mozilla/4.5 (compatible; httrack 3.0x; windows 98) المكتبة الإسلامية - تاريخ ابن خلدون - الجزء الرابع
 
  تاريخ ابن خلدون  
   الجزء الرابع   
   ( 221 من 258 )  
  السابق   الفهرس   التالي  
  
 

  الخبر عن دولة بني عبد الواد

من هذه الطبقة الثانية وما كان لهم بتلمسان وبلاد المغرب الأوسط من الملك والسلطان وكيف كان مبدأ أمرهم ومصائر أحوالهم قد تقدم لنا في أول هذه الطبقة الثانية من زناتة ذكر بني عبد الواد هؤلاء وأنهم من ولد بادين بن محمد إخوة توجين ومصاب وزردال وبني راشد وأن نسبهم يرتفع إلى زحيك بن واسين بن ورشيك بن جانا وذكرنا كيف كانت حالهم قبل الملك في مواطنهم تلك‏.‏وكان إخوانهم بمصاب وجبل راشد وفيكيك وملوية ووصفنا من حال فتنتهم مع بني مرين إخوانهم المجتمعين معهم بالنسب في زحيك بن واسين‏.‏ولم يزل بنو عبد الواد هؤلاء بمواطنهم تلك وكان إخوانهم بنو راشد وبنو زردال وبنو مصاب منجدين إليهم بالنسب والحلف وبنو توجين منابذين لهم أكثر أزمانهم ولم يزالوا جميعاً متغلبين على ضاحية المغرب الأوسط عامة الأزمان وكانوا تبعاً فيه لبني ومانوا وبني يلومي حين كان لهم التغلب فيه‏.‏وربما يقال إن شيخهم لذلك العهد كان يعرف بيوسف بن تكفا حتى إذا نزل عبد المؤمن والموحدون نواحي تلمسان وسارت عساكرهم إلى بلاد زناتة تحت راية الشيخ أبي حفص فأوقعوا بهم كما ذكرناه حسنت بعد ذلك طاعة بني عبد الواد وانحياشهم إلى الموحدين وكانت بطونهم وشعوبهم فية أظهرها فيما يذكرون ستة‏:‏ بنو ياتكين وبنو وللو وبنو ورصطف ومصموحة وبنو تومرت وبنو القاسم‏.‏ويقولون بلسانهم ايت القاسم وايت حرف الإضافة النسبية عندهم‏.‏ويزعم بنو القاسم هؤلاء أنهم من ولد القاسم بن إدريس‏.‏وربما قالوا في هذا القاسم أنه ابن محمد بن إدريس أو ابن محمد بن عبد الله أو ابن محمد بن القاسم وكلهم من أعقاب إدريس مزعماً لا مستند له إلا اتفاق بني القاسم هؤلاء عليه مع أن البادية بعداء عن معرفة مثل هذه الأنساب‏.‏والله أعلم بصحة ذلك‏.‏وقد قال يغمراسن بن زيان أبو ملوكهم لهذا العهد لما رفع نسبهم إلى إدريس كما يذكرونه فقال برطانتهم ما معناه‏:‏ إن كان هذا صحيحاً فينفعنا عند الله‏.‏وأما الدنيا فإنما نلناها بسيوفنا‏.‏ولم تزل رياسة بني عبد الواد في بني القاسم لشدة شوكتهم واعتزاز عصبتهم وكانوا بطونا كثيرة‏:‏ فمنهم بنو يكنيمن بن القاسم‏.‏وكان منهم ويغرن بن مسعود بن يكنيمن وأخواه يكنيمن وعمر وكان أيضاً أعدوي بن يكنيمن الأكبر ويقال الأصغر‏.‏ومنهم أيضاً عبد الحق بن منغفاد من ولد ويغرن‏.‏وكانت الرياسة عليهم لعهد عبد المؤمن لعبد الحق بن منغفاد واعدوى بن يكنيمن‏.‏وعبد الحق بن منغفاد هو الذي استنفد الغنائم من يد بني مرين وقتل المخضب بمسوف حين بعثه عبد المؤمن مع الموحدين لذلك‏.‏والمؤرخون يقولون عبد الحق بن معاد بميم وعين مهملة مفتوحتين وألف بعدها دال وهو غلط وليس هذا اللفظ بهذا الضبط من لغة زناتة وإنما هو تصحيف منغفاد بميم ونون بعدها مفتوحتين وغين بعدهما معجمة ساكنة وفاء مفتوحة والله أعلم‏.