mozilla/4.5 (compatible; httrack 3.0x; windows 98) المكتبة الإسلامية - الإتقان في علوم القرآن - الإتقان في علوم القرآن
 
  الإتقان في علوم القرآن  
   الإتقان في علوم القرآن   
   ( 22 من 30 )  
  السابق   الآيات القرآنية   الفهرس   التالي  
  
 

 النوع السابع والخمسون في الخبر والإنشاء

اعلم أن الحذاق من النحاة وغيرهم وأهل البيان قاطبة على انحصار الكلام فيهما وأنه ليس له قسم ثالث وادعى قوم من أقسام الكلام عشرة‏:‏ نداء ومسئلة وأمر وتشفع وتعجب وقسم وشرط ووضع وشك واستفهام‏.‏

وقيل تسعة بإسقاط الاستفهام لدخوله في المسئلة‏.‏

وقيل سبعة بإسقاط الشك لأنه من قسم الخبر‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ هي ستة‏:‏ خبر واستخبار وأمر ونهي ونداء وتمن‏.‏

وقال بعضهم خمسة‏:‏ خبر وأمر وتصريح وطلب ونداء‏.‏وقال قوم‏:‏ أربعة‏:‏ خبر واستخبار وطلب ونداء‏.‏

وقال كثيرون‏:‏ ثلاثة‏:‏ خبر وطلب وإنشاء‏.‏

قالوا لأن الكلام إما أن يحتمل التصديق والتكذيب أولًا‏.‏

الأول الخبر‏.‏

والثاني إن اقترن معناه بلفظه فهوالإنشاء وإن لم يقترن بل تأخر عنه فهوالطلب‏.‏

والمحققون على دخول اطلب في الإنشاء وأن معنى اضرب مثلًا وهوطلب الضرب مقترن بلفظه وأما الضرب الذي يوجد بعد ذلك فهومتعلق الطلب لا نفسه‏.‏

وقد اختلف الناس في حد الخبر فقيل‏:‏ لا يحد لعسره وقيل لأنه ضروري لأن الإنسان يفرق بين الإنشاء والخبر ضرورة ورجحه الإمام في المحصول والأكثر على حده فقال القاضي أبو بكر والمعتزلة‏:‏ الخبر الكلام الذي يدخله الصدق والكذب فأورد عليه خبر الله تعالى فإنه لا يكون إلا صادقًا فأجاب القاضي بأنه يصح دخوله لغة‏.‏

وقيل الذي يدخله التصديق والتكذيب وهوسالم من الإيراد المذكور‏.‏

وقال أبو الحسن البصري‏:‏ كلام يفيد بنفسه نسبة فأورد عليه قم فإنه يدخل في الحد لأن القيام منسوب والطلب منسوب‏.‏

وقيل الكلام ليفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من الأمور نفيًا أوإثباتًا‏.‏

وقيل القول ليقتضي بصريحه نسبة معلوم إلى معلوم بالنفي أوالإثبات‏.‏

وقال بعض المتأخرين‏:‏ الإنشاء ما يحصل مدلوله في الخارج بالكلام والخبر خلافه‏.‏

وقال بعض من جعل الأقسام ثلاثة‏:‏ الكلام إن أفاد بالوضع طلبًا فلا يخلوإما أن يكون بطلب ذكر الماهية أوتحصيلها أوالكف عنها والأول الاستفهام والثاني الأمر والثالث النهي وإن لم يفد طلبًا بالوضع فإن لم يحتمل الصدق والكذب سمي تنبيهًا وإنشاء لأنك نبهت به عن مقصودك وأنشأته‏:‏ أي ابتكرته نم غير ا يكون موجودًا في الخارج سواء أفاد طلبًا باللازم كالتمني والترجي والنداء والقسم أم لا كأنت طالق وإن احتملهما من حيث فهوخبر‏.‏

فصل القصد بالخبر إفادة المخاطب وقد يرد بمعنى الأمر نحو والوالدات يرضعن والمطلقات يتربصن وبمعنى النهي محو ‏{‏لا يمسه إلا المطهرون‏}‏ وبمعنى الدعاء نحو ‏{‏وإياك نستعين‏}‏ أي أعنا ومنه تبت يدا أبي لهب وتب فإنه دعاء عليه وكذا قاتلهم الله غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا وجعل منه قوم حصرت صدورهم قالوا هودعاء عليهم بضيق صدورهم عن قتال أحد‏.‏

ونازع ابن العربي في قولهم إن الخبر يرد بمعنى الأمر أوالنهي‏.‏

قال في قوله تعالى فلا رفث ليس نفيًا لوجود الرفث بل نفي لمشروعيته فإن الرفث يوجد من بعض الناس وأخبار الله تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعًا إلى وجوده محسوسًا كقوله ‏{‏والمطلقات يتربصن ومعناه مشروعًا لا محسوسًا فإنا نجد مطلقات لا يتربصن فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي وكذا لا يمسه إلا المطهرون أي لا يمسه أحد منهم شرعًا فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع‏.‏

قال‏:‏ وهذه الدفينة التي فاتت العلماء فقالوا‏:‏ إن الخبر يكون بمعنى النهي وما وجد ذلك قط ولا يصح أن يوجد فإنها مختلفان حقيقة ويتباينان وضعًا انتهى‏.‏

فرع من أقسامه على الأصح التعجب‏.‏

قال ابن فارس‏:‏ وهوتفضيل شيء على أضرابه‏.‏

وقال من الصائغ‏:‏ استعظام صفة خرج بها المتعجب منه عن نظائره‏.‏وقال الزمخشري‏:‏ معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله‏.‏

وقال الرماني‏:‏ المطلوب في التعجب الإبهام لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما لا يعرف سببه فكل ما استبهم السبب كان التعجب أحسن‏.‏

قال‏:‏ وأصل التعجب إنما هوللمعنى الخفي سببه والصيغة الدالة عليه تسمى تعجبًا مجازًا‏.‏

قال‏:‏ ومن أجل الإبهام لم تعمل نعم إلا في الجنس من اجل التفخيم ليقع التفسير على نحوالتفخيم بالإضمار قبل الذكر ثم قد وضعوا للتعجب صيغًا من لفظه وهي ما أفعل وأفعل به وصيغًا من غير لفظه نحوكبر كقوله ‏{‏كبرت كلمة تخرج من أفواههم‏}‏ ‏{‏كبر مقتًا عند الله‏}‏ ‏{‏كيف تكفرون بالله‏}‏‏.‏

قاعدة قال المحققون‏:‏ إذا ورد التعجب من الله صرف إلى المخاطب كقوله ‏{‏فما أصبرهم على النار أي هؤلاء يجب أن يتعجب منهم وإنما لا يوصف تعالى بالتعجب لأنه استعظام يصحبه الجهل وهوتعالى منزه عن ذلك ولهذا تعبر جماعة بالتعجب بدله‏:‏ أي أنه تعجيب من الله للمخاطبين ونظير هذا مجيء الدعاء والترجي منه تعالى إنما هوبالنظر إلى ما تفهمه العرب‏:‏ أي هؤلاء يجب أن يقال لهم عندكم هذا ولذلك قال سيبويه في قوله ‏{‏لعله يتذكر أويخشى المعنى‏:‏ اذهبا على رجائكما وطمعكما وفي قوله ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ ‏{‏ويل يومئذ للمكذبين‏}‏ لا تقل هذا دعاء لأن الكلام بذلك قبيح ولكن العرب إنما تكلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون فكأنه قيل لهم ويل للمطففين أي هؤلاء ممن وجب القول لهم لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشرور الهلكة فقيل هؤلاء ممن دخل في الهلكة‏.‏

فرع من أقسام الخبر الوعد والوعيد نحو ‏{‏سنريهم آياتنا في الآفاق‏}‏ ‏{‏وسيعلم الذين ظلموا‏}‏ وفي كلام ابن قتيبة ما يوهم أنه إنشاء‏.‏

فرع من أقسام الخبر النفي بل هوشطر الكلام كله والفرق بينه وبين الجحد أن النافي إن كان صادقًا سمي كلامه نفيًا ولا يسمى جحدًا وإن كان كاذبًا سمي جحدًا ونفيًا أيضًا فكل جحد نفي وليس كل نفي جحدًا ذكره أبوجعفر النحاس وابن الشجري وغيرهما‏.‏

مثال النفي ‏{‏ما كان محمدًا أبا أحد من رجالكم‏}‏ ومثال الجحد نفي فرعون وقومه آيات موسى قال تعالى ‏{‏فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنها أنفسهم‏}‏ وأدوات النفي لا ولا ت وليس وما وإن ولم ولما وقد تقدمت معانيها وما افترقت فيه في نوع الأدوات ونورد هنا فائدة زائدة قال الحوبي‏:‏ أصل أدوات النفي لوما لأن النفي إما في الماضي وإما في المستقبل والاستقبال أكثر من الماضي أبدًا ولا أخف من ما فوضعوا الأخف للأكثر ثم إن النفي في الماضي إما أن يكون نفيًا واحدًا مستمرًا أونفيًا فيه أحكام متعددة وكذلك النفي في المستقبل فصار النفي على أربعة أقسام واختاروا له أربع كلمات ما ولم ولن ولا وأما إن ولما فليسا بأصلين فما ولا في الماضي والمستقبل متقابلان ولم كأنه مأخوذ من لا وما لأن لم نفي للاستقبال لفظًا والمضي معنى فأخذ اللام من لا التي هي لنفي المستقبل والميم من ما التي هي لنفي الماضي وجمع بينهما إشارة إلى أن في لم إشارة إلى المستقبل والماضي وقدم اللام على الميم إشارة إلى أن لا هي أصل النفي ولهذا ينفى بها في أثناء الكلام فيقال‏:‏ لم يفعل زيد ولا عمرو‏.‏

وأما لما فتركيب بعد تركيب كأنه قال‏:‏ لم وما لتوكيد معنى النفي في الماضي وتفيد الاستقبال أيضًا ولهذا تفيد لما الاستمرار‏.‏

تنبيهات‏:‏ الأول زعم بعضهم أن شرط صحة النفي عن الشيء صحة اتصال المنفي عنه بذلك الشيء وهومردود بقوله تعالى ‏{‏وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏ ‏{‏وما كان ربك نسيًا‏}‏ ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ ونظائره والصواب أن انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلًا وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه

الثاني‏:‏ نفي الذات الموصوفة قد يكون نفيًا للصفة دون الذات وقد يكون نفيًا للذات أيضًا‏.‏

من الأول ‏{‏وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام‏}‏ أي بل هم جسدًا يأكلونه‏.‏

ومن الثاني ‏{‏لا يسألون الناس إلحافًا‏}‏ أي لا سؤال لهم أصلًا فلا يحصل منهم إلحاف ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع أي لا شفيع لهم أصلًا ‏{‏فما تنفعهم شفاعة الشافعين‏}‏ أي لا شافعين لهم تنفعهم شفاعتهم بدليل فما لنا من شافعين ويسمى هذا النوع عند أهل البديع نفي الشيء بإيجابه‏.‏

وعبارة ابن رشيق في تفسيره‏:‏ أن يكون الكلام ظاهره إيجاب الشيء وباطنه نفيه بأن ينفي ما هومن سببه كوصفه وهوالمنفي في الباطن‏.‏

وعبارة غيره‏:‏ أن ينفي الشيء مقيدًا والمراد نفيه مطلقًا مبالغة في النفي وتأكيدًا له ومنه ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به فإن إله مع الله لا يكون إلا عن غير برهان ويقتلون النبيين بغير حق فإن قتلهم لا يكون إلا بغير حق رفع السموات بغير عمد ترونها فإنها لا عمد لهن أصلًا‏.‏

الثالث‏:‏ قد يرد به نفي الشيء رأسًا لعدم رأسًا لعدم كمال وصفة وانتفاء ثمرته كقوله في صفة أهل النار ‏{‏لا يموت فيها ولا يحيا‏}‏ فنفي عنه الموت لأنه ليس بموت صريح ونفى عنه الحياة لأنها ليست بحياة طيبة ولا نافعة ‏{‏وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون‏}‏ فإن المعتزلة احتجوا بها على نفي الرؤية فإن النظر في قوله تعالى ‏{‏إلى ربها ناظرة‏}‏ لا يستلزم الإبصار‏.‏ورد بأن المعنى أنها تنظر إليه بإقبالها عليه وليست تبصر شيئًا ‏{‏ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون‏}‏ فإنه وصفهم أولًا بالعلم على سبيل التوكيد القسمي ثم نفاه آخرًا عنهم لعدم جريهم على موجب العلم قاله السكاكي‏.‏

الرابع‏:‏ قالوا المجاز يصح نفيه بخلاف الحقيقة وأشكل على ذلك ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏ فإن المنفي فيه الحقيقة‏.‏

وأجيب بأن المراد بالرمي هنا المترتب عليه وهووصوله إلى الكفار فالوارد عليه النفي هنا مجاز لا حقيقة والتقدير‏:‏ وما رميت خلقًا إذ رميت كسبًا الخامس‏:‏ نفي الاستطاعة قد يراد به نفي القدرة والإمكان وقد يراد نفي الامتناع وقد يراد به الوقوع بمشقة وكلفة من الأول ‏{‏فلا يستطيعون توصية‏}‏ ‏{‏فلا يستطيعون ردها‏}‏ ‏{‏فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا‏}‏ ومن الثاني هل يستطيع ربك على لا قراءتين‏:‏ أي هل يفعل أوهل تجيبنا إلى أن تسأل فقد علموا أنه قادر على الإنزال وا عيسى قادر على السؤال‏.‏

