النفس بها والإحاطة بطرفيها‏.‏

وجواب خامس وهوأقوى ما يجاب به‏:‏ إن قصص الأنبياء إنما كررت لأن المقصود بها إفادة إهلاك من كذبوا رسلهم والحاجة داعية إلى ذلك لتكرير تكذيب الكفار للرسول صلى الله عليه وسلم فكلما كذبوا نزلت قصة منذرة بحلول العذاب كما حل على المكذبين ولهذا قال تعالى في آيات ‏{‏فقد مضت سنة الأولين‏}‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن‏}‏ وقصة يوسف لم يقصد منها ذلك وبهذا أيضًا يحصل الجواب عن حكمة عدم تكرير قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنبن وقصة موسى مع الخضر وقصة الذبيح‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد تكررت قصة ولادة يحيى وولادة عيسى مرتين وليس من قبيل ما ذكرت‏.‏

قلت‏:‏ الأولى في سورة كهيعص وهي مكية أنزلت خطابًا لأهل مكة والثانية في سورة آل عمران وهي مدنية أنزلت خطابًا لليهود ولنصارى نجران حين قدموا ولهذا اتصل بها ذكر المحاجة والمباهلة‏.‏

النوع الخامس‏:‏ الصفة وترد لأسباب‏.‏

أحدها‏:‏ التخصيص في النكرة نحو ‏{‏فتحرير رقبة مؤمنة‏}‏ الثاني‏:‏ التوضيح في المعرفة‏:‏ أي زيادة البنان نحو ‏{‏ورسوله النبي الأمي‏}‏ الثالث‏:‏ المدح والثناء ومنه صفات الله تعالى نحو ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين‏}‏{‏الخالق البارئ المصور‏}‏ ومنه ‏{‏يحكم به النبيون الذين أسلموا للذين هادوا‏}‏ فهذا الوصف للمدح وإظهار شرف الإسلام والتعريض باليهود وأنهم بعداء من ملة الإسلام الذي هودين الأنبياء كلهم وأنهم بمعزل عنها قال الزمخشري‏.‏

الرابع‏:‏ الذم نحو ‏{‏فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم‏}‏‏.‏

الخامس‏:‏ التأكيد لرفع الإبهام نحو ‏{‏لا تتخذوا إلهين اثنين‏}‏ فإن إلهين للتثنية بعده صفة مؤكدة للنهي عن الإشراك والإفادة النهي عن اتخاذ إلهين إنما هولمحض كونهما اثنين فقط لا لمعنى آخر من كونهما عاجزين أو غير ذلك ولأن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية كقوله صلى الله عليه وسلم إنما نحن وبنوالمطلب شيء واحد وتطلق ويراد بها نفي العدة فالتثنية باعتبارها‏.‏

فلوقيل لا تتخذوا إلهين فقط لتوهم أنه نهي عن اتخاذ جنسي آلهة وإن جاز أن يتخذ من نوع واحد عدد آلهة ولهذا أكد بالواحدة قوله ‏{‏إنما هو إله واحد‏}‏ ومثله ‏{‏فاسلك فيها من كل زوجين اثنين‏}‏ على قراءة تنوين كل وقوله ‏{‏فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة‏}‏ فهوتأكيد لرفع توهم تعدد النفخة لأن هذه الصيغة قد تدل على الكثرة بدليل وإن تعدوا نعمة الله ال تحصوها ومن ذلك قوله ‏{‏فإن كانتا اثنتين‏}‏ فإن لفظ كانتا يفيد التثنية فتفسيره باثنتين لم يفد زيادة عليه‏.‏

وقد أجاب عن ذلك الأخفش والفارسي بأنه أفاد العدد المحض مجردًا عن الصفة لأنه قد كان يجوز أن يقال‏:‏ فإن كانتا صغيرتين أوكبيرتين أوصالحتين أوغير ذلك من الصفات فلما قال اثنتين أفهم أن فرض الثنتين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط وهي فائدة لا تحصل من ضمير المثنى‏.‏