‏ومن بطون بني القاسم بنو مطهر بن يمل بن يزكن بن القاسم‏.‏وكان حمامة بن مطهر من شيوخهم لعهد عبد المؤمن وأبلى في حروب زناتة مع الموحدين ثم حست طاعته وانحياشه ومن بطون بني القاسم أيضاً بنو علي وإليهم انتهت رياستهم وهم أشدهم عصبية وأكثرهم جمعاً وهم أربعة أفخاذ‏:‏ بنو طاع الله وبنو دلول وبنو كمي وبنو معطي بن جوهر والأربعة بنو علي‏.‏ونصاب الرياسة في بني طاع الله لبني محمد بن زكدان بن تيدوكسن بن طاع الله‏.‏هذا ملخص الكلام في نسبهم‏.‏ولما ملك الموحدون بلاد المغرب الأوسط وبلوا من طاعتهم وأنحياشهم ما كان سبباً لاستخلاصهم فأقطعوهم عامة بلاد بني يلومي وبني ومانوا وأقاموا بتلك المواطن وحدثت الفتنة بين بني طاع الله وبني كمي إلى أن قتل كندوز من بني كمي زيان بن ثابت كبير بني محمد بن زكدان وشيخهم‏.‏وقام بأمرهم بعده جابر ابن عمه يوسف بن محمد فثار من كندوز بزيان ابن عمه وقتله به في بعض أيامهم وحروبهم‏.‏ويقال قتله غيلة وبعث برأسه ورؤوس أصحابه إلى يغمراسن بن زيان بن ثابت فنصبت عليها القدور أثافي شفاية لنفوسهم من شأن أبيه زيان‏.‏وافترق بنو كمي وفر بهم عبد الله كندوز كبيرهم فلحقوا بتونس‏.‏ونزل على الأمير أبي زكرياء كما سنذكره بعد‏.‏واستبد جابر بن يوسف بن محمد برياسة بني عبد الواد‏.‏وأقام هذا الحي من بني عبد الواد بضواحي المغرب الأوسط حتى إذا فشل بني عبد المؤمن وانتزى يحيى بن غانية على جهات قابس وطرابلس وردد الغزو والغارات على بسائط إفريقية والمغرب الأوسط فاكتسحها وعاث فيها وكبس الأمصار فاقتحمها وانتهب بلاد زناتة وقتل أمراءهم ودخل تلمسان ووهران واستباحهما وغيرهما من بلاد المغرب الأوسط وألح على تاهرت بالغارة وإفساد السابلة وانتهاب الزرع وحطم النعم إلى أن خربت وعفى رسمها لسني الثلاثين من الماية السابعة‏.‏وكانت تلمسان لذلك العهد نزلاً للحامية ومناخاً للسيد من القرابة الذي يضم نثرها ويذب عن أنحائها‏.‏وكان المأمون استعمل على تلمسان أخاه السيد أبا سعيد وكان غفلا ضعيف التدبير‏.‏وغلب الحسن بن حبون من مشيخة قومه كومية وكان عاملاً على الوطن وكانت في نفسه من بني عبد الواد ضغائن جرها ما كان حدث لهم من التغلب على الضاحية وكان في حامية تلمسان لمة من بقايا لمتونة تجافت الدولة عنهم وأثبتهم عبد المؤمن في الديوان وجعلهم مع الحامية‏.‏وكان زعيمهم في ذلك العهد إبراهيم بن إسماعيل بن علان وشفع عندهم في المشيخة المعتقلين من بني عبد الواد فردوه فغضب وحمى أنفه وأجمع الانتقاض والقيام بدعوة ابن غانية فجدد ملك المرابطين من قومه بقاصية الشرق فاغتار الحسن بن حبون لحينه وتقبض على السيد أبي سعيد وأطلق المشيخة من بني عبد الواد ونقض طاعة المأمون وذلك سنة أربع وعشرين‏.‏فطير إلى ابن غانية فأغذ إليه السير‏.‏ثم بدا له في أمر بني عبد الواد ورأى أن ملاك أمره في حضد شوكتهم وخفض جناحهم فحدث نفسه بالفتك بمشيختهم ومكر بهم في دعوة واعدهم لها‏.