ومن الثالث ‏{‏إنك لن تستطيع معي صبرًا‏}‏ قاعدة نفي العام يدل على نفي الخاص وثبوته لا يدل على ثبوته وثبوت الخاص يدل على ثبوت العام ونفيه لا يدل على نفيه ولا شك أن زيادة المفهوم من اللفظ توجب الالتذاذ به فلذلك كان نفي العام أحسن من نفي الخاص وإثبات الخاص أحسن من إثبات العام فالأول كقوله ‏{‏فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم‏}‏ لم يقل بضوئهم بعد قوله أضاءت لأن النور أعم من الضوء إذ يقال على القليل والكثير وإنما يقال الضوء على النور الكثير ولذلك قال ‏{‏هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا‏}‏ ففي الضوء دلالة على النور فهوأخص منه فعدمه يوجب عدم الضوء بخلاف العكس والقصد إزالة النور عنهم أصلًا ولذا قال عقبه ‏{‏وتركهم في ظلمات‏}‏ ومنه ليس بي ضلالة ولم يقل ضلال كما قالوا إنا لنراك في ضلال لأنها أعم منه فكان أبلغ في نفي الضلال وعبر عن هذا بأن نفي الواحد يلزم منه نفي الجنس ألبتة وبأن نفي الأدنى يلزم منه نفي الأعلى‏.‏

والثاني كقوله ‏{‏وجنة عرضها السموات والأرض‏}‏ ولم يقل طولهن لأن العرض أخص إذ كل ما له عرض فله طول ولا ينعكس ونظير هذه القاعدة أن نفي المبالغة في الفعل لا يستلزم نفي أصل الفعل وقد أشكل على هذا آيتان‏:‏ قوله تعالى وما ربك بظلام للعبيد وقوله ‏{‏وما كان ربك نسيًا‏}‏‏.‏

وأجيب عن الآية الأولى بأجوبة‏.‏

أحدها‏:‏ إن ظلامًا وإن كان للكثرة لكنه جيء به في مقابلة العبيد الذي هوجمع كثرة ويرشحه أنه تعالى قال علام الغيوب فقابل صيغة فعال الجمع وقال في آية أخرى عالم الغيب فقال‏:‏ بل صيغة فاعل الدالة على أصل الفعل بالواحد‏.‏

الثاني‏:‏ أنه نفى الظلم الكثير لينتفي القليل ضرورة لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه فلأن يترك القليل أولى‏.‏

الثالث‏:‏ أنه على النسبة‏:‏ أي بذي ظلم حكاه ابن مالك عن المحققين‏.‏

الرابع‏:‏ أنه أتى بمعنى فاعل لا كثرة فيه‏.‏الخامس‏:‏ أن أقل القليل لوورد منه تعالى لكان كثيرًا كما يقال‏:‏ زلة العالم كبيرة‏.‏السادس‏:‏ أنه أراد ليس بظالم ليس بظالم ليس بظالم تأكيدًا للنفي فعبر عن ذلك بليس بظلام‏.‏

السابع‏:‏ أنه ورد جوابًا لمن قال ظلام والتكرار إذا ورد جوابًا لكلام خاص لم يكن له مفهوم‏.‏

الثامن‏:‏ أن صيغة المبالغة وغيرها من صفات الله سواء في الإثبات فجرى النفي على ذلك‏.‏التاسع‏:‏ أنه قصد التعريض بأن ثم ظلامًا للعبيد من ولاة الجور‏.‏

ويجاب عن الثانية بهذه فائدة قال صاحب الياقوتة‏:‏ قال ثعلب والبرد‏:‏ العرب إذا جاءت بين الكلامين بجحدين كان الكلام إخبارًا نحو ‏{‏وما جعلناهم جسدًا لا يأكلون الطعام‏}‏ والمعنى‏:‏ إنما جعلناهم جسدًا يأكلون الطعام‏.‏

وإذا كان الجحد في أول لكلام كان جحدًا حقيقيًا نحو‏:‏ ما زيد بخارج‏.‏

وإذا كان في أول الكلام جحدان كان أحدهما زائدًا وعليه في ما أن مكناكم فيه في أحد الأقوال‏.‏

فصل‏:‏ من أقسام الإنشاء الاستفهام وهوطلب الفهم وهوبمعنى الاستخبار‏.‏

وقيل الاستخبار ما سبق أولًا ولم يفهم حق الفهم فإذا سألت عنه ثانيًا كان استفهامًا حكاه ابن فارس في فقه اللغة وأدواته الهمزة وهل وما ومن وأي وكم وكيف وأين وأني ومتى وأيان ومرت في الأدوات‏.‏

قال ابن مالك في المصباح‏:‏ وما عدا الهمزة نائب عنها ولكونه طلب ارتسام صورة ما في الخارج في الذهن لزم أن لا يكون حقيقة إلا إذا صدر من شاك مصدق بإمكان الإعلام فإن غير الشاكي إذا استفهم يلزم منه تحصيل الحاصل وإذا لم يصدق بإمكان الإعلام انتفت عنه فائدة الاستفهام‏.‏

قال بعض الأئمة‏:‏ وما جاء في القرآن على لفظ الاستفهام فإنما يقع في خطاب الله على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك الإثبات أوالنفي حاصل‏.‏

وقد تستعمل صيغة الاستفهام في غيره مجازًا وألف في ذلك العلامة شمس الدين بن الصائغ كتابًا سماه روض الأفهام في أقسام الاستفهام قال في‏:‏ قد توسعت العرب فأخرجت الاستفهام عن حقيقته لمعان أوأشربته تلك المعاني ولا يختص التجوز في ذلك بالهمزة خلافًا للصفار‏.‏

الأول‏:‏ الإنكار والمعنى فيه على النفي وما بعده منفي ولذلك تصحبه إلا كقوله ‏{‏فهل يهلك إلا القوم الفاسقون‏}‏‏.‏

‏{‏وهل يجازي إلا الكفور‏}‏ وعطف عليه المنفي في قوله ‏{‏فمن يهدي من أضل الله وما لهم من ناصرين أي لا يهدي ومنه ‏{‏أنؤمن لك واتبعك الأرذلون‏}‏ ‏{‏أنؤمن لبشرين مثلنا‏}‏ أي لا نؤمن ‏{‏أم له البنات ولكم البنون‏}‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ أي لا يكون هذا اشهدوا خلقهم أي ما شهدوا ذلك وكثيرًا ما يصحبه التكذيب وهوفي الماضي بمعنى لم يكن وفي المستقبل بمعنى لا يكون نحو ‏{‏أفأصفاكم ربكم بالبنين‏}‏ الآية‏:‏ أي لم يفعل ذلك ‏{‏أنلزمكموها وأنتم لها كارهون‏}‏ أي لا يكون هذا الإلزام‏.‏

الثاني‏:‏ التوبيخ وجعله بعضهم من قبيل الإنكار إلا أن الأول إنكار إبطال وهذا إنكار توبيخ والمعنى على أن ما بعده واقع جدير بأن ينفي فالنفي هنا غير قصدي والإثبات قصدي عكس ما تقدم ويعبر عن ذلك بالتقريع أيضًا نحو ‏{‏أفعصيت أمري‏}‏ ‏{‏أتعبدون ما تنحتون‏}‏ أتدعون بعلًا وتذرون أحسن الخالقين وأكثر ما يقع التوبيخ في أمر ثابت ووبخ على فعله كما ذكر ويقع على ترك فعل كان ينبغي أن يقع كقوله ‏{‏أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر‏}‏ ‏{‏ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها‏}‏‏.‏

الثالث‏:‏ التقرير وهوحمل المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده‏.‏

قال ابن جني‏:‏ ولا يستعمل ذلك بهل كما يستعمل بغيرها من أدوات الاستفهام‏.‏

وقال الكندي‏:‏ ذهب كثير من العلماء في قوله ‏{‏هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم‏}‏ إلى أن هل تشارك الهمزة في معنى التقرير أوالتوبيخ إلا أني رأيت أبًا على أبي ذلك وهل معذور فإن ذلك من قبيل الإنكار‏.‏

ونقل أبوحيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون بهل إنما يستعمل فيه الهمزة

ثم نقل عن بعضهم أن هل تأتي تقريرًا كما في قوله تعالى هل في ذلك قسم لذي حجر والكلام مع التقرير موجب ولذلك يعطف عليه صريح الموجب ويعطف على صريح الموجب‏.‏

فالأول كقوله تعالى ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك ألم يجدك يتيمًا فآوى ووجدك ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسك والثاني نحو ‏{‏أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علمًا‏}‏ على ما قرره الجرجاني من جعلها مثل ‏{‏وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا‏}‏ وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار والإنكار نفي وقد دخل على النفي ونفي النفي إثبات ومن أمثلته أليس الله بكاف عبده‏.‏

ألست بربكم وجعل منه الزمخشري ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير الرابع‏:‏ التعجب أوالتعجيب نحو كيف تكفرون بالله مالي لا أرى الهدهد وقد اجتمع هذا القسم وسابقاه في قوله ‏{‏أتأمرون الناس بالبر‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ الهمزة للتقرير مع التوبيخ والتعجب الخامس‏:‏ العتاب كقوله ‏{‏ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ ما كان ببن إسلامهم وبين أن عوتبوا بهذه الآية إلا أربع سنين أخرجه الحاكم‏.‏

ومن ألطفه ما عاتب الله به خير خلقه بقوله ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ ولم يتأدب الزمخشري بأدب الله في هذه الآية على عادته في سوء الأدب‏.‏

السادس‏:‏ التذكير وفيه نوع اختصار كقوله ‏{‏ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان‏}‏ ‏{‏ألم أقل لكم أني أعلم غيب السموات والأرض‏}‏{‏هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه‏}‏ السابع‏:‏ الافتخار نحو ‏{‏أليس لي ملك مصر‏}‏ الثامن‏:‏ التفخيم نحو مال هذا الكتاب ما يغادر صغيرة ولا كبيرة‏.‏

التاسع‏:‏ التهويل والتخويف نحو ‏{‏الحاقة ما الحاقة‏}‏ ‏{‏القارعة ما القارعة‏}‏‏.‏

العاشر‏:‏ عكسه وهوالتسهيل والتخفيف نحو ‏{‏وماذا عليهم لو آمنوا‏}‏‏.‏

الحادي عشر‏:‏ التهديد والوعيد نحو ‏{‏ألم نهلك الأولين‏}‏‏.‏

الثاني عش‏:‏ التكثير نحو ‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏‏.‏الثالث عشر‏:‏ التسوية وهوالاستفهام الداخل على جملة يصح حلول المصدر محلها نحو ‏{‏سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم‏}‏‏.‏

الرابع عشر‏:‏ الأمر نحو أأسلمنم أي أسلموا ‏{‏فهل أنتم منتهون‏}‏ أي انتهوا أتصبرون أي اصبروا‏.‏

الخامس عشر‏:‏ التنبيه وهومن أقسام الأمر نحو ‏{‏ألم تر إلى ربك كيف مد الظل‏}‏ أي انظر ‏{‏الم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة‏}‏ ذكره صاحب الكشاف عن سيبويه ولذلك رفع الفعل في جوابه وجعل منه قوله ‏{‏فأين تذهبون‏}‏ للتنبيه على الضلال وكذا من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه‏.‏

السادس عشر‏:‏ الترغيب نحو ‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا‏}‏ ‏{‏هل أدلكم على تجارة تنجيكم‏}‏ السابع عشر‏:‏ النهي نحو ‏{‏أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه‏}‏ بدليل فلا تخشوا الناس واخشوني ‏{‏ما غرك بربك الكريم‏}‏ أي لا تغتر‏.‏

الثامن عشر‏:‏ الدعاء وهوكالنهي إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى نحو ‏{‏أتهلكنا بما فعل السفهاء‏}‏ أي لا تهلكنا‏.‏

التاسع عشر‏:‏ الاسترشاد نحو ‏{‏أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏‏.‏

العشرون‏:‏ التمني نحو ‏{‏فهل لنا من شفعاء‏}‏‏.‏

الحادي والعشرون‏:‏ الاستبطاء نحو ‏{‏متى نصر الله‏}‏ ‏.‏

الثاني والعشرون‏:‏ العرض ‏{‏ألا تحبون أن يغفر الله لكم‏}‏‏.‏

الثالث والعشرون‏:‏ التحضيض نحو ‏{‏ألا تقاتلون قومًا نكثوا إيمانهم‏}‏‏.‏ الرابع والعشرون‏:‏ التجاهل نحو ‏{‏أأنزل عليه الذكر من بيننا‏}‏‏.‏

الخامس والعشرون‏:‏ التعظيم نحو ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏‏.‏

السادس والعشرون‏:‏ التحقير نحو أهذا الذي يذكر آلهتكم ‏{‏أهذا الذي بعث الله رسولًا‏}‏ ويحتمله وما قبله قراءة من فرعون‏.‏

السابع والعشرون‏:‏ الاكتفاء نحو ‏{‏أليس في جهنم مثوى للمتكبرين‏}‏‏.‏

الثامن والعشرون‏:‏ الاستبعاد نحو ‏{‏أنى لهم الذكرى‏}‏‏.‏

التاسع والعشرون‏:‏ الإيناس نحو ‏{‏وما تلك بيمينك يا موسى‏}‏‏.‏

الثلاثون‏:‏ التهكم والاستهزاء نحو ‏{‏أصلواتك تأمرك‏}‏ ألا تأكلون ‏{‏مالكم لا تنطقون‏}‏‏.‏