وقيل أراد‏:‏ فإن كانتا اثنتين فصاعدًا فعبر بالأدنى عنه وعما فوقه اكتفاء ونظيره فإن لم يكونا رجلين والأحسن فيه أن الضمير عائد على الشهيدين المطلقين ومن الصفات المؤكدة قوله ‏{‏ولا طائر يطير بجناحيه‏}‏ فقوله يطير لتأكيد أن المراد بالطائر حقيقته فقد يطلق مجازًا على غيره‏.‏

وقوله بجناحيه لتأكيد حقيقة الطيران لأنه يطلق مجازًا على شدة العدووالإسراع في المشي ونظيره يقولون بألسنتهم لأن القول يطلق مجازًا على غير اللساني بدليل ويقولون في أنفسهم وكذا ولكن تعمى القلوب التي في الصدور لأن القلب قد يطلق مجازًا على العين كما أطلقت العين مجازًا على القلب في قوله ‏{‏الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكرى‏}‏‏.‏

قاعدة الصفة العامة لا تأتي بعد الخاصة لا يقال رجل فصيح متكلم بل متكلم فصيح وأشكل على هذا قوله تعالى في إسماعيل ‏{‏وكان رسولًا نبيًا‏}‏ وأجيب بأنه حال لا صفة‏:‏ أي مرسلًا في حال نبوته وقد تقدم في نوع التقديم والتأخير أمثلة عن هذه‏.‏

قاعدة إذا وقعت الصفة بعد متضايفين أولهما عدد جاز إجراؤهما على المضاف وعلى المضاف إليه فمن الأول ‏{‏سبع سموات طباق‏}‏ ومن الثاني ‏{‏سبع بقرات سمان‏}‏‏.‏

فائدة إذا تكررت النعوت لواحد فالأحسن أن تباعد معنى الصفات العطف نحو ‏{‏هو الأول والآخر الظاهر والباطن‏}‏ وإلا تركه نحو ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتم بعد ذلك زنيم فائدة قطع النعوت في مقام المدح والذم أبلغ من إجرائها‏.‏

قال القارسي‏:‏ إذا ذكرت الصفات في معرض المدح أوالذم فالأحسن أن يخالف في إعرابهاقش لأن المقام يقتضي الإطناب فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفنن وعند الاتحاد تكون نوعًا واحدًا مثاله في المدح والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ولمقيمين الصلاة وآتون الزكاة ولكن البر من آمن بالله إلى قوله ‏{‏والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين‏}‏ وقرئ شاذًا الحمد لله رب العالمين برفع رب ونصبه ومثاله في الذم وامرأته حمالة الحطب‏.‏

النوع السادس‏:‏ البدل والقصد به الإيضاح به بعد الإبهام وفائدته البيان والتأكيد‏.‏

أما الأول فواضح أنك إذا قلت رأيت زيدًا أخاك بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير وأما التأكيد فلأنه على نية تكرار العامل فكأنه من جملتين ولأنه دل على ما دل عليه الأول‏:‏ إما بالمطابقة في بدل الكل وإما بالتضمين في بدل البعض أوبالالتزام في بدل الاشتمال‏.‏مثال الأزل ‏{‏أهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم‏}‏ ‏{‏إلى صراط العزيز الحميد الله‏}‏{‏لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة‏}‏ ومثال الثاني ‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا‏}‏{‏ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض ومثال الثالث ‏{‏وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره‏}‏ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير قتل أصحاب الأخدود النار لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم وزاد بعضهم بدل الكل من البعض وقد وجدت له مثالًا في القرآن وهوقوله ‏{‏يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئًا جنات عدن فجنات عدن بدل من الجنة التي هي بعض وفائدته تقرير أنها جنان كثيرة لا جنة واحدة‏.‏

قال ابن السيد‏:‏ وليس كل بذل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في المبدل منه بل من البدل ما يراد به التأكيد وإن كان ما قبله غنيًا عنه كقوله ‏{‏وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله‏}‏ ألا ترى أنه لولم يذكر الصراط الثاني لم يشك أحد في أن الصراط المستقيم هوصراط الله وقد نص سيبويه على أن من المبدل ما الغرض منه التأكيد أه‏.‏