‏وفطن لتدبير ذلك جابر بن يوسف شيخ بني عبد الواد فواعده اللقاء والمؤازرة وطوى له على النث وخرج إبراهيم بن علان إلى لقائه ففتك به جابر‏.‏وبادر إلى البلد فنادى بدعوة المأمون وطاعته وكشف لأهلها القناع عن مكر ابن علان بهم وما أوقعهم فيه من ورطة ابن غانية فحمدوا رأيه وشكروا جابراً على صنيعه وجددوا البيعة للمأمون‏.‏واجتمع إلى جابر في أمره هذا كافة بني عبد الواد وأحلافهم من بني راشد وبعث إلى المأمون بطاعته واعتماله في القيام بدعوته فخاطبه بالشكر وكتب له العهد على تلمسان وسائر بلاد زناتة على رسم السادة الذين كانوا يلون ذلك من القرابة فاضطلع بأمر المغرب الأوسط وكانت هذه الولاية ركابا إلى صهوة الملك الذي اقتعدوه‏.‏ثم انتقض عليه أهل ندرومة بعد ذلك فنازلهم وهلك في حصارها بسهم غرب أثبته سنة تسع وعشرين‏.‏وقام بالأمر من بعده ابنه الحسن وجدد له المأمون عهده بالولاية ثم ضعف عن الأمر وتخلى عنه لستة أشهر من ولايته‏.‏ودفع إليه عمه عثمان بن يوسف وكان سيء الملكة كثير العسف والجور فثارت به الرعايا بتلمسان وأخرجوه سنة إحدى وثلاثين وارتضوا لمكانه ابن عمه زكران بن زيان بن ثابت الملقب بأبي عزة فاستدعوه لها وولوه على أنفسهم وبلدهم وسلموا له أمرهم‏.‏وكان مضطلعاً بأمر زناتة مستبداً برياستهم ومستولياً على سائر الضواحي فنفس أبو مطهر عليه وعلى قومه بني علي إخوانهم ما آتاهم الله من الملك وأكرمهم به من السلطان‏.‏وجسدوا زكران وسلفه فيما صار لهم من الملك فشاقوه ودعوا إلى الخروج عليه‏.‏واتبعهم بنو راشد بن محمد أحلافهم منذ عهد الصحراء وجمع لهم أبو عزة سائر قبائل بني عبد الواد فكانت بينه وبينهم حرب سجال هلك في بعض أيامها سنة ثلاث وثلاثين‏.‏وقام بالأمر من بعده أخوه يغمراسن بن زيان فوقع التسليم والرضى به من سائر القبائل ودان له بالطاعة جميع الأمصار‏.‏وكتب له الخليفة الرشيد بالعهد على عمله وكان له ذلك سلماً إلى الملك الذي أورثه تلمسان

  الخبر عن تلمسان

وما تأدى إلينا من أحوالها من لدن الفتح إلي أن تأثل بها سلطان بني عبد الواد ودولتهم هذه المدينة قاعدة المغرب الأوسط وأم بلاد زناتة اختطها بنو يفرن بما كانت في مواطنهم ولم نقف على أخبارها فيما قبل ذلك‏.‏وما يزعم بعض العوام من ساكنها أنها أزلية البناء وإن الجدار الذي ذكر في القرآن في قصة الخفر وموسى عليهما السلام هو بناحية أكادير منها فأمر بعيد عن التحصيل لأن موسى عليه السلام لم يفارق المشرق إلى المغرب وبنو إسرائيل لم يتسع ملكهم لإفريقية فضلا عما وراءها وإنما هي من مقالات التشيع المجبول عليه أهل العالم في تفضيل ما ينسب إليهم أو ينسبون إليه من بلد أو أرض أو علم أو صناعة‏.‏ولم نقف لها على خبر أقدم من خبر ابن الرقيق بأن أبا المهاجر الذي ولي إفريقية بين ولايتي عقبة بن نافع الأولى والثانية توغل في ديار المغرب ووصل إلى تلمسان وبه سميت عيون المهاجر قريباً منها‏.