الحادي والثلاثون‏:‏ التأكيد لما سبق من معنى أداة الاستفهام قبله كقوله ‏{‏أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار قال الموفق عبد اللطيف البغدادي‏:‏ أي من حق عليه كلمة العذاب فإنك لا تنقذه فمن لشرط والفاء جواب الشرط والهمزة في أفأنت دخلت معادة لطول الكلام وهذا نوع من أنواعها‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ الهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد‏.‏

الثاني والثلاثون‏:‏ الإخبار نحو ‏{‏أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا‏}‏ ‏{‏هل أتى على الإنسان‏}‏‏.‏

تنبيهان‏.‏

الأول هل يقال أن معنى الاستفهام في هذه الأشياء موجودة وانضم إليه معنى آخر أوتجرد عن الاستفهام بالكلية قال في عروس الأفراح‏:‏ محل النظر‏.‏

قال‏:‏ والذي يظهر الأول‏.‏

قال‏:‏ ويساعده قول التنوخي في الأقصى القريب أن لعل تكون للاستفهام مع بقاء الترجي قال‏:‏ ومما يرجحه أن الاستبطاء في قوله كم أدعوك معناه‏:‏ أن الدعاء وصل إلى حد لا أعلم عدده فأنا أطلب أن أعلم عدده والعادة تقضي بأن الشخص إنما يستفهم عن عدد ما صدر منه إذا كثر فلم يعمله وفي طلب فهم عدده ما يشعر بالاستبطاء‏.‏

وأما التعجب فلاستفهام معه مستمر فمن تعجب من شيء فهوبلسان الحال سائل عن سببه فكأنه يقول‏:‏ أي شيء عرض لي في حال عدم رؤية الهدهد وقد صرح في الكشاف ببقاء الاستفهام في هذه الآية‏.‏

وأما التنبيه عن الضلال فالاستفهام فيه حقيقي لأن معنى أين تذهب‏:‏ أخبرني إلى أي مكان تذهب فإني لا أعرف ذلك وغاية الضلال لا يشعر إلى أين تنتهي‏.‏

وأما التقرير فإن قلنا المراد به الحكم بثبوته فهوخبر بأن المذكور عقيب الأداة واقع أوطلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم فهواستفهام يقرر المخاطب‏:‏ أي يطلب منه أن يكون مقرًا به‏.‏

وفي كلام أهل الفن ما يقتضي الاحتمالين والثاني اظهر‏.‏

وفي الإيضاح تصريح به ولا بدع في صدور الاستفهام ممن يعلم المستفهم عنه لأنه طلب الفهم وأما طلب فهم المستفهم أووقوع فهم لمن لم يفهم كائنًا من كان وبهذا تنحل إشكالات كثيرة في مواقع الاستفهام ويظهر بالتأمل بقاء معنى الاستفهام مع كل أمر من الأمور المذكورة انتهى ملخصًا‏.‏

الثاني القاعدة أن المنكر يجب أن يلي الهمزة وأشكل عليها قوله تعالى أفأصفاكم ربكم بالبنين فإن الذي يليها هنا الإصفاء بالبنين وليس هو المنكر إنما المنكر قولهم إن اتخذ من الملائكة إناثًا ‏.‏

وأجيب بأن لفظ الإصغاء مشعر بزعم أن البنات لغيرهم أوبأن المراد مجموع الجملتين وينحل منهما كلام واحد‏.‏

والتقدير‏:‏ أجمع بين الإصفاء بالبنين واتخاذ البنات وأشكل منه قوله ‏{‏أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم‏}‏ ووجه الإشكال أنه لا جائز أن يكون المنكر أمر الناس بالبر فقط كما تقتضيه القاعدة المذكورة لأن أمر البر ليس مما ينكر ولا نسيان النفس فقط لأنه يصير ذكر أمر الناس بالبر لا مدخل له ولا مجموع الأمرين لأنه يلزم أن تكون العبادة جزء المنكر ولا نسيان النفس بشرط الأمر لأن النسيان منكر مطلقًا ولا يكون نسيان النفس حال الأمر أشد منه حال عدم الأمر لأن المعصية لا تزداد بشاعتها بانضمامها إلى الطاعة لأن جمهور العلماء على أن الأمر بالبر واجب وإن كان الإنسان ناسيًا لنفسه وأمره لغيره بالبر كيف يضاعف بمعصية نسيان ولا يأتي الخير بالشر قال في عروس الأفراح‏:‏ ويجاب بأن فعل المعصية مع النهي عنها أفحش لأنها تجعل حال الإنسان كالمتناقض ويجعل القول كالمخالف للفعل ولذلك كانت المعصية مع العلم أفحش منها مع الجهل‏.‏

قال‏:‏ ولكن الجواب على أن الطاعة الصرفة كيف تضاعف المعصية المقارنة لها من جنسها فيه دقة‏.‏

فصل‏:‏ من أقسام الإنشاء الأمر وهوطلب فعل غير كف وصيغته أفعل ولتفعل وهي حقيقة في الإيجاب نحو أقيموا الصلاة فليصلوا معك وترد مجازًا لمعان أخر‏:‏ منها الندب نحو وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا والإباحة نحو فكاتبوهم نص الشافعي على أن الأمر فيه للإباحة‏.‏ومنه وإذا حللتم فاصطادوا والدعاء من السافل للعالي نحو ربي اغفر لي والتهديد نحو اعملوا ما شئتم إذ ليس المراد الأمر بكل عمل شاءوا‏.‏

والإهانة نحو ذق أنك أنت العزيز الكريم والتسخير‏:‏ أي التذليل نحو كونوا قردة عير به عن نقلهم من حالة إلى حالة إذلالًا لهم فهوأخص من الإهانة‏.‏

والتعجيز نحو فأتوا بسورة من مثله إذ ليس المراد طلب ذلك منهم بل إظهار عجزهم‏.‏

والامتنان نحو كلوا من ثمره إذا أثمر والعجب نحو ‏{‏انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏}‏ والتسوية نحو ‏{‏فاصبروا أولا تصبروا‏}‏ والإرشاد نحو ‏{‏واشهدوا إذا تبايعتم‏}‏ والاحتقار نحو ‏{‏ألقوا ما أنتم ملقون‏}‏ والإنذار نحو قل تمتعوا والإكرام نحو ‏{‏ادخلوها بسلام‏}‏ والتكوين وهو أعم من التسخير نحو كن فيكون والإنعام‏:‏ أي تذكير النعمة نحو ‏{‏كلوا مما رزقكم الله‏}‏ والتكذيب نحو ‏{‏قل فائتوا بالتوراة فاتلوها‏}‏{‏قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا‏}‏ والمشورة نحو فانظر ماذا ترى والاعتبار نحو ‏{‏انظروا إلى ثمره‏}‏ والتعجب نحو ‏{‏أسمع بهم وأبصر‏}‏ ذكره السكاكي في استعمال الإنشاء بمعنى الخبر‏.‏

فصل‏:‏ ومن أقسامه النهي وهوطلب الكف على فعل وصيغته لا تفعل وهي حقيقة في التحريم وترد مجاز لمعان منها الكراهة نحو ‏{‏ولا تمش في الأرض مرحًا‏}‏ والدعاء نحو ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏}‏ والإرشاد نحو ‏{‏لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ والتسوية نحو ‏{‏أو لا تصبروا‏}‏ والاحتقار والتقليل نحو ‏{‏لا تمدن عينيك‏}‏ الآية‏:‏ أي فهوقليل حقير‏.‏

وبيان العاقبة نحو ‏{‏ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء‏}‏ أي عاقبة الجهاد الحياة لا الموت‏.‏

واليأس نحو لا تعتذروا والإهانة نحو ‏{‏اخسئوا فيها ولا تكلمون‏}‏‏.‏

فصل‏:‏ ومن أقسامه التمني وهوطلب حصول شيء على سبيل المحبة ولا يشترط إمكان المتمني بخلاف المترجي لكن نوزع في تسمية تمني الحال طلبًا بأن ما لا يتوقع كيف يطلب‏.‏

قال في عروس الأفراح‏:‏ فالأحسن ما ذكره الإمام وأتباعه من أن التمني والترجي والنداء والقسم ليس فيه طلب بل تنبيه ولأبدع في تسميته إنشاء أه‏.‏

وقد بالغ قوم فجعلوا التمني من قسم الخبر وأن معناه النفي والزمخشري ممن جزم بخلافه‏.‏

ثم استشكل دخول التكذيب في جوابه في قوله ‏{‏يا ليتنا نرد ولا نكذب‏}‏ إلى قوله ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏ وأجاب بتضمنه معنى العدة فتعلق به التكذيب‏.‏

وقال غيره‏:‏ التمني لا يصح فيه الكذب وإنما الكذب في المتمني الذي يترجح عند صاحبه وقوعه فهوإذن وارد على ذلك الاعتقاد الذي هوظن وهوخبر صحيح قال‏:‏ وليس المعنى في قوله ‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏ أن ما تمنوا ليس بواقع لأنه ورد في معرض الذم لهم وليس في ذلك المتني ذم بل التكذيب ورد على أخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون وأنهم يؤمنون‏.‏

وحرف التمني الموضوع له ليت نحو ‏{‏يا ليتنا نرد‏}‏ ‏{‏يا ليت قومي يعلمون‏}‏ ‏{‏يا ليتني كنت معهم فأفوز‏}‏ وقد يتمنى بهل حيث يعلم فقده نحو ‏{‏فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا‏}‏ وبلونحو ‏{‏فلو أن لنا كرة فنكون‏}‏ ولذا نصب الفعل في جوابها‏.‏

وقد يتمنى بلعل في البعيد فتعطي حكم ليت في نصب الجواب نحو ‏{‏لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع‏}‏‏.‏

فصل‏:‏ ومن أقسامه الترجي نقل القرافي في الفروق الإجماع على أنه إنشاء وفرق بينه وبين التمني بأنه في الممكن والتمني فيه وفي المستحيل وبأن الترجي في القريب والتمني في البعيد وبأن الترجي في المتوقع والتمني في غيره وبأن التمني في المشقوق للنفس والترجي ي غيره‏.‏

وسمعت شيخنا العالمة الكافيجي يقول‏:‏ الفرق بين التمني وبين العرض هو الفرق بينه وبين الترجي وحرف الترجي لعل وعسى وقد ترد مجازًا لتوقع محذور ويسمى الإشفاق نحو ‏{‏لعل الساعة قريب‏}‏‏.‏

فصل‏:‏ ومن أقسامه النداء وهوطلب إقبال المدعوعلى الداعي بحرف نائب مناب أدعو ويصحب في الأكثر الأمر والنهي والغالب تقدمه نحو يا أيها الناس اعبدوا ربكم ‏{‏يا عباد فاتقون‏}‏ ‏{‏يا أيها المزمل قم الليل‏}‏{‏يا قوم استغفروا ربكم‏}‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا‏}‏ وقد يتأخر نحو ‏{‏وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون‏}‏ وقد يصحب الجملة الخبرية فتعقبها جملة الأمر نحو ‏{‏يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له‏}‏ ‏{‏يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها‏}‏ وقد لا يعقبها نحو ‏{‏يا عباد لا خوف عليكم اليوم‏}‏ ‏{‏يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله‏}‏ ‏{‏يا أبت هذا تأويل رؤياي‏}‏ وقد تصحبه الاستفهامية نحو ‏{‏يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر‏}‏ ‏{‏يا أيها النبي لم تحرم‏}‏ ‏{‏ويا قوم ما لي أدعوكم‏}‏ وقد ترد صورة النداء لغيره مجازًا كالإغراء والتحذير وقد اجتمعا في قوله تعالى ‏{‏ناقة الله وسقياها‏}‏ والاختصاص كقوله ‏{‏رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت‏}‏ والتنبيه كقوله ألا قاعدة أصل النداء بيا أن تكون للبعيد حقيقة أوحكمًا وقد ينادي بها القريب لنكت‏.‏

منها إظهار الحرص في وقوعه على إقبال المدعونحو ‏{‏يا موسى أقبل‏}‏ ومنها‏:‏ كون الخطاب المتلومعتني بخ نحو ‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم‏}‏ ومنها‏:‏ قصد تعظيم شأن المدعونحو يا رب وقد قال تعالى ‏{‏فإني قريب‏}‏ ومنها‏:‏ قصد انحطاطه كقول فرعون وإني أظنك يا موسى مسحورًا‏.‏

فائدة قال الزمخشري وغيره‏:‏ كثر في القرآن النداء بيا أيها دون غيره لأن فيه أوجهًا من التأكيد وأسبابًا من المبالغة نمها ما في يا من التأكيد والتنبيه وما في ها من التنبيه وما في التدرج من الإبهام في أي إلى التوضيح والمقام يناسب المبالغة والتأكيد لأن كل ما نادى له عباده من أوامره ونواهيه وعظاته وزواجره ووعده ووعيده ومن اقتصاص أخبار الأمم الماضية وغير ذلك مما أنطق الله به كتابة أمور عظام وخطوب جسام ومعان واجب عليهم أن يتيقظوا لها ويميلوا بقلوبهم وبصائرهم إليها وهم غافلون فاقتضى الحال أن ينادوا بالآكد الأبلغ‏.‏فصل‏:‏ ومن أقسامه القسم نقل القرافي الإجماع على أنه إنشاء وفائدته تأكيد الجملة الخبرية وتحقيقها عند السامع وسيأتي بسط الكلام فيه في النوع السابع والستين‏.‏