وجعل منه ابن عبد السلام ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏}‏ قال‏:‏ ولا بيان فيه لأن الأب لا يلتبس بغيره ورد بأنه يطلق على الجد فأبدل لبيان إرادة الأب حقيقة‏.‏

النوع السابع‏:‏ عطف البيان وهوكالصفة في الإيضاح لكن ما يفارقها في أنه وضع البدل على الإيضاح باسم يختص به بخلافها فإنها وضعت لتدل على معنى حاصل في متبوعها‏.‏

وفرق ابن كيسان بينه وبين البدل بأن البدل هو المقصود وكأنك قررته في موضع المبدل منه وعطف البيان وما عطف عليه كل منهما مقصود‏.‏

وقال ابن مالك في شرح الكافية‏:‏ عطف البيان يجري مجرى النعت في تكميل متبوعه ويفارقه في أن تكميل متبوعه بشرح وتبيين لا بدلالة على معنى المتبوع أوسببية ومجرى التأكيد في تقوية دلالته ويفارقه في أنه لا يرفع توهم مجاز ومجرى البدل في صلاحيته للاستقلال ويفارقه في أنه غير منوي الإطراح ومن أمثلته فيه آيات بينات مقام إبراهيم من شجرة مباركة زيتونة وقد يأتي لمجرد المدح بلا إيضاح ومنه جعل الله الكعبة البيت الحرام فالبيت الحرام عطف بيان للمدح لا للإيضاح‏.‏

النوع الثامن‏:‏ عطف أحد المترادفين على الآخر والقصد منه التأكيد أيضًا وجعل منه إنما أشكوبثي وحزني فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا فلا يخافوا ظلمًا ولا هضمًا لا تخاف دركًا ولا تخشى لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا قال الخليل‏:‏ العوج والأنت بمعنى واحد سرهم ونجواهم شرعة ومنهاجًا لا تبقى والتذر إلا دعاء ونداء أطعنا سادتنا وكبراءنا لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب فإن نصب كلغب وزنًا ومعنى صلوات من ربهم ورحمة عذرًا أونذرًا قال ثعلب‏:‏ هما بمعنى وأنكر المبرد وجود هذا النوع في القرآن وأول ما سبق على اختلاف المعنيين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ المخلص في هذا أن تعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفرادهما فإن التركيب يحدث معنى زائدًا وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ‏.‏

النوع التاسع‏:‏ عطف الخاص على العام وفائدته التنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنس العام تنزيلًا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات‏.‏

وحكى أبوحيان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير أنه كان يقول‏:‏ هذا العطف يسمى بالتجريد كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر تفضيلًا‏.‏

ومن أمثلته ‏{‏حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى‏}‏ ‏{‏من كان عدوًا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال‏}‏ ‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏}‏ ‏{‏والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة‏}‏ فإن إقامتها من جملة التمسك بالكتاب وخصت بالذكر إظهار لرتبتها لكونها عماد الدين وخص جبريل وميكائيل بالذكر ردًا على اليهود في دعوى عداوته وضم إليه ميكائيل لأنه ملك الرزق الذي هوحياة الأجساد كما أن جبريل ملك الوحي الذي هوحياة القلوب والأرواح‏.‏

وقيل إن جبريل وميكائيل لما كانا أميري الملائكة لم يدخلا في لفظ الملائكة أولًا كما أن الأمير لا يدخل في مسمى الجند حكاه الكرماني في العجائب‏.‏

ومن ذلك ‏{‏ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه‏}‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء‏}‏ بناء على أنه لا يختص بالواوكما هورأي ابن مالك فيه وفيما قبله‏.‏

وخص المعطوف في الثانية بالذكر تنبيهًا على زيادة قبحه‏.‏

تنبيه المراد بالخاص والعام هنا ما كان فيه الأول شاملًا للثاني لا المصطلح عليه في الأصول‏.‏