‏وذكرها الطبري عند ذكر أبي قرة اليفرني وأجلابه مع أبي حاتم والخوارج مع عمر بن حفص بطبنة‏.‏ثم قال فأفرجوا عنه وانصرف أبو قرة إلى مواطنه بنواحي تلمسان‏.‏وذكرها ابن الرقيق أيضاً في أخبار إبراهيم بن الأغلب قبل إستبداده بإفريقية وأنه توغل في غزوه إلى المغرب ونزلها واسمها في لغة زناتة مركب من كلمتين تلم سين ومعناهما تجمع من اثنين يعنون إلى البر والبحر‏.‏ولما خلص إدريس الأكبر بن عبد الله بن المحسن إلى المغرب الأقصى واستولى عليه نهض إلى المغرب الأوسط سنة أربع وسبعين فتلقاه محمد بن خزر بن صولات أمير زناتة وتلمسان فدخل في طاعته وحمل عليها مغراوة وبني يفرن وأمكنه من تلمسان فملكها واختط مسجدها وصنع منبره وأقام بها أشهراً وانكفأ راجعاً إلى المغرب‏.‏وجاء على أثره من المشرق أخوه سليمان بن عبد الله فنزلها وولاه أمرها‏.‏ثم هلك إدريس وضعف أمرهم‏.‏ولما بويع لابنه إدريس من بعده واجتمع إليه برابرة المغرب نهض إلى تلمسان سنة تسع وتسعين وماية فجدد مسجدها وأصلح منبرها وأقام بها ثلاث سنين ودوخ فيها بلاد زناتة واستوسقت له طاعتهم‏.‏وعقد عليها لبني محمد ابن عمه سليمان‏.‏ولما هلك إدريس الأصغر واقتسم بنوه أعمال المغربين بإشارة أمه كنزة كانت تلمسان في سهمان عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان وأعمالهما لبني أبيه محمد بن سليمان‏.‏فلما انقرضت دولة الأدارسة من المغرب وولي أمره موسى بن أبي العافية بدعوة الشيعة نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة وغلب عليها أميرها لذلك العهد الحسن بن أبي العيش بن عيسى بن إدريس بن محمد بن سليمان ففر عنها إلى مليلة وبنى ولما تغلب الشيعة على المغرب الأوسط أخرجوا أعقاب محمد بن سليمان من سائر تلمسان فأخذا بدعوة بني أمية من وراء البحر وأجازوا إليهم‏.‏وتغلب يعلى اليفرني على بلاد زناتة والمغرب الأوسط فعقد له الناصر الأموي عليها وعلى تلمسان أعوام أربعين وثلاثماية‏.‏ولما هلك يعلى وقام بأمر زناتة بعده محمد بن الخير بن محمد بن خزر داعية الحكم المستنصر فملك تلمسان أعوام ستين‏.‏وهلك في حروب وغلبوهم على بلادهم وانجلى إلى المغرب الأقصى‏.‏ودخلت تلمسان في عمالة صنهاجة إذ انقسمت دولتهم وافترق أمرهم‏.‏واستقل بإمارة زناتة وولاية زيري بن عطية وطرده المنصور بن أبي عامر عن المغرب فصار إلى بلاد صنهاجة وأجلب عليها ونازل معاقلها وأمصارها‏:‏ مثل تلمسان ووهران وتنس وأشير والمسيلة‏.‏ثم عقد المظفر بعد حين لابنه المعز بن زيري على عمل المغرب سنة ست وسبعين واستعمل على تلمسان ابنه يعلى بن زيري واستقرت ولايتها في عقبه إلى أن انقرض أمرهم على يد لمتونة‏.‏وعقد يوسف بن تاشفين عليها لمحمد بن تينعمر المسوفي مهإخيه تاشفين من بعده واستحكمت الفتنة بينه وبين المنصور بن الناصر صاحب القلعة من ملوك بني حماد ونهض إلى تلمسان وأخذ بمخنقهاوكان يغلب عليهاكما ذكرنا ذلك في مواضعه ولما غلب عبد المؤمن لمتونة وقتل تاشفين بن علي بوهران خربها وخرب تلمسان بعد أن قتل الموحد ون عامة أهلها وذلك أعوام أربعين من الماية السادسة‏.