فصل ومن أقسامه الشرط‏.‏

 النوع الثامن والخمسون في بدائع القرآن

أفرده بالتصنيف ابن أبي الأصبع فأورد فيه نحومائة نوع وهي المجاز والاستعارة والكناية والإرداف والتمثيل والتشبيه والإيجاز والاتساع والإشارة والمساواة والبسط والإيغال والتشريع والتتميم والأتضاح ونقي الشيء بإيجابه والتكميل والاحتراس والاستقصاء والتذييل والزيادة والترديد والتكرار والتفسير والمذهب الكلامي والقول بالموجب والمناقضة والانتقال والإسجال والتسليم والتمكين والتوشيح والتسهيم ورد العجز على الصدر وتشابه الأطراف ولزوم ما لا يلزم والتخيير والإبهام وهوالتورية والاستخدام والالتفات والاستطراد والاطراد والانسجام والإدماج والافتنان والاقتدار وائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلاف اللفظ مع المعنى والاستدراك والاستثناء والاقتصاص والإبدال وتأكيد المدح بما يشبه الذم والتجويف والتغاير والتقسيم والتدبيج والتنكيت والتجريد والتعديد والترتيب والترقي والتدلي والتضمين والجناس والجمع والتفريق والجمع والتقسيم والجمع مع التفريق والتقسيم وجمع المؤتلف والمختلف وحسن النسق وعتاب المرء نفسه والعكس والعنوان والفرائد والقسم واللف والنشر والمشاكلة والمزاوجة والمواربة والمراجعة والنزاهة والإبداع والمقارنة وحسن الابتداء وحسن الختام وحسن التخلص والاستطراد‏.‏

فأما المجاز وما بعده إلى الإيضاح فقد تقدم بعضها مفردة وبعضها في نوع الإيجاز والإطناب مع أنواع أخر كالتعريض والاحتباك والاكتفاء والطرد والعكس وأما نفي الشيء بإيجابه فقد تقدم في النوع الذي قبل هذا‏.‏

وأما المذهب الكلامي والخمسة بعده فستأتي في نوع الجدل مع أنواع أخر مزيده‏.‏

وأما التمكين والثمانية بعده فستأتي في أنواع الفواصل‏.‏

وأما حسن التخلص والاستطراد فسيأتيان في نوع المناسبات‏.‏

وأما حسن الابتداء وبراعة الختام فسيأتيان في نوعي الفواتح والخواتم وها أنا أورد الباقي مع زوائده ونفائس لا توجد مجموعة في غير هذا الكتاب‏.‏

الإيهام ويدعى التورية‏:‏ أن يذكر لفظ له معنيان إما بالاشتراك أوالتواطؤ أوالحقيقة والمجاز أحدها قريب والآخر بعيد ويقصد بالبعيد ويوري عنه بالقريب فيتوهمه السامع من أول وهلة‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ لا ترى بابًا في البيان أدق ولا ألطف من التورية ولا أنفع ولا أعون على تعاطي تأويل المتشابهات في كلام الله ورسوله‏.‏

قال‏:‏ ومن أمثلتها الرحمن على العرش استوى فإن الاستواء على معنيين‏:‏ الاستقرار في المكان وهوالمعنى القريب المورى به الذي هوغير مقصود لتنزيهه تعالى عنه‏.‏والثاني الاستيلاء والملك وهوالمعنى البعيد المقصود الذي ورى به عنه بالقريب المذكور انتهى‏.‏

وهذه التورية تسمى مجردة لأنها لم يذكر فيها شيء من لوازم المورى به ولا المورى عنه‏.‏

ومنها‏:‏ ما يسمى مرشحة وهي التي ذكر فيها شيء من لوازم هذا أوهذا كقوله تعالى والسماء بميناها بأيد فإنه يحتمل الجارحة وهوالمورى به وقد ذكر من لوازمه على جهة الترشيح البنيان ويحتمل القوة والقدرة وهوالبعيد المقصود‏.‏

قال ابن أبي الأصبع في كتابه الإعجاز‏:‏ ومنها قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم فالضلال يحتمل الحب وضد الهدى فاستعمل أولاد يعقوب ضد الهدى تورية عن الحب فاليوم ننجيك ببدنك على تفسيره بالدرع فإن البدن يطلق عليه وعلى الجسد والمراد البعيد وهوالجسد‏.‏

قال‏:‏ ومن ذلك قوله عد ذكر أل الكتاب من اليهود والنصارى حيث قال ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم ولما كان الخطاب لموسى من الجانب الغربي وتوجهت إليه اليهود وتوجهت النصارى إلى المشرق كانت قبلة الإسلام وسطًا بين القبلتين قال تعالى وكذلك جعلناهم أمة وسطًا أي خيارًا وظاهر اللفظ يوهم التوسط مع ما يعضده من توسط قبلة المسلمين صدق على لفظه وسط ها هنا أ يسمى تعالى به لاحتمالها المعنيين ولما كان المراد أبعدهما وهوالخيار صلحت أن تكون من أمثلة التورية‏.‏

قلت‏:‏ وهي مرشحة تلازم المورى عنه وهوقوله ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس فإنه من لوازم كونهم خيارًا‏:‏ أي عدولًا والإتيان قبلهم من قسم المجردة ومن ذلك قوله ‏{‏والنجم والشجر يسجدان فإن النجم يطلق على الكوكب ويرشحه له ذكر الشمس والقمر وعلى ما لا ساق له من النبات وهوالمعنى البعيد له وهوالمقصود في الآية‏.‏ونقلت من خط شيخ الإسلام بن حجر أن من التورية في القرآن قوله تعالى وما أرسلناك إلا كافة للناس فإن كافة بمعنى مانع‏.‏

أي تكفهم عن الكفر والمعصية والهاء للمبالغة وهومعنى بعيد والمعنى القريب المتبادر أن المراد جامعة بمعنى جميعًا لكن منع من حمله على ذلك أن التأكيد يتراخى عن المؤكد فكما لا تقول رأيت جميعًا الناس لا تقول رأيت كافة الناس‏.‏

الاستخدام هووالتورية أشرف أنواع البديع وهما سيان بل فضله بعضهم عليها ولهم فيه عبارتان‏:‏ إحداهما أن يؤتى بلفظ له معنيان فأكثر مرادًا به أحد معانيه ثم يؤتى بضميره مرادًا به المعنى الآخر وهذه طريقة السكاكي وأتباعه والأخرى أن يؤتى بلفظ مشترك ثم بلفظين يفهم من أحدهما أحد المعنيين ومن الآخر الآخر وهذه طريقة بدر الدين بن جماعة ف المصباح ومشى عليها ابن أبي الأصبع ومثله بقوله تعالى ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ الآية فلفظ كتاب يحتمل الأمد المحتوم والكتاب المكتوب فلفظ أجل يخدم المعنى الأول ويمحويخدم الثاني ومثل غيره بقوله تعالى ‏{‏لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ الآية فالصلاة يحتمل أن يراد بها فعلها وموضعها وقوله ‏{‏حتى تعلموا ما تقولون يخدم الأول وإلا عابري سبيل يخدم الثاني‏.‏

قيل ولم يقع في القرآن على طريقة السكاكي‏.‏

قلت‏:‏ وقد استخرجت بفكري آيات على طريقته منها قوله تعالى أتى أمر الله فأمر الله يراد به قيام الساعة والعذاب وبعثة النبي صلى الله عليه وسلم وقد أريد بلفظه الأخير كما أخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى أتي أمر الله قال محمد‏:‏ وأعيد الضمير عليه في تستعجلوه مرادًا به قيام الساعة ولعذاب ومنها وهي أظهرها قوله تعالى ولقد خلقن الإنسان من سلالة من طين فإن المراد بع آدم ثم أعاد عليه الضمير مرادًا به ولده ثم قال ثم جعلناه في قرار مكين ومنها قوله تعالى ‏{‏لا تسألوا عن أشياء إن تبدوا لكم تسؤكم‏}‏ ثم قال ‏{‏قد سألها قوم من قبلكم‏}‏ أي أشياء أخر لأن الأولين لم يسألوا عن الأشياء التي سأل عنها الصحابة فنهوا عن سؤالها‏.‏

الالتفات‏:‏ نقل الكلام من أسلوب إلى آخر‏:‏ أعني من المتكلم أوالخطاب أوالغيبة إلى آخر منها بعد التعبير بالأول وهذا هو المشهور‏.‏وقال السكاكي‏:‏ إما ذلك أوالتعبير بأحدهما فيما حقه التعبير بغيره‏.‏

وله فوائد‏:‏ منها تطرية الكلام وصيانة السمع عن الضجر والملال لما جبلت عليه النفوس من حب التنقلات والسلامة من الاستمرار على منوال واحد هذه هي فائدته العامة ويختص كل موضع بنكت ولطائف باختلاف محله كما سنبنيه مثاله من التكلم إلى الخطاب ووجهه حث السامع وبعثه على الاستماع حيث أقبل المتكلم عليه وأعطاه فضل عناية تختص بالمواجهة قوله تعالى وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون الأصل وإليه أرجع فالتفت من التكلم إلى الخطاب ونكتته أنه أخرج الكلام في معرض مناصحته لنفسه وهويريد نصح قومه تلطفًا وإعلامًا أنه ييد لهم ما يريد لنفسه ثم التفت إليهم لكونه في مقام تخويفهم ودعوتهم إلى الله تعالى كذا جعلوا هذه الآية من الالتفات وفيه نظر لأنه إنما يكون منه إذا قصد الإخبار عن نفسه في كلا الجملتين وهنا ليس كذلك لجواز أن يريد بقوله ‏{‏ترجعون المخاطبين لا نفسه‏.‏

وأجيب بأنه لوكان المراد ذلك لما صح الاستفهام الإنكاري لأن رجوع العبد إلى مولاه ليس بمستلزم أن يعيده غير ذلك الراجع فالمعنى‏:‏ كيف لا أعبد من إليه رجوعي وإنما عدل عن وإليه أرجع إلى وإليه ترجعون لأنه داخل فيهم ومع ذلك أفاد فائدة حسنة وهي تنبيههم على أنه مثلهم في وجوب عبادة من إليه الرجوع‏.‏

من أمثلته أيضًا قوله تعالى ‏{‏وأمرنا لنسلم لرب العالمين وأن أقيموا الصلاة‏}‏ ومثاله من التكلم إلى الغيبة ووجهه أن يفهم السامع أن هذا غلط المتكلم وقصده من السامع حضر أوغاب وأنه ليس في كلامه ممن يتلون ويتوجه ويبدي في الغيبة خلاف ما نبديه في الحضور قوله تعالى إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله والأصل‏:‏ لنغفر لك ‏{‏إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك‏}‏ والأصل لنا أمرًا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك والأصل منا ‏{‏إني رسول الله إليكم جميعًا‏}‏ إلى قوله ‏{‏فآمنوا بالله ورسوله‏}‏ والأصل وبي وعدل عنه لنكتتين‏:‏ إحداهما دفع التهمة عن نفسه بالعصبية لها والأخرى تنبيههم على استحقاقه الأتباع بما تصف به من الصفات المذكورة والخصائص المتلوة‏.‏

ومثاله من الخطاب إلى التكلم لم يقع في القرآن ومثل له بعضهم بقوله ‏{‏فاقض ما أنت قاض‏}‏ ثم قال ‏{‏إنا آمنا بربنا‏}‏ وهذا المثال لا يصح لأن شرط الالتفات أن يكون المراد به واحدًا‏.‏

ومثاله من الخطاب إلى الغيبة ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏}‏ والأصل بكم ونكتة العدول عن خطابهم إلى حكاية حالهم لغيرهم التعجب من كفرهم وفعلهم إذ لواستمر على خطابهم لفاتت تلك الفائدة وقيل لأن الخطاب أولًا كان مع الناس مؤمنهم وكافرهم بدليل و‏{‏هو الذي يسيركم في البر والبحر‏}‏ فلوكان وجرين بكم للزم الذم للجميع فلا تفتت عن الأول للإشارة إلى اختصاصه بهؤلاء الذين شأنهم ما ذكره عنهم في آخر الآية عدولًا من الخطاب العام إلى الخاص‏.‏قلت‏:‏ ورأيت عن بعض السلف في توجيهه عكس ذلك وهوأن الخطاب أوله خاص وآخره عام فأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم أنه قال في قوله ‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏}‏ قال‏:‏ ذكر الحديث عنهم ثم حدث عن غيرهم ولم يقل وجرين بكم لأنه قصد أن يجمعهم وغيرهم وجرين بهؤلاء وغيرهم من الخلق هذه عبارته فلله در السلف ما كان أوقفهم على المعاني اللطيفة التي يدأب المتأخرون فيها زمانًا طويلًا ويفنون فيها أعمارهم ثم غايتهم أن يحوموا حول الحمى‏.‏

ومما ذكر في توجيهه أيضًا أنهم وقت الركوب حضروا إلا أنهم خافوا الهلاك وغلية الرياح فخاطبهم خطاب الحاضرين ثم لما جرت الرياح بما تشتهي السفن وأمنوا الهلاك لم يبق حضورهم كما كان على عادة الإنسان أنه إذا أمن غاب قبله عن ربه فلما غابوا ذكرهم الله بصيغة الغيبة وهذه إشارة صوفية‏.‏