النوع العاشر‏:‏ عطف العام على الخاص وأنكر بعضهم وجوده فأخطأ والفائدة فيه واضحة وهوالتعميم وأفرد الأول بالذكر اهتمامًا بشأنه‏.‏

ومن أمثلته ‏{‏إن صلاتي ونسكي‏}‏ والنسك العبادة فهوأعم آتيناك سعًا من المثاني والقرآن العظيم ‏{‏رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا وللمؤمنين والمؤمنات‏}‏ ‏{‏فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير‏}‏ جعل منه الزمخشري ومن يدبر الأمر بعد قوله ‏{‏قل من يرزقكم‏}‏‏.‏

النوع الحادي عشر‏:‏ الإيضاح بعد الإبهام قال أهل البيان‏:‏ إذا أردت أن تبهم ثم توضح فإنك تطنب‏.‏

وفائدته إما رؤية المعنى في صورتين مختلفتين‏:‏ الإبهام والإيضاح أولتمكن المعنى في النفس تمكنًا زائدًا لوقوعه بعد الطلب فإنه أعز من المنساق بلا تعب أولتكمل لذة العلم به فإن الشيء إذا علم من وجه ما تشوقت النفس للعلم به من باقي وجوهه وتألمت فإذا حصل العلم من بقية الوجوه كانت لذته أشد من علمه من جميع وجوهه دفعة واحدة‏.‏

ومن أمثلته رب اشرح لي صدري فإن اشرح يفيد طلب شرح شيء ما له وصدري يفيد تفسيره وبيانه كذلك ‏{‏ويسر لي أمري‏}‏ والمقام يقتضي التأكيد للإرسال المؤذن بتلقي الشدائد وكذلك ‏{‏ألم نشرح لك صدرك‏}‏ فإن المقام يقتضي التأكيد لأنه مقام امتنان وتفخيم وكذا ‏{‏وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين‏}‏ ومنه التفضيل بعد الإجمال نحو ‏{‏إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا‏}‏ إلى قوله ‏{‏منها أربعة حرم‏}‏ وعكسه كقوله ‏{‏ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشر كاملة‏}‏ أعيد ذكر العشرة لرفع توهم أوالواوفي وسبعة بمعنى أو فتكون الثلاثة داخلة فيها كما في قوله ‏{‏خلق الأرض في يومين ثم قال ‏{‏وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام‏}‏ فإن في جملتها اليومين المذكورين أولًا وليست أربعة غيرهما وهذا احسن الأجوبة في الآية وهوالذي أشار إليه الزمخشري ورجحه ابن عبد السلام وجزم به الزملكاني في أسرار التنزيل‏.‏

قال‏:‏ ونظيره ‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر‏}‏ فإنه رافع لاحتمال أن تكون تلك العشرة من غير مواعدة‏.‏

قال ابن عسكر‏:‏ وفائدة الوعد بثلاثين أولًا ثم بعشر ليتجدد له أقرب انقضاء المواعدة ويكون فيه متأهبًا مجتمع الرأي حاضر الذهن لأنه لووعد بالأربعين أولًا كانت متساوية فلما فصلت استشعرت النفس قرب التمام وتجدد بذلك عزم لم يتقدم‏.‏

وقال الكرماني في العجائب في قوله ‏{‏تلك عشرة كاملة‏}‏ ثمانية أجوبة‏:‏ جوابان من التفسير وجواب من الفقه وجواب من النحو وجواب من اللغة وجواب من المعنى وجوابان من الحساب وقد سقتها في أسرار التنزيل‏.‏

النوع الثاني عشر‏:‏ التفسير قال أهل البيان‏:‏ وهوأن يكون في الكلام لبس وخفاء فيؤتى بما يزيله ويفسره‏.‏