‏ثم راجع رأيه فيها وندب الناس إلى عمرانها وجمع الأيدي على رم ما تثلم من أسوارها وعقد عليها لسليمان بن وانودين من مشايخ هنتاتة وآخى بين الموحدين وبين هذا الحي من بني عبد الواد بما بلى من طاعتهم وانحياشهم ثم عقد عليها لابنه السيد أبي حفص ولم يزل آل عبد المؤمن من بعد ذلك يستعملون عليها من قرابتهم وأهل بيتهم ويرجعون إليه أمر المغرب كله وزناتة أجمع اهتمامًا بأمرها واستعظامًا لعملها‏.‏وكان هؤلاء الأحياء من زناتة بنو عبد الواد وبنو توجين وبنو راشد قد غلبوا على ضواحي تلمسان والمغرب الأوسط وملكوها وتقلبوا في بسائطها واحتازوا بأقطاع الدولة الكثير من أرضها والطيب من بلادها والوافر للجباية من قبائلها فإذا خرجوا إلى مشايخهم بالصحراء خلفوا أتباعهم بالتلول لاعتمار أرضهم وازدراع فدنهم وجباية الخراج من رعاياهم‏.‏وكان بنو عبد الواد من ذلك فيما بين البطحاء وملوية ساحله وريفه وصحراءه‏.‏وصرف ولاة الموحدين بتلمسان من الساعة نظرهم واهتمامهم إلى تحصينها وتشييد أسوارها وحشد الناس إلى عمرانها والتناغي في تمصيرها واتخاذ الصروح والقصور بها والاحتفال في مقاصر الملك واتساع خطة الدور‏.‏وكان من أعظمهم اهتماماً بذلك وأوسعهم فيه نظراً السيد أبو عمران موسى ابن أمير المؤمنين يوسف العشري ووليها سنة ست وخمسين على عهد أبيه يوسف بن عبد المؤمن‏.‏واتصلت أيام ولايته فيها فشيد بناءها وأوسع خطتها وأدار سياج الأسوار عليها‏.‏ووليها من بعد السيد أبو الحسن بن السيد أبي حفص بن عبد المؤمن وتقبل فيها مذهبه‏.‏ولما كان من أمر بني غانية وخروجهم من ميورقة سنة إحدى وثمانين ما قدمناه وكبسوا بجاية فملكوها وتخطوا إلى الجزائر ومليانة فغلبوا عليهما تلافى السيد أبو الحسن أمره بإمعان النظر في تشييد أسوارها والاستبلاع في تحصينها وسد فروجها وأعماق الحفائر نطاقاً عليها حتى صيرها أمنع معاقل المغرب وأحسن أمصاره‏.‏وتقبل ولاتها بهذا المذهب من بعده في المعتصم بها‏.‏واتفق من الغريب أن أخاه السيد أبا زيد هو الذي دفع لحرب بني غانية فكان لهما في رقع الخرق والمدافعة عن الدولة آثار‏.‏وكان ابن غانية قد اجتمع إليه ذؤبان العرب من الهلاليين بإفريقية وخالفهم زغبة إحدى بطونهم إلى الموحدين وتحيزوا إلى زناتة المغرب الأوسط وكان مفزعهم جميعاً ومرجع نقضهم وإبرامهم إلى العامل بتلمسان من السادة في مثواهم وحامي حقيقتهم‏.‏وكان ابن غانية كثيراً ما يجلب على ضواحي تلمسان وبلاد زناتة ويطرقها بمن معه من ناعق الفتنة إلى أن خرب الكثير من أمصارها مثل تاهرت وغيرها فأصبحت تلمسان قاعدة المغرب الأوسط وأم هؤلاء الأحياء من زناتة المغرب والكافلة لهم المهيئة في حجرها مهاد نومتهم بما خربت المدينتان اللتان كانتا من قبل قواعد الدول السالفة والعصور الماضية وهما‏:‏ أرشكول بسيف البحر وتاهرت فيما بين الريف والصحراء قبلة البطحاء‏.