ومن أمثلته أيضًا وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون يطاف عليهم والأصل عليكم‏.‏

ثم قال وأنتم فيها خالدون فكرر الالتفات‏.‏

ومثاله من الغيبة إلى التكلم الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فسقناه وأوحى في كل سماء أمرها وزينًا ‏{‏سبحان الذي أسرى بعبده‏}‏ إلى قوله ‏{‏باركنا حوله لنريه من آياتنا‏}‏ ثم التفت ثانيًا إلى الغيبة فقال ‏{‏إنه هو السميع البصير‏}‏ وعلى قراءة الحسن ليريه بالغيية يكون التفاتًا ثانيًا من باركنا وفي آياتنا التفات ثالث وفي أنه التفات رابع‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وفائدته في هذه الآيات وأمثالها التنبيه على التخصيص بالقدرة وأنه لا يدخل تحت قدرة أحد‏.‏

ومثاله من الغيبة إلى الخطاب ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا‏}‏ ‏{‏لقد جئتم شيئًا إدًا‏}‏ ‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم‏}‏ ‏{‏وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا‏}‏ ‏{‏إن هذا كان لكم جزاء‏}‏ أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك ومن محاسنه ما وقع في سورة الفاتحة فإن العيد إذا ذكر الله وحده ثم ذكر صفاته ألقى كل صفة منها تبعث على شدة الإقبال وآخرها مالك يوم الدين المفيد أنه مالك الأمر كله في يوم الجزاء يجد من نفسه حاملًا لا يقدر على دفعه على خطاب من هذه صفاته بتخصيصه بغاية الخضوع والاستعانة في المهمات‏.‏

وقيل إنما اختير لفظ الغيبة للحمد وللعبادة‏.‏

الخطاب للإشارة إلى الحمد دون العبارة في الرتبة لأنك تحمد نظيره ولا تعبده فاستعمل لفظ الحمد مع الغيبة ولفظ العبادة مع الخطاب لينسب إلى العظيم حال المخاطبة والمواجهة ما هوأعلى رتبة وذلك على طريقة التأدب وعلى نحومن ذلك جاء آخر السورة فقال الذين أنعمت عليهم مصرحًا بذكر المنعم وإسناد الإنعام إليه لفظًا ولم يقل صراط المنعم عليهم فلما صار إلى ذكر الغضب ذوى عنه لفظه فلم ينسبه إليه لفظًا وجاء باللفظ منحرفًا عن ذكر الغاضب فلم يقل غير الذين غضبت عليه تفاديًا عن نسبة الغضب إليه في اللفظ حال المواجهة‏.‏

وقيل لأنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه الصفات العظيمة من كونه ربًا للعالمين ورحمانا ورحيم ومالكًا ليوم الدين تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بأن يكون معبودًا دون غيره مستعانًا به فخوطب بذلك لتمييزه بالصفات المذكورة تعظيمًا لشأنه حتى كأنه قيل‏:‏ إياك يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة لا غيرك‏.‏

قيل ومن لطائفة التنبيه عن أن مبتدأ الخلق للغيبة منهم عنه سبحانه وتعالى وقصورهم عن محاضرته ومخاطبته وقام حجاب العظمة عليهم فإذا عرفوه بما هولهم وتوسلوا للقرب بالثناء عليه وأقروا بالمحامد له تعبدوا له بما يليق بهم وتأهلوا لمخاطبته ومناجاته فقالوا تنبيهات الأول شرط الالتفاف أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدًا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه ولا يلزم عليه أن يكون في أنت صديقي التفات‏.‏

الثاني‏:‏ شرطه أيضًا أن يكون في جملتين صرح به صاحب الكشاف وغيره وإلا يلزم عليه أن يكون نوعًا غريبًا‏.‏

الثالث‏:‏ ذكر التنوخي في الأقصى القريب وابتن الأثير وغيرهما نوعًا غريبًا من الالتفات وهوبناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله أوتكلمه كقوله ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ بعد أنعمت فإن المعنى غير الذين غضبت عليهم وتوفق فيه صاحب عروس الأفراح‏.‏

الرابع‏:‏ قال ابن أبي الأصبع‏:‏ جاء في القرآن من الالتفات قسم غريب جدًا لم أظفر في الشعر بمثاله وهوأن يقدم المتكلم في كلامه مذكورين مرتبين ثم يخبر عن الأول منهما وينصرف عن الإخبار عنه إلى الإخبار عن الثاني ثم يعود إلى الإخبار عن الأول كقوله ‏{‏إن الإنسان لربه لكنود وإنه على ذلك لشهيد‏}‏ انصرف عن الإخبار عن الإنسان إلى الإخبار عن ربه تعالى ثم قال منصرفًا عن الإخبار عن ربه تعالى إلى الإخبار عن الإنسان وإنه لحب الخير لشديد قال‏:‏ وهذا يحسن أن يسمى التفات الضمائر‏.‏الخامس‏:‏ يقرب من الالتفات نقل الكلام من خطاب الواحد أوالاثنين أوالجمع لخطاب الآخر ذكره التنوخي وابن الأثير وهوستة أقسام أيضًا‏.‏

مثاله من الواحد إلى الاثنين ‏{‏قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض‏}‏ وإلى الجمع يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ومن الاثنين إلى الواحد ‏{‏فمن ربكما يا موسى‏}‏ ‏{‏فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى‏}‏ وإلى الجمع ‏{‏وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة‏}‏ ومن الجمع إلى الواحد وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين وإلى الاثنين يا معشر الجن والإنس إن استطعتم إلى قوله ‏{‏فبأي آلاء ربكما تكذبان‏}‏ السادس‏:‏ ويقرب منه أيضًا الانتقال من الماضي أوالمضارع أوالأمر إلى آخر مثاله من الماضي إلى المضارع ‏{‏أرسل الرياح فتثير‏}‏ ‏{‏خر من السماء فتخطفه الطير‏}‏ ‏{‏إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله‏}‏ وإلى الأمر ‏{‏قل أمر ربي بالقسط‏}‏ ‏{‏وأقيموا وجوهكم‏}‏ ‏{‏وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا‏}‏ ومن المضارع إلى الماضي ‏{‏ويوم ينفخ في الصور ففزع‏}‏{‏ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم‏}‏ وإلى الأمر قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء ومن الأمر إلى الماضي ‏{‏واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا‏}‏ وإلى المضارع ‏{‏وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون‏}‏‏.‏

الإطراد‏:‏ هوأن يذكر المتكلم أسماء آباء الممدوح مرتبة على حكم ترتيبها في الولادة‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ ومنه في القرآن قوله تعالى حكاية عن يوسف ‏{‏واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب‏}‏ قال‏:‏ وإنما لم يأت به على الترتيب المألوف فإن العادة الابتداء بالأب ثم الجد ثم الجد الأعلى لأنه لم يرد هنا مجرد ذكر الآباء وإنما ذكرهم ليذكر ملتهم التي اتبعها فبدأ بصاحب الملة ومثله قول أولاد يعقوب نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏.‏الانسجام‏:‏ هوأن كون الكلام لخلوه من العقادة متحدرًا كتحدر الماء المنسجم ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسهل رقة والقرآن كله كذلك‏.‏

قال أهل البديع‏:‏ وإذا قوي الانسجام في النثر جاءت قراءته موزونة بلا قصد لقوة انسجامه ومن ذلك ما وقع في القرآن موزونًا فمنه من بحر الطويل فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ومن المديد واصنع الفلك بأعيننا‏.‏

ومن البسيط ‏{‏فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم‏}‏ ومن الوافر ‏{‏ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين‏}‏ ومن الكامل ‏{‏والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏}‏‏.‏

ومن الهزج فالقوة على وجه أبي يأت بصيرًا‏.‏

ومن الرجز ‏{‏ودانية عليهم ظلالها‏}‏ ‏{‏وذللت قطوفها تذليلًا‏}‏‏.‏

ومن الرمل ‏{‏وجفان كالجواب وقدور راسيات‏}‏‏.‏

ومن السريع ‏{‏أو كالذي مر على قرية‏}‏ ومن المنشرح ‏{‏إنا خلقنا الإنسان من نطفة‏}‏‏.‏

ومن الخفيف ‏{‏لا يكادون يفقهون حديثًا‏}‏‏.‏

ومن المضارع يوم التناد ‏{‏يوم تولون مدبرين‏}‏‏.‏

ومن المقتضب في قلوبهم مرض‏.‏

ومن المجتث ‏{‏نبأ عبادي أني أنا الغفور الرحيم‏}‏ ومن المتقارب ‏{‏وأملي لهم أن كيدي متين‏}‏‏.‏

الادماج‏:‏ قال ابن أبي الأصبع‏:‏ هوأن يدمج المتكلم غرضًا في غرض أوبديعًا في بديع بحيث لا يظهر في الكلام إلا أحد الغرضين أوأحد البديعين كقوله تعالى وله الحمد في الأولى والآخرة أدمجت المبالغة في المطابقة لأن انفراده تعالى بالحمد في الآخرة وهي الوقت الذي لا يحمد فيه سواه مبالغة في الوقت بالإنفراد بالحمد وهووإن خرج مخرج المبالغة في الظاهر فالأمر فيه حقيقة في الباطن فإنه رب الحمد والمنفرد به في الدارين أه‏.‏

قلت‏:‏ والأولى يقال في هذه الآية أنها من إدماج غرض في غرض فإن الغرض منها تفرده تعالى بوصف الحمد وأدمج فيه الإشارة إلى البعث والجزاء‏.‏

الافتنان‏:‏ هو الإتيان في كلام بفنين مختلفين كالجمع بين الفخر والتعزية وفي قوله تعالى كل من عليها فان ويقي وجه ربك ذوالجلال والإكرام فإنه تعالى عز جميع المخلوقات من الإنس والجن والملائكة وسائر أصناف ما هوقابل للحياة وتمدح بالبقاء بعد فناء الموجودات في عشر لفظات مع وصفة ذاته بعد انفراده بالبقاء والجلال والإكرام سبحانه وتعالى ومنه ‏{‏ثم ننجي الذين اتقوا‏}‏ الآية جمع فيها بين هناء وعزاء‏.‏

الاقتدار‏:‏ هوأن يبرز المتكلم المعنى الواحد في عدة صور اقتدارًا منه على نظم الكلام وتركيبه على صياغة قوالب المعاني والأغراض فتارة يأتي به في لفظ الاستعارة وتارة في سورة الإرداف وحينًا في مخرج الإيجاز ومرة في قالب الحقيقة‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ وعلى هذا أتى جميع قصص القرآن فإنك ترى في الصفة الواحدة التي لا تختلف معانيها تأتي في صورة مختلفة وقوالب من الألفاظ متعددة حتى لا تكاد تشتبه في موضعين منه ولا بد أن تجد الفرق بين صورها ظاهرًا‏.‏

ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى‏.‏

الأول‏:‏ أن تكون الألفاظ يلائم بعضها بعضًا بأن يقرن الغريب بمثله والمتداول بمثله رعاية لحسن الجوار والمناسبة‏.‏

والثاني‏:‏ أن تكون ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد وإن كان فخمًا كانت ألفاظه مفخمة أوجزلًا فجزلة أوغريبًا فغريبة أومتداولًا فمتداولة أومتوسطًا بين الغرابة والاستعمال فكذلك‏.‏

فالأول كقوله تعالى تالله تفتؤ تذكر يوسف حتى تكون حرضًا أتى بأغرب ألفاظ القسم وهي التاء فإنها أقل استعمالًا وأبعد من إفهام العامة بالنسبة إلى الباء والواو وبأغرب صيغ الأفعال التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار فإن تزال أقرب إلى الإفهام وأكثر استعمالًا منها وبأغرب الألفاظ الهلاك وهوالحرض فاقتضى حسن الوضع في النظم أن تجاوز كل لفظة بلفظة من جنسها في الغرابة توخيًا لحسن الجوار ورعاية في ائتلاف المعاني بالألفاظ ولتتعادل الألفاظ في الوضع وتتناسب في النظم‏.‏

ولما أراد غير ذلك قال ‏{‏وأقسموا بالله جهد إيمانهم‏}‏ فأتى بجميع الألفاظ متداولة لا غرابة فيها‏.‏ومن الثاني قوله تعالى ‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار‏}‏ لما كان الركون إلى الظالم وهوالميل إليه والاعتماد عليه دون مشاركته في الظلم وجب أن يكون العقاب عليه دون العقاب على الظلم فأتى بلفظ المس الذي هودون الإحراق والإصطلاء‏.‏

وقوله ‏{‏لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت‏}‏ أتى بلفظ الاكتساب المشعر بالكلفة والمبالغة في جانب السيئة لثقلها وكذا قوله ‏{‏فكبكبوا فيها‏}‏ فإنه أبلغ من كبوا للإشارة إلى أنهم مكبون كبًا عنيفًا فظيعًا وهم يصطرخون فإنه أبلغ ممن يصرخون للإشارة إلى أنهم يصرخون صراخًا منكرًا خارجًا عن الحد المعتاد وأخذ عزيز مقتدر فإنه أبلغ من قادر للإشارة إلى زيادة التمكن في القدرة وأنه لورد له ولا معقب ومثل ذلك واصطبر فإنه أبلغ من أصبر والرحمن فإنه أبلغ من الرحيم فإنه يشعر باللطف والرفق كما أن الرحمن يشعر بالفخامة والعظمة‏.‏