ومن أمثلته ‏{‏إن الإنسان خلق هلوعًا إذا مسه الشر جزوعًا وإذا مسه الخير ممنوعًا‏}‏ فقوله إذا مسه الخ تفسير لهلوع كما قاله أبو العالية وغيره القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم قال البيهقي في شرح الأسماء الحسنى‏:‏ قوله لا تأخذه سنة تفسير للقيوم ‏{‏يسومونكم سوء العذاب يذبحون‏}‏‏.‏ الآية فيذبحون وما بعده تفسير للسوم ‏{‏إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب‏}‏ الآية فخلقه وما بعده تفسير للمثل ‏{‏لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة‏}‏ فتلقون الخ تفسير لاتخاذهم أولياء ‏{‏الصمد لم يلد ولم يولد‏}‏ الآية‏.‏قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لم يلد الخ تفسير للصمد وهوفي القرآن كثير‏.‏

قال ابن جني‏:‏ ومتى كانت الجملة تفسير لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها لأن تفسير الشيء لاحق به ومتمم له وجار مجرى بعض أجزائه‏.‏

النوع الثالث عشر‏:‏ وضع الظاهر موضع الضمر ورأيت فيه تأليفًا مفردًا لابن الصائغ وله فوائد منها‏:‏ زيادة التقرير والتمكين نحو ‏{‏قل هو الله أحد الله الصمد‏}‏ والأصل هو الصمد ‏{‏وبالحق أنزلناه وبالحق نزل‏}‏ ‏{‏إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون‏}‏ ‏{‏لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ قصد التعظيم نحو ‏{‏واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم‏}‏ ‏{‏أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون‏}‏ ‏{‏وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودًا‏}‏ ‏{‏ولباس التقوى ذلك خير‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ قصد الإهانة والتحقير نحو ‏{‏أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون‏}‏{‏إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان‏}‏ الخ‏.‏

ومنها‏:‏ إزالة اللبس حيث يوهم الضمير أنه غير الأول نحو ‏{‏قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك‏}‏ لوقال تؤتيه لأوهم أنه الأول قاله ابن الخشاب ‏{‏يظنون بالله ظن السوء‏}‏{‏عليهم دائرة السوء‏}‏ لأنه قال عليهم دائرته لأوهم أن الضمير عائد إلى الله تعالى ‏{‏فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه‏}‏ لم يقل منه لئلا يتوهم عود الضمير إلى الأخ فيصير كأنه مباشر بطلب خروجها وليس كذلك لما في المباشرة من الأذى الذي تأباه النفوس الآبية فأعيد لفظ الظاهر لنفي هذا ولم يقل من وعائه لئلا يتوهم عود الضمير إلى يوسف لأنه العائد عليه ضمير استخراجها‏.‏

ومنها‏:‏ قصد تربية المهابة وإدخال الروع على ضمير السامع بذكر الاسم المقتضي لذلك كما تقول‏:‏ الخليفة أمير المؤمنين يأمرك بكذا ومنه إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها إن الله يأمر بالعدل ومنها‏:‏ قصد تقوية داعية الأمور ومنه فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين‏.‏

ومنها‏:‏ تعظيم الأمر نحو ‏{‏أو لم يروا كيف يبدأ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق‏}‏ ‏{‏هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا إنا خلقنا الإنسان‏}‏ ومنها‏:‏ الاستلذاذ بذكره ومنه ‏{‏وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة‏}‏ لم يقل منها ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة‏.‏

ومنها‏:‏ قصد التوسل من الظاهر إلى الوصف ومنه ‏{‏فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله‏}‏ بعد قوله ‏{‏إني رسول الله‏}‏ لم يقل فآمنوا بالله ربي ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والأتباع له هومن وصف بهذه الصفات ولوأتى بالضمير لم يمكن ذلك لأنه لا يوصف‏.‏

ومنها‏:‏ التنبيه على علية الحكم نحو ‏{‏فبدل الذين ظلموا قولًا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزًا ‏}‏ ‏{‏فإن الله عدو للكافرين‏}‏ لم يقل لهم إعلامًا بأن من عادى هؤلاء فهوكافر وإن الله إنا عاداه لكفره ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون‏}‏ ‏{‏والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين‏}‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملًا‏}‏ ومنها‏:‏ قصد العموم نحو ‏{‏وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة‏}‏ لم يقل إنها لئلا يفهم تخصيص ذلك بنفسه ‏{‏أولئك هم الكافرون حقًا وأعتدنا للكافرين عذابًا‏}‏ ومنها‏:‏ قصد الخصوص نحو ‏{‏وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي‏}‏ لم يقل لك تصريحًا بأنه خاص به‏.‏