‏وكان خراب هاتين المدينتين فيما خرب من أمصار المغرب الأوسط فى فتنة ابن غانية وبأجلاب هؤلاء الأحياء من زناتة وطلوعهم على أهلها بسوم الخسف والعيث والنهب وتخطف الناس من السابلة وتخريب العمران ومغالبتهم حاميتها من عساكر الموحدين‏:‏ مثل قصر عجيسة وزرقة والخضراء وشلف ومتيجة وحمزة ومرسى الدجاج والجعبات والقلعة فلم تبصر بها نار ولا لفحت بها لنافح ضرمة ولا صرخت لها آخر الدهر ديكة‏.‏ولم يزل عمران تلمسان يتزايد وخطتها تتسع والصروح بها بالآجر والقرميد تعالى وتشاد إلى أن نزلها آل زيان واتخذوها داراً لملكهم وكرسياً لسلطانهم فاختطوا بها القصور المونقة والمنازل الحافلة واغترسوا الرياض والبساتين وأجروا خلالها المياه فأصبحت أعظم أمصار المغرب‏.‏ورحل إليها الناس من القاصية ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع فنشأ بها العلماء واشتهر فيها الأعلام‏.‏وضاهت أمصار الدول الإسلامية والقواعد الخلافية‏.‏والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏

  الخبر عن استقلال يغمراسن بن زيان بالملك والدولة بتلمسان وما إليها

وكيف مهد الأمر لقومه و أصاره تراثاً لبنيه كان يغفراسن بن زيان بن ثابت بن محمد من أشد هذا الحي بأساً وأعظمهم في النفوس مهابة وجلالة وأعرفهم بمصالح قبيله وأقواهم كاهلا على حمل الملك واضطلاعاً بالتدبير والرياسة مهدت له بذلك آثار قبل الملك وبعده‏.‏وكان مرموقاً بعين التجلة مؤملاً للأمر عند المشيخه‏.‏وتعظمة من أمره عند الخاصة ويفزع إليه في نوائبه العامة‏.‏فلما ولي هذا الأمر بعد مهلك أخيه أبي عزة زكدان بن زيان سنة ثلاث وثلاثين فقام به أحسن قيام واضطلع بأعبائه وظهر على بني مطهر وبني راشد الخارجين على أخيه وأصارهم فى جملته وتحت سلطانه‏.‏وأحسن السيرة في الرعية واستمال عشيره وقبيله وأحلافهم من زغبة بحسن السياسة والاصطناع وكرم الجوار واتخذ الآلة ورتب الجنود والمسالح واستلحق العساكر من الروم والغز رامحة وناشبة‏.‏وفرض العطاء واتخذ الوزراء والكتاب وبعث في الجهات العمال ولبس شارة الملك والسلطان واقتعد الكرسي ومحا من آثار الدولة المؤمنية وعطل من الأمر والنهي دستها ولم يترك رسوم دولتهم وألقاب ملكهم إلا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش وتناول التقليد والعهد من يده تأنيساً للكافة ومرضاة للأكفاء من قومه‏.‏ووفد عليه لأول دولته ابن وضاح إثر دولة الموحدين أجاز البحر مع جالية المسلمين من شرق الأندلس فآثره وقرب مجلسه وأكرم نزله وأحله من الخلة والشورى بمكان اصطفاه له‏.‏ووفد في جملته أبو بكر بن الخطاب المبايع لأخيه بمرسيه وكان مرسلاً بليغاً وكاتباً مجيداً وشاعراً محسناً فاستكتبه وصدر عنه من الرسائل في خطاب خلفاء الموحدين بمراكش وتونر في عهود بيعاتهم ما تنوقل وحفظ‏.‏ولم يزل يغمراسن محامياً عن غيله محارباً لعدوه‏.‏وكانت له مع ملوك الموحدين من آل عبد المؤمن ومديلهم من آل أبي حفص مواطن في التمرس به ومنازلة بلده نحن ذاكرون كذلك‏.‏وبينه وبين أقتاله بني مرين قبل ملكهم المغرب وبعد ملكه وقائع متعددة‏.‏وله على زناتة الشرق من توجين ومغراوة في فل جموعهم وانتساف بلادهم وتخريب أوطانهم أيام مذكورة وآثار معروفة نشير الى جميعها إن شاء الله تعالى‏.‏

  الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكرياء علي تلمسان ودخول يغمراسن في دعوته

ولما استقل يغمراسن بن زيان بأمر تلمسان والمغرب الأوسط وظفر بالسلطان وعلا كعبه على سائر أحياء زناته نفسوا عليه ما آتاه اللة من العز وكرمه به من الملك فنابذوه العهد وشاقوه الطاعة وركبوا له ظهر الخلاف والعداوة فشمر لحربهم ونازلهم في ديارهم وأحجرهم في حصونهم ومعتصماتهم من شواهق الجبال وممتنع الأمصار‏.‏وكانت له عليهم أيام مشهورة ووقائع مذكورة معروفة وكان متولي كبر هذه المشاقة عبد القوي بن العباس شيخ بن توجين أقتالهم من بني بادين والعباس بن منديل بن عبد الرحمن وإخوته أمراء مغراوة‏.‏وكان المولى الأمير أبو زكرياء بن أبي حفص منذ استقل بأمر إفريقية واقتطعها عن الإيالة المؤمنية سنة خمس وعشرين كما ذكرناه متطاولاً إلى احتياز المغرب والاستيلاء على كرسي الدعوة بمراكش وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحياء من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة‏.‏وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة آل عبد المؤمن أقام دوعوتهم بعمله متحيزاً إليهم سلماً لوليهم وحرباً على عدوهم‏.‏وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة وعاوده الإتحاف بأنواع الألطاف والهدايا عام سبعة وثلاثين تقمناً لمسراته وميلاً إليه عن جانب أقتاله بني مرين المجلبين على المغرب والدولة‏.‏واحفظ الأمير أبا زكرياء يحيى بن عبد الوأحد صاحب إفريقية ما كان من اتصال يغمراسن بالرشيد وهو من جواره بالمحل القريب واستكره ذلك‏.‏وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي بن العباس وولد منديل بن محمد صريخاً على يغمراسن فسهلوا له أمره وسولوا له الاستيلاء على تلمسان وجمع كلمة زناتة واعتداد ذلك ركاباً لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين وانتظامه في أمره وسلماً لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه وباباً للولوج على أهله فحركه أملاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم وأهاب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في عمله من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطعوا لداعيه ونهض سنة تسع وثلاثين في عساكر ضخمة وجيوش وافرة وسرح إمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة وأتباعهم وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم من العرب وضرب لهم موعداً لموافاتهم في تخوم بلادهم‏.‏ولما نزل زاغر قبلة تيطرى منتهى مجالات رياح وبني سليم في المغرب وافته هنالك أحياء زغبة من بني عامر وسويد وارتحلوا معه حتى نازل تلمسان فجمع عساكر الموحدين وحشد زناتة وظعن المغرب بعد أن قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة والأعذار والبراءة والدعاء إلى الطاعة فرجعهم بالخيبة‏.