ومنه الفرق بين سقى وأسقى فإنه سقى لما لا كلفة معه في السقيا ولهذا أورده تعالى في شراب الجنة فقال ‏{‏وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا‏}‏ وأسقى لما فيه كلفة ولهذا أورده في شراب الدنيا فقال ‏{‏وأسقيناكم ماء فراتًا‏}‏ ‏{‏لأسقيناهم ماء غدقًا‏}‏ لأن السقيا في الدنيا لا تخلومن الكلفة أبدًا‏.‏

الاستدراك والاستثناء شرط كونهما من البديع أن يتضمنا ضربًا من المحاسن زائدًا على ما يدل عليه المعنى اللغوي‏.‏

مثال الاستدراك ‏{‏قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا‏}‏ فإنه لواقتصر على قوله لم تؤمنوا لكان منفردًا لهم لأنهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقاد إيمانًا فأوجبت البلاغة ذكر الاستدراك ليعلم أن الإيمان موافقة القلب اللسان إن إنفراد اللسان بذلك يسمى إسلامًا ولا يسمى إيمانًا وزاد ذلك إيضاحًا بقوله ‏{‏ولما يدخل الإيمان في قلوبكم فلما تضمن الاستدراك إيضاح ما عليه ظاهر الكلام من الأشكال عد من المحاسن‏.‏

ومثال الاستثناء فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا فإن الإخبار عن هذه المدة بهذه الصيغة يمهد عذر نوح في دعائه على قومه بدعوة أهلكتهم عن آخرهم إذا لوقيل فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عامًا لم يكن فيه من التهويل ما في الأول لأن لفظ الألف من الأول أول ما يطرق السمع فيشتغل بها عن سماع بقية الكلام وإذا جاء الاستثناء لم يبق له بعدها ما تقدمه وقع يزيل ما حصل عنده من ذكر الألف‏.‏

الاقتصاص‏:‏ ذكره ابن فارس وهوأن يكون كلام في سورة مقتصًا من كلام في سورة أخرى أوفي تلك السورة كقوله تعالى ‏{‏وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ والآخرة دار ثواب لا عمل فيها فهذا مقتص من قوله تعالى ‏{‏من يأته مؤمنًا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى‏}‏ ومنه ‏{‏ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين‏}‏ مأخوذًا من قولهم ‏{‏فأولئك في العذاب محضرون‏}‏ وقوله ‏{‏ويوم يقوم الأشهاد‏}‏ مقتص من أربع آيات لأن الأشهاد أربعة‏:‏ الملائكة في قوله ‏{‏وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد‏}‏ والأنبياء في قوله ‏{‏فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا‏}‏ وأمة محمد في قوله ‏{‏لتكونوا شهداء على الناس‏}‏ والأعضاء في قوله ‏{‏يوم تشهد عليهم ألسنتهم‏}‏ الآية‏.‏

وقوله ويوم التناد قرئ مخففًا ومشددًا فالأول مأخوذ من قوله ‏{‏ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار‏}‏ والثاني من قوله ‏{‏يوم يفر المرء من أخيه‏}‏‏.‏

الإبدال‏:‏ هوإقامة بعض الحروف مقام بعض وجعل منه ابن فارس فانفلق‏:‏ أي انفرق ولهذا قال فكان كل فرق فالراء واللام متعاقبان‏.‏

وعن الخليل في قوله تعالى ‏{‏فجاسوا خلال الديار‏}‏ أنه أريد فجاسوا فجاءت الجيم مقام الحاء وقد قرئ بالحاء أيضًا وجعل منه الفارسي أي أحببت حب الخير أي الخيل وجعل منه أبوعبيدة ‏{‏إلا مكاء وتصدية‏}‏‏.‏

تأكيد المدح بما يشبه الذم‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ هوغاية العزة في القرآن‏.‏

قال‏:‏ ولم أجد منه في القرآن إلا آية واحدة وهي قوله ‏{‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أنا آمنا بالله‏}‏ الآية فإن الاستثناء بعد الاستفهام الخارج مخرج التوبيخ على ما عابوا به المؤمنين من الإيمان يوهم أن ما يأتي بعده مما يوجب أن ينتقم على فاعله مما يذم فلما أتى بعد الاستثناء بما يوجب مدح فاعله كان الكلام متضمنًا تأكيد المدح بما يشبه الذم‏.‏

قلت‏:‏ ونظيرها قوله ‏{‏وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله‏}‏ وقوله ‏{‏الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله‏}‏ فإن ظاهر الاستثناء أن ما بعده حق يقتضي الإخراج فلما كان صفة مدح يقتضي الإكرام لا الإخراج كان تأكيدًا للمدح بما يشبه الذم وجعل منه التنوخي في الأقصى القريب ‏{‏لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا إلا قيلًا سلامًا سلامًا‏}‏ استثنى سلامًا سلامًا الذي هوضد اللغووالتأثيم فكان ذلك مؤكدًا لانتفاء اللغووالتأثيم انتهى‏.‏التفويت‏:‏ هوإتيان المتكلم بمعان شتى من المدح والوصف وغير ذلك من الفنون كل فن في جملة منفصلة عن أختها مع تساوي الجمل في الزنة وتكون في الجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة‏.‏

فمن الطويلة ‏{‏الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين‏}‏ ومن المبسوطة ‏{‏يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏}‏ قال ابن أبي الأصبع‏:‏ ولم يأت المركب من القصيرة في القرآن‏.‏

التقسيم‏:‏ هواستيفاء أقسام الشيء الموجودة إلا الممكنة عقلًا نحو ‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفًا وطمعًا‏}‏ إذ ليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار ولا ثالث لهذين القسمين‏.‏

وقول ‏{‏فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏}‏ فإن العالم لا يخلومن هذه الأقسام الثلاثة‏:‏ إما عاص ظالم لنفسه وإما سابق مبادر للخيرات وإما متوسط بينهما مقتصد فيها ونظيرها كنتم أزواجًا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة والسابقون السابقون وكذا قوله تعالى وله ما بين أيدينا وما بين خلفنا وبين ذلك استوفى أقسام الزمان ولا رابع لها‏.‏

وقوله ‏{‏والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع‏}‏ استوفي أقسام الخلق في المشي‏.‏

وقوله ‏{‏الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم‏}‏ استوفى جميع هيئات الذاكر

وقوله ‏{‏يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا‏}‏ استوفي جميع أحوال المتزوجين ولا خامس لها‏.‏

التدبيج‏:‏ هوأن يذكر المتكلم ألوانًا يقصد التورية بها والكناية‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ كقوله تعالى ‏{‏ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود‏}‏ قال‏:‏ المراد بذلك والله أعلم الكناية عن المتشبه والواضح من الطرق لأن الجادة البيضاء هي الطريق التي كثر السلوك عليها جدًا وهي أوضح الطرق وأبينها ودونها الحمراء ودون الحمراء السوداء كأنها في الخفاء والالتباس ضد البيضاء في الظهور والوضوح‏.‏

ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة فالطرف الأعلى في الظهور البيضاء والطرف الأدنى في الخفاء السواد والأحمر بينهما على وضع الألوان في التركيب وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة والهداية بكل علم نصب للهداية منقسمة هذه القسمة أتت الآية الكريمة منقسمة كذلك فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم‏.‏

التنكيت‏:‏ هوأن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه كقوله تعالى ‏{‏وإنه هو رب الشعرى‏}‏ خص الشعري بالذكر دون غيرها من النجوم وهوتعالى رب كل شيء لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعري ودعا خلقه إلى عبادتها فأنزل الله تعالى وإنه هورب الشعري التي ادعيت فيها الربوبية‏.‏

التجريد‏:‏ هوأ ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة في كمالها فيه نحو‏:‏ لي من فلان صديق حميم جرد من الرجل الصديق آخر مثله متصفًا بصفة الصداقة نحو‏:‏ ومررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة جردوا من الرجل الكريم‏.‏

آخر مثله متصفًا بصفة البركة وعطفوه عليه كأنه غيره وهوهو‏.‏

ومن أمثلته في القرآن لهم فيها دار الخلد ليس المعنى أن الجنة فيها دار الخلد وغير دار خلد بل هي نفسها دار الخلد فكأنه جرد من الدار دارًا ذكره في المحتسب‏.‏

وجعل منه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏.‏

على أن المراد بالميت النطفة‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ وقرأ عبيد بن عمير فكانت وردة كالهان بالرفع بمعنى حصلت منها وردة‏.‏

قال‏:‏ وهومن التجريد‏.‏

وقرئ أيضًا يرثني وارث من آل يعقوب قال ابن جني‏:‏ هذا هو التجريد وذلك أنه يريد وهب لي من لدنك وليًا يرثني وارث من آل يعقوب وهوالوارث نفسه فكأنه جرد منه وارثًا‏.‏التعديد‏:‏ هوإيقاع الألفاظ المفردة على سياق واحد وأكثر ما يوجد في الصفات كقوله ‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر‏}‏ وقوله ‏{‏التائبون العابدون الحامدون‏}‏ الآية وقوله ‏{‏مسلمات مؤمنات‏}‏ الآية‏.‏

الترتيب هوأ يورد أوصاف الموصوف على ترتيبها في الخلقة الطبيعية ولا يدخل فيها وصفًا زائدًا ومثله عند الباقي اليمني بقوله ‏{‏هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلًا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخًا‏}‏ وبقوله ‏{‏فكذبوه فعقروها‏}‏ الآية‏.‏

الترقي والتدلي‏:‏ تقدما في نوع التقديم والتأخير‏.‏

التضمين‏:‏ يطلق على أشياء‏.‏

أحدها‏:‏ إيقاع لفظ موقع غيره لتضمنه معناه وهونوع من المجاز تقدم فيه‏.‏

الثاني‏:‏ حصول معنى فيه من غير ذكر له باسم هوعبارة عنه وهذا نوع من الإيجاز تقدم أيضًا‏.‏

الثالث‏:‏ تعلق ما بعد الفاصلة بها وهذا مذكور في نوع الفواصل‏.‏الرابع‏:‏ إدراج كلام الغير في أثناء الكلام لقصد تأكيد المعنى أوترتيب النظم وهذا هو النوع البديعي‏.‏

قال بن أبي الأصبع‏:‏ ولم أظفر في القرآن بشيء منه إلا في موضعين تضمنا فصلين من التوراة والإنجيل‏:‏ قوله ‏{‏وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس‏}‏ الآية وقوله ‏{‏محمد رسول الله‏}‏ الآية ومثله ابن النقيب وغيره بإيداع حكايات المخلوقين في القرآن كقوله تعالى حكاية عن الملائكة تجعل فيها من يفسد فيها وعن المنافقين أنؤمن كما آمن السفهاء وقالت اليهود وقالت النصارى قال‏:‏ وكذلك ما أودع فيه من اللغات الأعجمية‏.‏

الجناس‏:‏ هوتشابه اللفظين في اللفظ‏.‏

قال في كنز البراعة‏:‏ وفائدته الميل إلى الإصغاء إليه فإن مناسبة الألفاظ تحدث ميلًا وإصغاء إليها ولأن اللفظ المشترك إذا حمل على معنى ثم جاء والمراد به آخر كان للنفس تشوق إليه‏.‏

وأنواع الجناس كثيرة‏.‏

منها‏:‏ التام بأن يتفقا بأنواع الحروف وأعدادها وهيئاتها كقوله تعالى ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة قيل ولم يقع منه في القرآن سواه‏.‏

واستنبط شيخ الإسلام ابن حجر موضعًا آخر وهو يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل النهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار وأنكر بعضهم كون الآية الأولى من الجناس‏.‏

وقال‏:‏ الساعة في الموضعين بمعنى واحد والتجنيس‏:‏ أن يتفق الفظ ويختلف المعنى ولا يكون أحدهما حقيقة والآخر مجازًا بل يكونا حقيقيتين وزمان القيامة وإن طال لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة فإطلاق الساعة على القيامة مجاز وعلى الآخرة حقيقة وبذلك يخرج الكلام عن التجنيس كما لوقلت ركبت حمارًا ولقيت حمارًا‏.‏

تعني بليدًا‏.‏

ومنها‏:‏ المصحف ويسمى جناس الخط بأن تختلف الحروف في النقط كقوله ‏{‏والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين}

ومنها‏:‏ المحرف بأن يقع الاختلاف في الحركات كقوله ‏{‏ولقد أرسلنا فيهم منذرين فانظر كيف كان عاقبة المنذرين‏}‏ وقد اجتمع التصحيف والتحريف في قوله ‏{‏وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ النقص بأن يختلف في عدد الحروف سواء كان الحرف المزيد أولًا أووسطًا أوآخرًا كقوله ‏{‏والتفت الساق بالساق إلى ربك يومئذ الساق‏}‏ كلي من كل الثمرات ومنها‏:‏ المذيل بأن يزيد أحدهما أكثر من حرف في الآخر أوالأول وسمى بعضهم الثاني بالمتوج كقوله ‏{‏وانظر إلى إلهك‏}‏ ‏{‏ولكنا كنا مرسلين‏}‏ ‏{‏من آمن بالله‏}‏ ‏{‏إن ربهم بهم‏}‏ ‏{‏مذبذبين بين ذلك‏}‏ ‏.‏