ومنها‏:‏ الإشارة إلى عدم دخول الجملة في حكم الأولى نحو ‏{‏فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل‏}‏ فإن ويمح الله استئناف لا داخل في حكم الشرط‏.‏

ومنها‏:‏ مراعاة الجناس ومنه ‏{‏قل أعوذ برب الناس‏}‏ السورة ذكره الشيخ عز الدين ومثله ابن الصائغ بقوله ‏{‏خلق الإنسان من علق‏}‏ ثم قال ‏{‏علم الإنسان ما لم يعلم كلا إن الإنسان ليطغى‏}‏ فإن المراد بالإنسان الأول الجنس وبالثاني آدم أومن يعلم الكتابة أوإدريس وبالثالث أبوجهل‏.‏

ومنها‏:‏ مراعاة الترصيع وتوازن الألفاظ في التركيب ذكره بعضهم في قوله ‏{‏أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى‏.‏

ومنها‏:‏ أن يتحمل ضميرًا لا بد منه ومنه ‏{‏أتيا أهل قرية استطعما أهلها‏}‏ لوقال استطعما لم يصح لأنهما لم يستطعما القرية أواستطعماهم فكذلك لأن جملة استطعما صفة لقرية النكرة لا لأهل فلا بد أن يكون فيها ضمير يعود عليه ولا يمكن إلا مع التصريح بالظاهر وكذا حرره السبكي في جواب سؤال الصلاح الصفدي في ذلك حيث قال‏:‏ ومن كفه يوم الندى ويراعه على طرسه بحران يلتقيان ومن إن دجت في المشكلاتمسائل جلاها بفكر دائم اللمعان رأيت كتاب الله أكبر معجز لأفضل من يهدي به الثقلان ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإيجاز ألفاظ وبسط معان ولكنني في الكهف أبصرت آية بها الكفر في طول الزمان عيان وما هي إلا استطعما أهلها فقد نرى استطعماهم مثله ببيان فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير إن ذاك لشان فأرشد على عادات فضلك حيرتي فمالي بها عند البيان يدان تنبيه إعادة الظاهر بمعناه أحسن من إعادته بلفظه كما مر في آيات إنا لا نضيع أجر المصلحين أجر من أحسن عملًا ونحوها ومنه ‏{‏ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء‏}‏ فإن إنزال الخير مناسب للربوبية وأعاده بلفظ الله لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية لأن دائرة الربوبية أوسع ومنه ‏{‏الحمد لله الذي خلق السموات والأرض‏}‏ إلى قوله ‏{‏بربهم يعدلون‏}‏ وإعادته في جملة أخرى أحسن منه في الجملة الواحدة لانفصالها وبعد الطول أحسن من الإضمار لئلا يبقى الذهن متشاغلًا بسبب ما يعود عليه فيفوته ما شرع فيه كقوله ‏{‏وتلك حجتنا آتيناهم إبراهيم على قومه بعد قوله ‏{‏وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر‏}‏‏.‏

النوع الرابع عشر‏:‏ الإيغال وهوالإمعان وهوختم الكلام بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها‏.‏

وزعم بعضهم أنه خاص بالشعر ورد بأنه وقع في القرآن من ذلك ‏{‏يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسئلكم أجرًا وهم مهتدون‏}‏ فقوله وهم مهتدون إيغال لأنه يتم المعنى بدونه إذا الرسول مهتد لا محالة لكن فيه زيادة مبالغة في الحث على أتباع الرسل والترغيب فيه‏.‏