‏ولما حلت العساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه للقاء نضحتهم ناشبة السلطان بالنبل فانكشفوا ولاذوا بالجدران وأعجزوا من حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود‏.‏ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفاً على ذويه وخاصته واعترضته عساكر الموحدين فصمم نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له ولحق بالصحراء‏.‏وانسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال‏.‏ولما تجلى غشي تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة وخمدت نار الحرب راجع الموحدون وأنعم الأمير أبو زكرياء نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة عبد المؤمن والمدافعة عنها‏.‏واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرأ أمراء زناتة منه ضعفاً عن مقاومة يغمراسن وعلماً بأنه الفحل الذي لا يقرع أنفه ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته‏.‏وسرح يغمراسن الغارات في نواحي المعسكر فاختطفوا الناس من حوله وأطلوا من المراقب عليه‏.‏وخاطب يغمراسن خلال ذلك الأمير أبا زكرياء رغباً في القيام بدعوته بتلمسان فراجعه بالإسعاف واتصال اليد على صاحب مراكش وسوغه على ذلك جباية اقتطعها له وأطلق أيدي العمال ليغمراسن لجبايتها‏.‏ووفدت أمه سوط النساء لاشتراط القبول فأكرم موصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله‏.‏وفي أثناء طريقه وسوس إليه بعض الحاشية باستبداد يغمراسن عليه وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة وأمراء المغرب الأوسط شجا في صدره ومعترضاً عن مرامه وإلباسهم ما لبس من شارة السلطان وزيه فأجابهم‏.‏وقلد عبد القوي بن عطية التوجيني والعباس بن منديل المغراوي وعلي بن منصور المليكشي من قومهم ووطنهم وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوها بحضرته وبمشهد من ملوك الموحدين وأقاموا مراسمها ببابه وأغذ السير إلى تونس قرير العين بامتداد ملكه وبلوغ وطره والإشراف على إذعان المغرب لطاعته وانقياده لحكمه وإدالة دعوة بني عبد المؤمن فيه بدعوته‏.‏ودخل يغمراسن بن زيان ووفى للأمير أبي زكرياء بعهده وأقام له الدعوة على سائر منابره وصرف إلى مشانيه من زناتة وجوه عزائمه فأذاق عبد القوي بن العباس وأولاد منديل نكال الحرب وسامهم سوء العذاب والفتنة وجاس خلال ديارهم وتوغل في بلادهم وغلبهم على الكثير من ممالكهم وشرد من الأمصار والقواعد ولاتهم وأشياعهم ودعاتهم ورفع عن الرعية ما نالهم من عدوانهم وسوء ملكتهم وثقل عسفهم وجورهم‏.‏ولم يزل على تلك الحال إلى أن كان من حركة صاحب مراكش بسبب أخذ يغمراسن بالدعوة الحفصية ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

  السابق   الفهرس   التالي