ومنها‏:‏ المضارع وهوأ يختلفا بحرف مقارب في المخرج سواء كان في الأولى أوالوسط أوالآخر كقوله تعالى ‏{‏وهم ينهون عنه وينأون عنه‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ اللاحق بأن يختلفا بحرف غير مقارب فيه كذلك كقوله ‏{‏ويل لكل همزة لمزة‏}‏ وإنه على ذلك ليشهد وإنه لحب الخير لشديد ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون وإذا جاءهم أمر من الأمن‏.‏

ومنها‏:‏ المرفق وهوما تركب من كلمة وبعض أخرى كقوله ‏{‏جرف هار فانهار‏}‏‏.‏

ومنها‏:‏ اللفظي بأن يختلفا بحرف مناسب للآخر مناسبة لفظية كالضاد والظاء كقوله ‏{‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ‏.‏

ومنها‏:‏ تجنيس القلب بأن يختلفا في ترتيب الحروف نحو‏:‏ فرقت بين بني إسرائيل‏.‏

ومنها‏:‏ تجنيس الاشتقاق بأن يجتمعا في أصل الاشتقاق ويسمى المقتضب نحو فروح وريحان فأقم وجهك للدين القيم وجهت وجهي‏.‏

ومنها‏:‏ تجنيس الإطلاق بأن يجتمعا في المشابهة فقط كقوله ‏{‏وجنى الجنتين‏}‏ قال إني لعملكم من القالين ‏{‏ليريه كيف يواري‏}‏ ‏{‏وإن يردك بخير فلا راد‏}‏ ‏{‏اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم‏}‏ ‏{‏وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض‏}‏ إلى قوله ‏{‏فذو دعاء عريض‏}‏‏.‏

تنبيه لكون الجناس من المحاسن اللفظية لا المعنوية ترك عند قوة المعنى كقوله تعالى ‏{‏وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين‏}‏ قيل ما الحكمة في كونه لم يقل وما أنت بمصدق فإنه يؤدي معناه مع رعاية التجنيس وأجيب بأن في مؤمن لبا من المعنى ليس في مصدق لأن معنى قولك فلان مصدق لي قال لي صدقت وأما مؤمن معناه مع رعاية التصديق إعطاء الأمن ومقصودهم التصديق وزيادة وهوطلب الأمن فلذلك عبر به‏.‏

وقد زل بعض الأدباء فقال في قوله ‏{‏أتدعون بعلًا وتذرون أحسن الخالقين‏}‏ لوقال‏:‏ وتدعون لكان في مراعاة التجنيس‏.‏

وأجاب الإمام فخر الدين بأن فصاحة القرآن ليست لرعاية هذه التكلفات بل لأجل قوة المعاني وجزالة الألفاظ وأجاب غيره بأن مراعاة المعاني أولى من مراعاة الألفاظ ولوقال أتدعون وتدعون لوقع الالتباس على القارئ فيجعلهما بمعنى واحد تصحيفًا وهذا الجواب غير ناضج‏.‏

وأجاب ابن الزملكاني بأن التجنيس تحسين وإنما يستعمل في مقام الوعد والإحسان لا في مقام التهويل‏.‏

وأجاب الخويبي بأن تدع أخص من تذر بمعنى ترك الشيء مع اعتنائه بشهادة الاشتقاق نحوالإيداع فإنه عبارة عن ترك الوديعة مع الاعتناء بحالها ولهذا يختار لها من هومؤتمن عليها ومن ذلك الدعة بمعنى الراحة وأما تذر فمعناه الترك مطلقًا أوالترك مع الإعراض والرفض الكلي‏.‏

قال الراغب‏:‏ يقال فلان يذر الشيء أي يقذفه لقلة الاعتداد به ومنه الوزرة‏:‏ قطعة من اللحم لقلة الاعتداد به ولا شك أن السياق إنما يناسب هذا دون الأول فأريد هنا تبشيع حالهم في الإعراض عن ربهم وأنهم بلغوا الغاية في الإعراض انتهى‏.‏

الجمع‏:‏ هوأن يجمع بين شيئين أوأشياء متعددة في حكم كقوله تعالى المال والبنون زينة الحياة الدنيا جمع المال والبنون في الزينة وكذا قوله ‏{‏والشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان‏.‏

الجمع والتفريق‏:‏ هوأن تدخل شيئين في معنى وتتفرق بين جهتي الإدخال وجعل منه الطيبي قوله ‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها‏}‏ الآية جمع النفسين في حكم التوفي ثم فرق بين جهتي التوفي بالحكم بالإمساك والإرسال‏:‏ أي الله يتوفى الأنفس التي تقبض والتي لم تقبض فيمسك الأولى ويرسل الأخرى‏.‏

الجمع والتقسيم‏:‏ وهوجمع متعدد تحت حكم ثم تقسيمه كقوله تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات‏.‏

الجمع مع التفريق والتقسيم كقوله تعالى ‏{‏يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه‏}‏ الآيات فالجمع في قوله ‏{‏لا تكلم نفس إلا بإذنه‏}‏ لأنها متعددة معنى إذ النكرة في سياق النفي تعم‏.‏والتفريق قوله ‏{‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏ والتقسيم قوله ‏{‏فأما الذين شقوا‏}‏ ‏{‏وأما الذين سعدوا‏}‏‏.‏

جمع المؤتلف والمختلف‏:‏ هوأن تريد التسوية بين الزوجين فتأتي بمعان مؤتلفة في مدحها وتروم بعد ذلك ترجيح أحدهما على الآخر بزيادة فضل لا تنقص الآخر فتأتي لأجل ذلك بمعان تخالف معنى التسوية كقوله تعالى ‏{‏وداود وسليمان إذ يحكمان‏}‏ الآية سوى في الحكم والعلم وزاد فضل سليمان بالفهم‏.‏

حسن النسق‏:‏ هوأن يأتي المتكلم بكلمات متتاليات معطوفات متلاحمات تلاحمًا سليمًا مستحسنًا بحيث إذا أفردت كل جملة منه قامت بنفسها واستقل معناها بلفظها ومنه قوله تعالى ‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك‏}‏ الآية فإن جملة معطوف بعضها على بعض بواوالنسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة من الابتداء بالاسم الذي هوانحسار الماء عن الأرض المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة من الإطلاق من سجنها ثم انقطاع مادة السماء المتوقف عليه تمام ذلك من دفع أذاه بعد الخروج

ومنه اختلاف ما كان بالأرض ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقطاع المادتين الذي هومتأخر عنه قطعًا ثم بقضاء الأمر الذي هوهلاك من قدر هلاكه ونجاة من سبق نجاته وأخر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم منها وخروجهم موقوف على ما تقدم ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهابه الخوف وحصول الأمن من الاضطراب ثم ختم بالدعاء على الظالمين فلإفادة أن الغرق وإن عم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه‏.‏

عتاب المرء نفسه منه ‏{‏ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني‏}‏ آيات وقوله ‏{‏أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله‏}‏ الآيات‏.‏

العكس‏:‏ هوأن يؤتى بكلام يقدم فيه جزء ويؤخر آخر ثم يقدم المؤخر ويؤخر المقدم كقوله تعالى ‏{‏ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء‏}‏ ‏{‏يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي‏}‏ ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏ ‏{‏لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ وقد سئل عن الحكمة في عكس هذا اللفظ فأجاب ابن المنير بأن فائدته الإشارة إلى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة‏.‏

وقال الشيخ بدر الدين بن الصاحب‏:‏ الحق أن كل واحد من فعل المؤمنة والكافر منفي عنه الحل أما فعل المؤمنة فيحرم لأنها مخاطبة وأما فعل الكافر فنفي عنه الحل باعتبار أن هذا الوطء مشتمل على المفسدة فليس الكفار مورد الخطاب بل الأئمة ومن قام مقامهم مخاطبون بمنع ذلك لأن الشرع أمر بإخلاء الوجود من المفاسد فاتضح أن المؤمنة نفى عنها الحل باعتبار والكافر نفى عنه الحل باعتبار‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ ومن غريب أسلوب هذا النوع قوله تعالى ومن يمل من الصالحات من ذكر أوأنثى وهومؤمن ‏{‏فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرًا‏}‏ ‏{‏ومن احسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن‏}‏ فإن نظم الآية الثانية عكس نظم الأولى لتقديم العمل في الأولى على الإيمان وتأخيره في الثانية عن الإسلام‏.‏

ومنه نوع يسمي القلب والمقلوب المستوي وما لا يستحيل بالانعكاس وهوا تقرأ الكلمة من آخرها إلى أولها كما تقرأ من أولها إلى آخرها كقوله تعالى كل في فلك وربك فكبر ولا ثالث لهما في القرآن‏.‏

العنوان‏:‏ قال ابن أبي الأصبع‏:‏ هوأن يأخذ المتكلم في عرض فيأتي لقصد تكميله وتأكيده بأمثلة في ألفاظ تكون عنوانًا لأخبار متقدمة وقصص سالفة‏.‏

ومنه نوع عظيم جدًا وهوعنوان العلوم بأن يذكر في الكلام ألفاظًا تكون مفاتيح العلوم ومداخل لها من الأول قوله تعالى ‏{‏واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها‏}‏ الآية فإنه عنوان قصة بلعام‏.‏

ومن الثاني قوله تعالى ‏{‏أنطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب‏}‏ الآية فيها عنوان علم الهندسة فإن الشكل المثلث أول الأشكال وإذا نصب في الشمس على أي ضلع من أضلاعه لا يكون له ظل لتحديد رؤوس زواياه فأمر الله تعالى أهل جهنم بالانطلاق إلى ظل هذا الشكل تهكمًا بهم‏.‏

وقوله ‏{‏وكذلك نرى إبراهيم ملكوت‏}‏ الفرائد‏:‏ هومختص بالفصاحة دون البلاغة لأنه الإتيان بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من العقد وهي الجوهرة التي لا نظير لها تدل على عظم فصاحة هذا الكلام وقوة عارضته وجزالة منطقه وأصالة عربيته بحيث لوأسقطت من الكلام عزت على الفصحاء‏.‏

ومنه لفظ حصحص في قوله ‏{‏الآن حصحص الحق‏}‏ والرفث في قوله ‏{‏أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم‏}‏ ولفظة فزع في قوله ‏{‏حتى إذا فزع عن قلوبهم‏}‏ وخائنة الأعين في قوله ‏{‏يعلم خائنة الأعين‏}‏ وألفاظ قوله ‏{‏فلما استيأسوا منه خلصوا نجيًا وقوله ‏{‏فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين‏}‏‏.‏

القسم‏:‏ هوا يريد المتكلم الحلف على شيء فيحلف بما يكون فيه فخر له أوتعظيم لشأنه أوتنويه لقدره أوذم لغيره أوجاريًا مجرى الغزل الرقيق أوخارجًا مخرج الموعظة والزهد كقوله ‏{‏فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون أقسم سبحانه وتعالى بقسم فوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة وأجل عظمة

‏{‏لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون‏}‏ أقسم سبحانه وتعالى بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم تعظيمًا لشأنه وتنويهًا بقدره‏.‏

وسيأتي في نوع الإقسام أشياء تتعلق بذلك‏.‏

اللف والنشر‏:‏ هوأن يذكر شيئان أوأشياء إما تفصيلًا بالنص على كل واحد أوإجمالًا بأن يؤتى بلفظ يشتمل على متعدد ثم يذكر أشياء على عدد ذلك كل واحد يرجع إلى واحد من المتقدم ويفوض إلى عقل السامع رد كل واحد إلى ما يليق به فالإجمالي كقوله تعالى ‏{‏وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى‏}‏ أي وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا اليهود وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا النصارى وإنما سوغ الإجمال في اللف ثبوت العناد بين اليهود والنصارى فلا يمكن أن يقول أحد الفريقي بدخول الفريق الآخر الجنة فوثق بالعقل في أنه يرد كل قول إلى فريقه لأمن اللبس وقائل ذلك يهود المدينة ونصارى نجران‏.‏

قلت‏:‏ وقد يكون الإجمال في النشر لا في الملف بأن يؤتى بمتعدد ثم بلفظ يشتمل على متعدد يصلح لهما نحو ‏{‏حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر‏}‏ على قول أبي عبيدة أن الخيط الأسود أريد به الفجر الكاذب لا الليل وقد بينته في أسرار التنزيل‏.‏

والتفصيلي قسمان‏:‏ أحدهما أن يكون على ترتيب اللف كقوله تعالى جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله فالسكون راجع إلى الليل والابتغاء راجع إلى النهار‏.‏

وقوله تعالى ‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا‏}‏ فللوم راجع إلى البخل ومحسورًا راجع إلى الإسراف لأن معناه منقطعًا لا شيء عندك‏.‏

وقوله ‏{‏ألم يجدك يتيمًا‏}‏ الآيات فإن قوله ‏{‏فأما اليتيم فلا تقهر‏}‏ راجع إلى قوله ‏{‏ألم يجدك يتيمًا فآوى‏}‏ ‏{‏وأما السائل فلا تنهر‏}‏ راجع إلى قوله ‏{‏ووجدك ضالًا‏}‏ فإن المراد السائل عن العلم كمات فسره مجاهد وغيره وأما بنعمة ربك فحدث راجع إلى قوله ‏{‏ووجدك عائلًا فأغنى‏}‏ رأيت هذا المثال في شرح الوسيط للنووي المسمى بالتنقيح‏.‏