وجعل ابن أبي الأصبع منه ‏{‏ولا يسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين‏}‏ فإن قوله إذا ولوا مدبرين زائد على المعنى مبالغة في عدم انتفاعهم ‏{‏ومن احسن من الله حكمًا لقوم يوقنون‏}‏ زائد على المعنى لمدح المؤمنين والتعريض بالذم لليهود وأنهم بعيدون عن الإيقان ‏{‏إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون‏}‏ فقوله مثل ما الخ إيغال زائد على المعنى لتحقيق هذا الوعد وأنه واقع معلوم ضرورة لا يرتاب فيه أحد‏.‏

النوع الخامس عشر‏:‏ التذييل وهوأن يأتي بجملة عقب جملة والثانية تشتمل على المعنى الأول لتأكيد منطوقه أومفهومه ليظهر المعنى لمن لم يفهمه ويتقرر عند من فهمه نحو ‏{‏ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور‏}‏ ‏{‏وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا‏}‏ ‏{‏وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت‏}‏ ‏{‏ويوم القيامة يكفرون بشرككم‏}‏ النوع السادس عشر‏:‏ الطرد والعكس قال الطيبي‏:‏ وهوأن يؤتى بكلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس كقوله تعالى ‏{‏ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات‏}‏ إلى قوله ‏{‏ليس عليكم جناح بعدهن‏}‏ فمنطوق الأمر بالاستئذان في تلك الأوقات خاصة مقرر مفهوم رفع الجناح فيما عداها وبالعكس وكذا قوله ‏{‏لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‏}‏ قلت‏:‏ وهذا النوع يقابله في الإيجاز نوع الاحتباك‏.‏

النوع السابع عشر‏:‏ التكميل ويسمى بالاحتراس وهوأن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفع ذلك الوهم نحو ‏{‏أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين‏}‏ فإنه لواقتصر على أذلة أنه لضعفهم فدفعه بقوله أعزه ومثله أشداء على الكفار رحماء بينهم غذ لواقتصر على أشداء لتوهم أنه لغلظهم ‏{‏تخرج بيضاء من غير سوء‏}‏ ‏{‏لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون‏}‏ احتراس لئلا يتوهم نسبة الظلم إلى سليمان‏.‏

ومثله فتصيبكم منهم معرة بغير علم وكذا ‏{‏قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون‏}‏ فالجملة الوسطى احتراس لئلا يتوهم أن التكذيب مما في نفس الأمر‏.‏

قال في عروس الأفراح‏:‏ فإن قيل‏:‏ كل من ذلك أفاد معنى جديدًا فلا يكون إطنابًا‏.‏

قلنا‏:‏ هوإطناب لما قبله من حيث رفع توهم غيره وإن كان له معنى في نفسه‏.‏

النوع الثامن عشر‏:‏ التتميم وهوأن يؤتى في كلام لا يوهم غير المراد بفضله تفيد نكتة كالمبالغة في قوله ‏{‏ويطعمون الطعام على حبه‏}‏ أي مع حب الطعام‏:‏ أي اشتهائه فإن الإطعام حينئذ أبلغ وأكثر أجرًا ومثله ‏{‏وآتى المال على حبه‏}‏ ‏{‏ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف‏}‏ فقوله ‏{‏وهو مؤمن‏}‏ تتميم في غاية الحسن‏.‏

النوع التاسع عشر‏:‏ الاستقصاء وهوأن يتناول المتكلم معنى فيستقصيه فيأتي عوارضه ولوازمه بعد أن يستقصي جميع أوصافه الذاتية بحيث لا يترك لمن يتناوله بعده فيه مقالًا كقوله تعالى ‏{‏أيود أحدكم أن تكون له جنة‏}‏ الآية فإنه تعالى لواقتصر على قوله جنة لكان كافيًا فلم يقف عند ذلك حتى قال في تفسيرها من نخيل وأعناب فإن مصاب صاحبها بها أعظم ثم زاد ‏{‏تجري من تحتها الأنهار‏}‏ متممًا لوصفها بذلك ثم كمل وصفها بعد التتميمين فقال له فيها من كل الثمرات فأتى بكل ما يكون في الجنان ليشتد الأسف على إفسادها‏.‏