والثاني أن يكون على عكس ترتيبه كقوله تعالى ‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم‏}‏ الخ وجعل منه جماعة قوله تعالى ‏{‏حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب‏}‏ قالوا متى نصر الله قول الذين آمنوا ‏{‏ألا إن نصر الله قريب‏}‏ قول الرسول‏:‏ وذكر الزمخشري له قسمًا آخر كقوله تعالى ‏{‏ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله‏}‏ قال‏:‏ هذا من باب اللف وتقديره ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار إلا أنه فصل بين منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار لأنهما زمانان والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إقامة اللف على الاتحاد‏.‏

المشاكلة‏:‏ ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته تحقيقًا أوتقديرًا فالأول كقوله تعالى تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ‏{‏ومكروا ومكر الله‏}‏ فإن إطلاق النفس والمكر في جانب الباري تعالى لمشاكلة ما معه وكذا قوله ‏{‏وجزاء سيئة سيئة مثلها لأن الجزاء حق لا يوصف بأنه سيئة من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه فاليوم ننساكم كما نسيتم ويسخرون منهم سخر الله منهم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ومثال التقدير قوله تعالى صبغة الله أي تطهير الله لأن الإيمان يطهر النفوس والأصل فيه أن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر المزاوجة‏:‏ أن يزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء أوما جرى مجراهما كقوله‏:‏ إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى أصاخت إلي الواشي فلج بها الهجر ومنه في القرآن آتيناه آيتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين‏.‏

المبالغة‏:‏ أن يذكر المتكلم وصفًا فيزيد فيه حتى يكون أبلغ في المعنى الذي قصده‏.‏

وهي ضربان‏:‏ مبالغة في الوصف بأن يخرج إلى حد الاستحالة ومنها يكاد زيتها يضيء ولولم تمسه بار ‏{‏ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط‏}‏‏.‏

ومبالغة بالصيغة‏.‏

وصيغ المبالغة فعلان كالرحمن وفعيل كالرحيم وفعال كالتواب والغفار والقهار وفعول كغفور وشكور وودود وفعل كحذر وأشر وفرح وفعال بالتخفيف كعجاب وبالتشديد ككبار وفعل كلبد وكبر وفعلى كالعليا والحسنى وشورى والسوأى‏.‏

فائدة الأكثر على أن فعلان أبلغ من فعيل ومن ثم قال الرحمن أبلغ من الرحيم‏.‏

ونصره السهيلي بأنه ورد على صيغة التثنية والتثنية تضعيف فكأن البناء تصافعت فيه الصفة‏.‏

وذهب ابن الأنباري إلى أن الرحيم أبلغ من الرحمن ورجحه ابن عسكر بتقديم الرحمن عليه وبأنه جاء على صيغة الجمع كعبيد وهوأبلغ من صيغة التثنية‏.‏

وذهب قطرب إلى أنهما سواء‏.‏فائدة ذكر البرهان الرشيد وأن صفات الله التي على صيغة المبالغة كلها مجاز لأنها موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة إن ثبتت للشيء أكثر مما له وصفاته تعالى متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها وأيضًا فالمبالغة تكون في صفات تقبل الزيادة أوالنقصان وصفات الله منزهة عن ذلك‏.‏وستحسنه الشيخ تقي الدين السبكي‏.‏

وقال الزركشي في البرهان‏:‏ التحقيق أن صيغ المبالغة قسمان‏.‏

أحدها‏:‏ ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل‏.‏

والثاني‏:‏ بحسب تعدد المفعولات‏.‏

ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين وعلى هذا القسم تنزل صفاته تعالى ويرتفع الإشكال ولهذا قال بعضهم في حكيم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع‏.‏

وقال في الكشاف‏:‏ المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من يتوب عليه من عباده أولأنه بليغ في قبول التوبة نزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه‏.‏وقد أورد بعض الفضلاء سؤالًا على قوله ‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏ وهوأن قديرًا من صبغ المبالغة فيستلزم الزيادة على معنى قادر والزيادة على معنى قادر محال إذا الإيجاد من واحد لا يمكن فيه التفاضل باعتبار كل فرد فرد‏.‏

وأجيب بأن المبالغة لما تعذر حملها عن كل فرد وجب صرفها إلى مجموع الإفراد التي دل السياق عليها فهي بالنسبة إلى كثرة المتعلق لا الوصف‏.‏

المطابقة‏.‏

وتسمى الطباق‏:‏ الجمع بين متضادين في الجملة وهوقسمان‏:‏ حقيقي ومجازي‏:‏ والثاني يسمى التكافؤ وكل منهما إما لفظي أومعنوي وإما طباق إيجاب أوسلب فمن أمثلة ذلك ‏{‏فليضحكوا قليلًا وليبكوا كثيرًا‏}‏{‏وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا‏}‏ ‏{‏لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم‏}‏{‏وتحسبهم أيقاظًا وهم رقود‏}‏‏.‏

ومن أمثلة المجازي ‏{‏أو من كان ميتًا فأحييناه‏}‏ أي ضالًا فهديناه ومن أمثلة طباق السلب ‏{‏تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك‏}‏ ‏{‏فلا تخشوا الناس واخشون‏}‏‏.‏

ومن أمثلة المعنوي ‏{‏إن أنتم إلا تكذبون‏}‏ ‏{‏قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون‏}‏ معناه‏:‏ ربنا يعلم إنا لصادقون ‏{‏جعل لكم الأرض فراشًا والسماء بناء‏}‏ قال أبوعلي الفارسي‏:‏ لما كان البناء رفعًا للمبنى قوبل بالفراش الذي هوعلى خلاف البناء‏.‏ومنه نوع يسمى الطباق الخفي كقوله ‏{‏مما خطيئاتهم أغرقوا فادخلوا نارًا‏}‏ لأن الغرق من صفات الماء فكأنه جمع بين الماء والنار‏.‏

قال ابن منقذ‏:‏ وهي أخفى مطابقة في القرآن‏.‏

وقال ابن المعتز‏:‏ من أملح الطباق وأخفاه قوله تعالى ولكم في القصاص حياة لأن معنى القصاص القتل فصار القتل سبب الحياة‏.‏

ومنه نوع يسمى ترصيع الكلام وهواقتران الشيء بنما يجتمع معه في قدر مشترك كقوله ‏{‏إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى‏}‏ أتى بالجوع مع العري وبابه أن يكون مع الظمأ وبالضحى مع الظمأ وبابها أن يكون مع العري لكن الجوع والعري اشتركا في الخلو فالجوع خلوالباطن من الطعام والعري خلوالظاهر من اللباس والظمأ والضحى اشتركا في الاحتراق فالظمأ احتراق الباطن من العطش والضحى احتراق الظاهر من حر الشمس‏.‏

ومنه نوع يسمى المقابلة وهي أن يذكر لفظان فأكثر ثم أضدادهما على الترتيب‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ والفرق بين الطباق والمقابلة من وجهين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن الطباق لا يكون إلا من ضدين فقط والمقابلة لا تكون إلا بما زاد من الأربعة إلى العشرة‏.‏

والثاني‏:‏ أي الطباق لا يكون إلا بأضداد والمقابلة بالأضداد بغيرها‏.‏

قال السكاكي‏:‏ ومن خواص المقابلة أنه إذا شرط في الأول شرط أمر شرط في الثاني ضده كقوله تعالى فأما من أعطى واتقى الآيتين قابل بين الإعطاء والبخل والاتقاء والاستغناء والتصديق والتكذيب واليسرى والعسرى ولما جعل التيسير في الأول مشتركًا بين الإعطاء والاتقاء والتصديق جعل ضده وهوالتعسير مشتركًا بين أضدادها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ المقابلة إما لواحد بواحد وذلك قليل جدًا كقوله ‏{‏لا تأخذه سنة ولا نوم‏}‏ أواثنين باثنين كقوله ‏{‏فليضحكوا قليلًا وليبكوا كثيرًا‏}‏ وثلاثة بثلاثة كقوله ‏{‏يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث‏}‏ ‏{‏واشكروا لي ولا تكفرون‏}‏ وأربعة بأربعة كقوله ‏{‏فأما من أعطى‏}‏ الآيتين أوخمسة بخمسة كقوله ‏{‏إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما‏}‏ الآيات قابل بين بعوضه فما فوقها وبين فأما الذين آمنوا وأما الذين كفروا وبين يضل ويهدي وبين ينقضون وميثاقه وبين يقطعون وأن يوصل‏.‏

أوستة بستة كقوله ‏{‏زين للناس حب الشهوات‏}‏ الآية ثم قال ‏{‏قل أؤنبئكم‏}‏ الآية قابل الجنات والأنهار والخلد والأزواج والتطهير والرضوان بإزاء النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث‏.‏

وقسم آخر المقابل إلى ثلاثة أنواع‏:‏ نظيري ونقيضي وخلافي‏.‏

مثال الأول مقابلة السنة بالنوم في الآية الأولى فإنهما جميعًا من باب الرقاد المقابل باليقظة في آية وتحسبهم أيقاظًا وهم رقود وهذا مثال الثاني فإنهما نقيضان‏.‏

ومثال الثالث‏:‏ مقابلة الشر بالرشد في قوله ‏{‏إنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدًا فإنهما خلافان لا نقيضان فإن نقيض الشر الخير والرشد ألغي‏.‏

المواربة براء مهملة وباء موحدة‏:‏ أن يقول المتكلم قولًا يتضمن ما ينكر عليه فإذا حصل الإنكار واستحضر بحذقه وجهًا من الوجوه يتلخص به إما بتحريف كلمة أوتصحيفها أوزيادة أونقص‏.‏

قال ابن أبي الأصبع‏:‏ ومنه قوله تعالى حكاية عن أكبر أولاد يعقوب ‏{‏ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق‏}‏ فإنه قرئ أن ابنك سرق ولم يسرق فأتى بالكلام على الصحة بإبدال ضمة من فتحة وتشديد الراء وكسرتها‏.‏

المراجعة‏:‏ قال ابن أبي الأصبع‏:‏ هي أن يحكي المتكلم مراجعة في القول جرت بينه وبين محاور له بأوجز عبارة وأعدل سبك وأعذب ألفاظ ومنه قوله تعالى ‏{‏قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين‏}‏ جمعت هذه القطعة وهي بعض آية ثلاث مراجعات فيها معاني الكلام من الخبر والاستخبار والأمر والنهي والوعد والوعيد بالمنطوق والمفهوم‏.‏

قلت‏:‏ أحسن من هذا أن يقال‏:‏ جمعت الخبر والطلب والإثبات والنفي والتأكيد والحذف والبشارة والنذارة والوعد والوعيد‏.‏

النزاهة‏:‏ هي خلوص ألفاظ الهاء من الفحش حتى يكون كما قال أبوعمر ابن العلاء وقد سئل عن أحسن الهجاء‏:‏ هو الذي إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها ومنه قوله تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ثم قال أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك الظالمون فإن ألفاظ ذم هؤلاء المخبر عنهم بهذا الخبر أتت منزهة عما يقبح في الهجاء من الفحش وسائر هجاء القرآن كذلك‏.‏

الإبداع‏:‏ بالباء الموحدة‏:‏ أ يشتمل الكلام على عدة ضروب من البديع‏.‏قال ابن أبي الأصبع‏:‏ ولم أر في الكلام مثل قوله تعالى يا أرض ابلعي ماءك فإن فيها عشرين ضربًا من البديع وهي سبع عشرة لفظة وذلك المناسبة التامة في ابلعي واقلعي والاستعارة فيهما والطباق بين الأرض والسماء‏.‏

والمجاز في قوله يا سماء فإن الحقيقة يا مطر السماء والإشارة في وغيض الماء فإنه عبر به عن معان كثيرة لأن الماء لا يغيض حتى يقلع مطر السماء وتبلغ الأرض ما يخرج منها من عيون الماء فينقص الحاصل على وجه الأرض من الماء‏.‏

والإرداف في واستوت‏.‏

والتمثيل في وقضى الأمر‏.‏

والتعليل فإن غيض الماء علة الاستواء‏.‏

وصحة التقسيم فإنه استوعب فيه أقسام الماء حالة نقصه إذ ليس إلا احتباس ماء السماء والماء النابع من الأرض وغيض الماء الذي على ظهرها‏.‏

والاحتراس في الدعاء لئلا يتوهم أن الغرق لعمومه يشمل من لا يستحق الهلاك فإن عدله تعالى يمنع أن يدعوعلى غير مستحق‏.‏

وحسن النسق وائتلاف اللفظ مع المعنى والإيجاز فإنه تعالى قص القصة مستوعبة بأخصر عبارة‏.‏

والتسهيم فإن أول الآية يدل على آخرها‏.‏

والتهذيب لأن مفرداتها موصوفة بالصفات الحسن كل لفظة سهلة مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة مع الخلومن البشاعة وعقادة التركيب‏.‏وحسن البيان من جهة أن السامع لا يتوقف في فهم معنى الكلام ولا يشكل عليه شيء منه‏.‏

والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في محلها مطمئنة في مكانها غير قلقة ولا مستدعاة‏.‏

والانسجام هذا ما ذكره بان أبي الأصبع قلت‏:‏ وفيها أيضًا الاعتراض‏.‏

  السابق   الآيات القرآنية   الفهرس   التالي