ثم قال في وصف صاحبها ‏{‏وأصابه الكبر‏}‏ ثم استقصى المعنى في ذلك بما يوجب تعظيم المصاب بقوله بعد وصفه بالكبر وله ذرية ولم يقف عند ذلك حتى وصف الذرية بالضعفاء‏.‏

ثم ذكر استئصال الجنة التي ليس لهذا المصاب غيرها بالهلاك في أسرع وقت حيث قال فأصابها إصار ولم يقتصر على ذكره للعلم بأنه لا يحصل به سرعة الهلاك فقال فيه نار ثم لم يقف عند ذلك حتى أخبر باحتراقها لاحتمال أن تكون النار ضعيفة لا تفي باحتراقها لما فيه من الأنهار ورطوبة الأشجار فاحترس عن هذا الاحتمال بقوله فاحترقت فهذا أحسن استقصاء وقع فيه كلام وأتمه وأكمله‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ والفرق بين الاستقصاء والتتميم والتكميل أن التتميم يرد على المعنى الناقص ليتم فيكمل والتكميل يرد على المعنى التام أوصافه والاستقصاء يرد على المعنى التام الكامل فيستقصي لوازمه وعوارضه وأوصافه وأسبابه حتى يستوعب جميع ما تقع الخواطر عليه فيه فلا يبقى لأحد فيه مساغ‏.‏

النوع العشرون‏:‏ الاعتراض وسماه قدامة التفاتًا وهوالإتيان بجملة أوأكثر لا محل لها من الإعراب في أثناء كلام أوكلامين اتصلا معنى لنكتة غير دفع الإيهام كقوله ‏{‏ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون‏}‏ فقوله سبحانه اعتراض بتنزيه الله سبحانه وتعالى عن البنات والشناعة على جاعليها وقوله ‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين‏}‏ فجملة الاستثناء اعتراض للتبرك ومن وقوعه بأكثر من جملة فائتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم فقوله نساؤكم متصل بقوله فائتوهن لأنه بيان له وما بينهما اعتراض للحث على الطهارة وتجنب الأدبار وقوله ‏{‏يا أرض ابلعي ماءك‏}‏ إلى قوله ‏{‏وقيل بعدًا‏}‏ فيه اعتراض بثلاث جمل وهي ‏{‏وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودي‏}‏ قال في الأقصى القريب‏:‏ ونكتته إفادة أن هذا الأمر واقع بين القولين لا محالة ولوأتى به آخرًا لكان الظاهر تأخره فيتوسطه ظهر كونه غير متأخر ثم فيه اعتراض في اعتراض فإن ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ معترض بين وغيض واستوت لأن الاستواء يحصل عقب الغيض‏.‏

وقوله ‏{‏ولمن خاف مقام ربه جنتان‏}‏ إلى قوله ‏{‏متكئين على فرش‏}‏ فيه اعتراض بسبع جمل إذا أعرب حالًا منه‏.‏

ومن وقوع اعتراض بين القسم وجوابه بقوله ‏{‏وإنه لقسم‏}‏ الآية بين القسم وصفته بقوله لو تعلمون تعظيمًا للمقسم به وتحقيقًا لإجلاله وإلامًا لهم بأن له عظمة لا يعلمونها‏.‏

قال الطيبي في التبيان‏:‏ ووجه حسن الاعتراض حسن الإفادة مع أن مجيئه مجيء ما لا يترقب فيكون كالحسنة تأتيك من حيث لا تحتسب‏.‏

النوع الحادي والعشرون‏:‏ التعليل وفائدته التقرير والأبلغية فإن النفوس أبعث على قبول الأحكام المعللة من غيرها وغالب التعليل في القرآن على تقدير جواب سؤال اقتضته الجملة الأولى وحروفه اللام وإن وأن وإذ والباء وكي ومن ولعل وقد مضت أمثلتها في نوع الأدوات ومما يقتضي التعليل لفظ الحكمة كقوله ‏{‏حكمة بالغة وذكر الغاية من الخلق نحوقوله ‏{‏جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء‏}‏ ‏{‏ألم نجعل الأرض مهادًا والجبال أوتادًا‏}‏‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية   الفهرس   التالي